فى مشهد صادم، قد لا يراه الملايين طيلة حياتهم سوى فى أفلام الأكشن، كان بيتر أر دى فريس، الصحفى الهولندى البارز يقف أمام احد الاستوديوهات التليفزيونية، فى ساحة لايدزبلين المزدحمة بالمارة فى قلب العاصمة الهولندية أمستردام، استعدادا للرحيل بعدما انتهى من تسجيل برنامجه الحواري، فإذا بخمس طلقات نارية تصوب نحوه لتستقر إحداها فى رأسه فيسقط أرضا وسط بركة من الدماء، وسط صراخ بعض المارة وركضهم للفرار من الموقع، بينما تحول البعض الآخر لما يشبه بتماثيل خشبية بعدما أصابتهم حالة من الصدمة والذهول مما يحدث، فلم يدر فى مخيلة أى منهم أن تصل الجرأة بالجناة إلى حد ارتكابهم جريمتهم فى وضح النهار.
لم يثر استهداف دى فريس، الذى بات اسمه ملحقا بالعديد من الألقاب، مثل: «البطل القومى»، «الصحفى الشجاع» وغيرها، غضب وحنق فيليم ألكسندر ملك هولندا، ومارك روتة رئيس الوزراء، وعمدة أمستردام فيمكا هالسما فقط، بل أيضا جميع قادة ورؤساء الدول الأوروبية، الذين أدانوا الحادث ووصفوه بـ «جريمة ضد الصحافة وضربة مأساوية جديدة لحرية الصحافة فى أوروبا».
شهرة مستحقة
اشتهر دى فريس، 64 عاما، الذى يرقد حاليا فى أحد المستشفيات فى حالة حرجة، بعمله على القضايا الشائكة من خلال تحقيقاته الصحفية الاستقصائية المتعلقة بعالم الإجرام، والتى كانت تهز المجتمع الهولندى، فكان التحدى الأكبر لديه هو النجاح فى القيام بما لم يستطع المحققون إنجازه ، وكان شعاره «عندما يستسلم المحققون.. تبدأ مهمتى فى البحث». وقد نجح دى فريس فى التسلل لأوكار عصابات المخدرات والمنظمات الإجرامية وإثبات جرائمهم، مما أدى للقبض على كثير منهم ومحاكمتهم. وقد بدأت شهرة دى فريس منذ أوائل الثمانينيات، وذلك بعدما عمل على واقعة اختطاف رجل الأعمال «فريدى هينيكين» أحد اقطاب صناعة البيرة على أيدى ويلم هولدير، زعيم إحدى العصابات، فى عام 1983، وقد كتب دى فريس تفاصيل الواقعة فى رواية بعنوان «اختطاف فريدى هينيكين» وتحولت فيما بعد لفيلم سينمائى بطولة انتونى هوبكنز. ومن بين أشهر القضايا التى عمل عليها أيضا، إثبات إدانة قاتل الطفل «نيكى فيرستابين»، الذى تعرض للاعتداء الجنسى والقتل، والذى كانت قضيته واحدة من القضايا التى شغلت الرأى العام، كما حصل على جائزة «إيمى» الدولية فى عام 2005 عن برنامج تليفزيونى قدمه عن اختفاء المراهقة الأمريكية ناتالى هولواى فى جزيرة أروبا الكاريبية عام 2005. لا شك أن تلك القضايا منحته شهرة كبيرة، لكنها أيضا زادت من عدد أعدائه . ورغم أنه تم إبلاغ دى فريس، أنه بات مدرجا على «قائمة الموت» المستهدفة من قبل العديد من العصابات، فإنه رفض نهائيا أن يصاحبه أى من أفراد الأمن لحمايته، بل إنه حينما كان يحذره زملاءه من أنه تجاوز الخطوط المسموحة وانه بذلك يعرض حياته للخطر، كان يرد بسخرية قائلا: «إذا لم تتجاهل التهديدات بالقتل ورضخت لها.. فالأفضل لك العمل فى مجلة نسائية!». فمع كل رسالة تهديد تصله، كانت عزيمته وإصراره على فضحهم والنيل منهم أكبر، فلم يكن دى فريس يرى أن مهمته تنتهى عند حد إثبات ما ترتكبه تلك العصابات من جرائم فقط، بل كان يتتبعها حتى يتأكد من حصول على الجناة على العقوبات المستحقة، لذا كان يوطد علاقاته بالشهود الراغبين فى الإدلاء بشهادتهم ضد تلك العصابات، وهو ما كان السبب فى تعرضه لمحاولة الاغتيال.
السبب ..«عملية مارينجو»
فور معرفة ما تعرض له دى فريس، بات هناك إجماع حول أن السبب، هو تورطه فى محاولة الكشف عن جرائم إحدى عصابات المخدرات وجرائم القتل التى يتزعمها رضوان تاجى، الملقب بـ «ملك المخدرات»، وهو هولندى من أصول مغربية تم اعتقاله فى عام 2019، وتتم محاكمته حاليا فى القضية المعروفة باسم «عملية مارينجو»، والتى تضم أيضا 17 فردا من العصابة عقب توجيه اتهامات لهم، تتضمن تنفيذ عمليات اغتيالات ومحاولات قتل سابقة نفذت بين عامى 2015 و2017، وكذلك مؤامرات اغتيال مدبرة لم يتم تنفيذها بعد.
وكان دى فريس الممثل والمتحدث الإعلامى لشاهد الادعاء الرئيسى فى المحاكمة نبيل بى، الذى كان عضوا بالعصابة، ولكنه انقلب عليهم بعد مقتل شقيقه فى عام 2018. ولم يكن دى فريس أول ضحايا تلك المحاكمة، بل سبق وتعرض ديرك ويرسوم محامى شاهد الادعاء، لمحاولة اغتيال بالرصاص فى سبتمبر عام 2019، بعدما اعترض على الإجراءات التى تتخذها الحكومة لحماية موكله، لكونها غير كافية لحمايته، خاصة بعدما أدلى نبيل بالعديد من التفاصيل حول أن العصابة قد نفذت بالفعل 6 عمليات اغتيال، وتخطط لـ 4 عمليات، ومن بينها قتل مارتن كوك، وهو مجرم سابق انقلب عليهم ثم أنشأ مدونة للكتابة بالتفضيل، من خلال عن الجريمة المنظمة.
لذا من المرجح أن علاقة دى فريس بالشاهد نبيل بى القوية، هى أحد الأسباب التى دفعت تاجى لاغتياله، رغم أن محاميته أرسلت بيانا لتفيد بأن موكلها ليس له أى علاقة بما حدث لدى فريس، وأن الاتهامات الموجهة له ليس لها أى أساس واقعى، خاصة ان الصحفى المغامر قد صنع أعداء كثيرين له على مدار حياته المهنية.
«الحادث» .. رسالة تخويف
وقد ألقت الشرطة الهولندية القبض على اثنين من المتهمين، وهما ديلانو جى، شاب يبلغ من العمر21 عاما من روتردام، والآخر بولندى يدعى كاميل باول إي، 35 عاما، ومازال التحقيق معهم جار لمعرفة دوافعهم لارتكاب الجريمة وعلاقتهم بتاجى. لكن بغض النظر عن المدبر لتلك الجريمة، فإن ارتكاب جرائم وحشية بهذا الشكل، وإطلاق النار فى وضح النار دون خوف، يعد جرس إنذار لتفحش عصابات المخدرات وأعضاء الجريمة المنظمة، وهو ما تخشاه الحكومة الهولندية لكونها تقوض سيادة القانون. فالحادث يحمل فى طياته رسالة خفية حول ما يمكن لتلك العصابات القيام به، وكذلك بث الخوف فى قلوب كل من يعمل ضدهم، لذا فإن كل من أدلى بشهادته للشرطة أو لوسائل الإعلام، حول كيفية وقوع الحادث، اشترط أولا ألا يتم ذكر اسمه نهائيا، بل والأدهى، الفزع الذى أصيب به الصحفيون والمراسلون فى هولندا حيث إن قلة قليلة فقط هى التى تتحدث بصراحة عن الهجوم خوفا من بطش الجناة.
خصائص جاذبة للعصابات
وقد حذر اتحاد الشرطة الهولندى مرارا وتكرارا، من أن البلاد تتمتع بخصائص جاذبة لعصابات المخدرات، حيث إن نظام العقوبات المتهاون بها، إلى جانب أن موانئ روتردام فى هولندا وأنتويرب فى بلجيكا، باتوا نقطة عبور ضخمة للمخدرات، والتى من خلالها يتم توزيعها فى جميع أنحاء أوروبا، كما أن بنيتها التحتية تعد مثالية بالنسبة لهم، وهو ما جعل الجرائم المتعلقة بالمخدرات فى أمستردام، خارج السيطرة. وفى الآونة الأخيرة، كشف رئيس بلدية أمستردام والمدعى العام ورئيس الشرطة، عن إستراتيجية جديدة لمكافحة الجريمة الدولية والمحلية التى باتت تؤثر على أمن المواطنين، ونسيج المجتمع وتهدد سيادة القانون، ويأتى ذلك بعد العمل على تفكيك شبكات الهواتف وتشغيل المنصات المشفرة، للإيقاع بالمجرمين الدوليين.
من جانبها تعتقد جيل كوستر، التى تدير مشروعا فى جامعة امستردام لاستخدام الذكاء الاصطناعى ضد الجريمة المنظمة، أن الأرقام الرسمية لا تمثل سوى جزء ضئيل من الحقيقة. وهو ما تؤكده ماريكى ليم، الباحثة فى جرائم القتل المتعلقة بجرائم المخدرات فى جامعة ليدن، وتقول: «فى المتوسط يقتل 20 شخصا كل عام فى هولندا، بسبب تهريب المخدرات، لكن عادة لا نسمع كثير عن تلك الحوادث، إلا أن ما حدث مع دى فريس سلط الضوء على مدى حاجتنا لفعل المزيد».
ففى السنوات الأخيرة، ضاعفت الشرطة الهولندية من جهودها لمحاربة عصابات المخدرات، التى باتت تسمى « المافيا المغربية» ومعاركها الداخلية المروعة، والتى من بينها جريمة قتل بشعة لرجل عثر عليه مفصول الرأس ومقطع الأوصال فى أحد الشوارع فى عام 2016، كما أنه فى العام الماضى تم اكتشاف غرفة تعذيب مجهزة بالكامل فى مقاطعة برابانت بجنوب هولندا، فضلا عن مداهمة الشرطة لأعداد كبيرة من مختبرات تصنيع المخدرات وشحنات الكوكايين والهيروين.
موقف متراخ وتقصير حكومي
يعتقد ووتير لوماس، الصحفى والمراسل الجنائى فى صحيفة «هيت بارول»، أن الجريمة الدولية أصبحت تتغذى على موقف البلاد المتراخى تجاه عصابات المخدرات، حيث بات الجنوب مأواهم. ويقول لوماس: «نحن لسنا دولة مخدرات مثل المكسيك أو هندرواس، ولكن الوضع لا يمكن الاستهانة به.. فهولندا مجتمع متساو للغاية ولكن فى بعض الأحياء والطبقات الاجتماعية من الصعب أن تصبح مليونيرا وهو ما يطمح إليه البعض مما يدفعهم للجوء للجريمة». ويعتقد البعض أن انتشار وسائل التواصل الاجتماعى قد سهل على المجرمين استهداف الشباب واستقطابهم وهو يضاعف من صعوبه العمل المجتمعى لحمايتهم. وعلى الرغم من أن وزير العدل الهولندى فريد جرابرهاوس، أعلن الحرب على رجال العصابات منذ سنوات، فإنه لم ينجح فى كبح جماح الجريمة.. وهو ما دفع صحيفة «إن أر سى هاندلسبلاد» الهولندية اليومية لطرح تساؤل فى صفحتها الأولى «هل يخسر الوزير جرابرهاوس حربه على المخدرات؟».. وجاء ذلك متزامنا مع الهجوم الذى شنه السياسى اليمينى خيرت فيلدرز، على الحكومة الحالية عبر تويتر، مستهزئا بدور وزير العدل ومتسائلا: «أين كان سيادته منذ محاولة قتل محامى نبيل بي؟
زهور للدعم ورسائل للتحذير
اليوم، وبعد مرور أسبوع على الحادث، تحول مسرح الهجوم لساحة دعم للصحفى الشجاع حيث وضع به نحو 4 آلاف مواطن الزهور، وكذلك عدد من الرسائل، التى تنم عن أن ما حدث ليس فقط هجوما على شخص، قدم حياته ثمنا للكشف عن الحقيقة وإصلاح المجتمع، بل إنه اعتداء صارخ على حرية الصحافة.. وإذا لم يكن هناك تحرك سريع وعقاب رادع، سيحدث ما لا يحمد عقباه.
رابط دائم: