-
شاهد على المنجزات المعمارية للمماليك «البنائين العظماء»
-
عبــد الله الزهــــــدى خطاط المســـــجد النبــوى يضــــع كتابات ســـــبيل أم عــــباس
-
مسجد شيخو العمرى مقر اجتماعات السلطان طومان باى لمقاومة العثمانيين
-
«الصليبة» مقر مؤسسات الدولة وسكن الأمراء وممر المواكب السلطانية وكسوة الكعبة
أبريل 1517 م : أصوات صهيل الخيول تتداخل مع قرع السيوف ، الأتربة الناجمة عن حوافر الخيل تزيد من عبثية المشهد، الذى يخيم عليه صراخ العامة وهم يتدافعون بحثا عن مكان للاختباء من عسكر سليم الأول . وهنا فى مسجد الأمير شيخو العمرى تردد الجدران كلمات يحيى بن العداس إمام المسجد وهو يخطب فى الناس هاتفا ومؤيدا للسلطان طومان باى ، متحديا بذلك العثمانيين الغزاة تحديا يليق برجل دين لم يبع هواه ودينه لسلطان جائر معتد أثيم .
لم يجد عسكر بنى سليم سوى إشعال النيران فى مسجد الأمير شيخو العمرى الذى طالما اجتمع فيه طومان باى ورفاقه ، فاحترق إيوان المسجد وقبته ، وقبض على الإمام والخطيب بن العداس وكاد يقتل لولا تشفع الخليفة العباسى المتوكل .
هذا المشهد قطرة من غيث أحداث جسام وقعت هنا فى شارع الصليبة عبر القرون الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر، المتحف المفتوح لفن العمارة المملوكية بضخامة مبانيها وعظمة زخرفها وروعة هندستها .
هنا أقدم شوارع القاهرة الإسلامية وأعرقها وأزهاها وأكثرها زخما بآثار يزيد عددها على المائة لكنها إما مغلقة أو نسيتها يد الترميم أو الصيانة منذ عقود. حتى واجهتنا فاجعة سقوط جزء من سقف ميضأة مسجد السلطان حسن درة العمارة المملوكية .
............................
حتى إذا كان سقف الميضأة هو من أعمال التجديد التى قامت بها لجنة الآثار العربية فى القرن الماضى ، فهذا ليس بعذر والزائر لمسجد السلطان حسن يدرك كم الإهمال فى حقه خصوصا إذا ما قورن بمسجد الرفاعى الذى يلاقى اهتماما من أفراد الأسرة الملكية من جانب لوجود مدافن بعض أفراد الأسرة داخله، ومن جانب آخر من أتباع الطريقة الرفاعية الذين بنى هذا المسجد تكريما وتقديسا لشيخهم الرفاعى المدفون بداخله وذلك بناء على أمر خوشيار هانم والدة الخديو إسماعيل .
وحال مسجد السلطان حسن من حال شارع الصليبة الذى لم يحظ ــ على الرغم من عراقته وتفرده كأحد أهم شوارع القاهرة الإسلامية ــ بالاهتمام أو الرعاية التى حظى بها شارع المعز لدين لله .
الزائر لشارع الصليبة يكتشف دون دليل ما يتمتع به المكان من زخم تاريخى بعمق الزمان، فعبره كانت المواكب السلطانية تمر من وإلى القلعة ، وفيه سكن الأمراء بجوار مؤسسات الدولة الرسمية بالقرب من القلعة ، وفيه انتشرت ورش صناعة الأسلحة. ولا تخلو كتابات مؤرخى العصر المملوكى من ذكره عند تأريخ حوادث العصر ..ذلك الشارع الذى يتلاقى مع شوارع شيخون والركيبة والسيوفية مكونا شكل الصليب ، فأصبح ينسب له اسما منذ نحو 700 عام.
شارع يبلغ طوله 500 متر ، ويمتد من ميدان القلعة وحتى ميدان السيدة زينب ، تتجاور فيه البنايات المملوكية : مسجد ومدرسة وسبيل وخانقاة . ولا يشذ عن نمط العمارة المملوكية فى بنايات شارع الصليبة سوى مسجد أحمد بن طولون ، وسبيل أم عباس .
البناءون العظام
«هى أم البلاد المتناهية فى كثرة العمارة ، المتباهية بالحسن والنضارة» هكذا وصف الرحالة ابن بطوطة القاهرة عندما زارها عام 1324 م فمنحنا ملمحا دقيقا للقاهرة فى الشطر الأول من عصر المماليك ، حين شهدت نهضة معمارية لا تخطئها عين، ولو كان كل ما أنتجه ذلك العصر هو مسجد السلطان حسن لكفاه. ولهذا نجد المستشرق الفرنسى جاستون فييت يقول: «فى مدينة القاهرة تسيطر ذكرى المماليك، شيدوا كثيرا من المبانى الجميلة القوية واستطاعوا وحدهم أن ينحتوا من الرخام والحجر».
وإذا كان الملك رمسيس الثانى يستحق عن جدارة لقب «سيد البنائين» نظرا للمنشآت العمرانية الهائلة كما وكيفا التى شيدت فى عصره، فإن الناصر محمد بن قلاوون يستحق هذا اللقب فى العصر المملوكى، حيث جاء أكبر نمو ملحوظ للقاهرة المملوكية فى أثناء السلطنة الثالثة للناصر محمد بن قلاوون ( 709-741ه / 1309-1341) التى تعد نقطة تحول هائلة فى تاريخ المدينة. تركز هذا النمو خارج باب زويلة جنوبى القاهرة الفاطمية وفى المنطقة الواقعة أسفل قلعة الجبل حيث عمر الأمراء المماليك العديد من الدور والقصور والمساجد الجامعة الضخمة. ولعل أدق ما قيل عن هذا ما ذكره المقريزى : «وقد أكثر السلطان من العمائر فامتدت أيدى الناس إلى العمارة وكأنما نودى فى الناس ألا يبقى أحد حتى يعمر وذلك أن الناس على دين ملكهم».
بركة الفيل
يتقاطع شارع الصليبة مع شارع أزبك مؤديا إلى بركة الفيل التى كانت فى الشطر الأول من عصر المماليك، الحى الأرستقراطى الأبرز بامتياز، وعنها قال «ابن سعيد». دائرة كالبدر والمناظر فوقها كالنجوم وعادة السلطان أن يركب فيها بالليل وتسرج أصحاب المناظر على قدر هممهم وقدرتهم فيكون بذلك لها منظر عجيب وفيها أقول:
انظر إلى بركة الفيل التى، اكتنفت بها المناظر كالأهداب للبصر، كأنما هى والأبصار ترمقها، كواكب قد أداروها على القمر.
ولم تكن القصور حول بركة الفيل حكرا على الرجال بل شيدت القصور باسم النساء، فها هو قصر فاطمة الخاصيكية زوجة السلطان قايتباى وكان قصرا كبيرا كامل المرافق والمنشآت وكان ملحقا به حمام كبير وحديقة. كانت بيوت الأمراء صورة مصغرة من قصر السلطان بما يحويه من إسطبلات ومخازن وملحقات مثل الطبلخانة التى تحفظ فيها الطبول والأبواق التى تضرب للأمير، والطشتخاناه لحفظ أدوات الغسل والشرابخانة الخاصة بالشراب والحلوى والسكر. وكانت من المرافق المهمة فى تلك القصور الآبار والسواقى، لرفع الماء من البركة لمنازلهم، خصوصا عند اشتعال الاضطرابات التى يتعذر معها وصول السقائين بمياه النيل إلى المنازل.
شيدت حول بركة الفيل العديد من الزوايا والمساجد والخانقاوات والمدارس ومنها المدرسة التبشيرية التى بناها الأمير سعد الدين بشير الجمدار الناصرى 761هــ1360م . وذكر المقريزى أنه جعل بها خزانة كتب وأنها من المدارس اللطيفة «الصغيرة» وهناك جامع أزبك اليوسفى ومازال موجودا بشارع أزبك المتفرع من شارع الصليبة وهناك خانقاة وجامع الأمير باشتاك الذى وصفه المقريزى بأنه «من أبهج الجوامع وأحسنها رخاما وأنزهها وأدركناه إذا قويت ماء النيل ففاضت بركة الفيل وغرقته فيصير لجة ماء».
وظلت بركة الفيل المكان المفضل لسكنى الطبقة الأرستقراطية من صفوة المماليك حتى فى العصر العثمانى .إلا أنها تعرضت للتخريب زمن الحملة الفرنسية.
عطشان يا صبايا ...دلونى على السبيل
فى تراثنا الشعبى تظل تلك الأغنية البديعة توثق لتاريخ تلك البنايات الخيرية التى أقامها السلاطين والأمراء لسقاية الناس .
فى شارع الصليبة نجد أجمل وأكبر أسبلة القاهرة، وفى نهايته تحديدا يطالعنا سبيل السلطان الأشرف قايتباى وهنا نتوقف عند أمرين: أولهما السبيل وثانيهما صاحب السبيل .أما الأول فهذا السبيل هو أول سبيل مستقل من نوعه فى مصر فلم يلحق بمنزل أو مسجد أو مدرسة بل شيد ( 884هــ- 1479م) كمبنى مستقل لسقاية الناس وحمل زخارف جميلة متفردة أشبه بزخارف المخطوطات . ومن بعده انتشرت إقامة الأسبلة المستقلة التى يعلوها كتاب لتعليم الأطفال الفقراء مبادئ القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم ليكون السبيل سقاية للجسد والروح معا .
أما الأمر الثانى فهو السلطان قايتباى الذى يعد المنافس الوحيد ــ بين سلاطين المماليك ــ للسلطان قلاوون فى إقامة العمائر، حيث ينسب للسلطان قايتباى وحده إقامة وتجديد 70 بناية فى القاهرة والإسكندرية والدلتا .كما أقام سبيلا فى القدس الشريف .
صحيح أن السبيل كغيره من الأسبلة فقد وظيفته الأولى بعد دخول مياه الشرب المنازل لكن لجنة الآثار العربية سرعان ما أجرت عليه تعديلات عام 1923 ليخصص الطابق العلوى كمدرسة للبنات وبدءاً من عام 2000 أنشأت به وزارة الثقافة مكتبة للحضارة الإسلامية .
الأكثر شهرة من هذا السبيل فى شارع الصليبة
«سبيل أم عباس» فهو نموذج للعمارة العثمانية التى غلبت على عمائر أسرة محمد على الدينية.
شيدته بنبا قادن، بعد 13 عاما على مقتل ابنها الخديو عباس الأول فى قصره ببنها 1854 م، وأصرت والدة الخديو على أن يحمل السبيل اسم ابنها فصار سبيل «أم عباس».
فى هذا السبيل ينبغى أن نتوقف أمام الخطوط الفخيمة التى كست جدرانه بالتركية والعربية والتى تحمل توقيع عبد الله الزهدى النابلسى أبرز خطاطى عصره وخطاط المسجد النبوى وصاحب الخطوط على كسوة الكعبة
مجمع المساجد
فى شارع الصليبة مساجد تعانق مآذنها عنان السماء ، مبان ذات هيبة ومهابة تليق بذكر الله .
مساجد اكتسبت شهرتها من بنائيها العظام وأخرى لعمارتها الفارهة، وثالثة لقصص حول سر بنايتها أو بسبب شهرة من دفن فى مبان ملحقة بها.
أما الأولى فمنها مسجد الأمير ابن تغرى بردى «1410 ــ 1470 م» المؤرخ والفقيه، الذى تغنيه مؤلفاته المهمة عن التعريف، ومنها «النجوم الزاهرة فى تاريخ مصر والقاهرة» و«المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى».
أما الثانية فمسجد السلطان حسن الذى أنشأه الناصر حسن بن قلاوون ووصفه المقريزى بقوله: «فلا يعرف فى بلاد الإسلام معبد من معابد المسلمين يحاكى هذا الجامع وقبته التى لم يبن بديار مصر والشام والعراق والمغرب واليمن مثلها».
فى حين قال عنه المؤرخ ابن تغرى بردى «إن هذه المدرسة ومأذنتها وقبتها من عجائب الدنيا، وهى أحسن بناء بنى فى الإسلام»، وانبهر به المستشرق الفرنسى جاستون فييت، فقال: «قد يكون هذا الجامع هو الوحيد بين جوامع القاهرة الذى جمع بين قوة البناء وعظمته ورقة الزخرفة وجمالها. ولا ريب أن هذا البناء العالمى الشهرة والعظيم القيمة رمز لمجد الإسلام وقوته وعظمته مقررة ومعترف بها».
النموذج الثالث للمساجد يتمثل فى مسجد الرفاعى المجاور للسلطان حسن الذى يشكل معه كتلة معمارية شامخة تسر الناظرين.
«الرفاعى» أمرت ببنائه خوشيار هانم والدة الخديو إسماعيل، والرفاعية يتبارون وهم يحكون قصة الحشد الذى نظمته الأسرة العلوية وضم قناصل الدول الأجنبية ليشاهدوا أعاجيب الرفاعية ، ومنها أن أحد القناصل ومعه زجاجة مملوءة بالسم وطلب من شيخ الرفاعية تناولها ففعل ولم يصبه سوء .
يقال إن هذه الواقعة دفعت خوشيار هانم والدة الخديو إسماعيل عام 1286 هـ لشراء أرض مسجد الذخيرة وزاوية الرفاعى المواجهة لمسجد السلطان حسن وأمرت بعمل ضريح لأبى شباك الحفيد السادس للرفاعى الكبير ،وبناء مدافن لمن يموت من ذريتها وأن يقام فى الموقع مسجد لإقامة شعائر الله .
ويقال إن زوجة الخديو عباس حلمى الثانى لدغها ثعبان فلجأ الخديو إلى أحد الرفاعية الذى قام بامتصاص السم من موضع لدغة الثعبان ، فقرر الخديو منح شيخ الرفاعية ما يريد فطلب تشييد مسجد كبير للرفاعية ، فقرر الخديو استكمال أعمال بناء المسجد الذى أمرت بإنشائه خوشيار هانم التي كانت قد توقفت 25 عاما بسبب الضائقة المالية التى مر بها ابنها الخديو إسماعيل وتم افتتاح مسجد الرفاعى للصلاة يوم الجمعة فى غرة محرم 1912.
الخانقاة بيت المتصوفة
كانت من بين منشآت الخير العديدة التى بناها الأمراء والسلاطين بيوت للمتصوفة سميت «الخانقاة» وهى كلمة فارسية تعنى المكان الذى ينقطع فيه المتصوف للعبادة . وفى الخانقاة أماكن تعرف بـ «الخلوة» وهى غرف صغيرة لتهجد المتصوفة وصلاتهم وذكرهم .فيها كانت حياتهم ومعاشهم ومنشئ الخانقاة يوفر لهم كل ما يحتاجونه من كساء وغذاء .
عرفت مصر الخانقاوات على يد صلاح الدين الأيوبى عندما أسس خانقاة سعيد السعداء بالجمالية لكن أول خانقاة مملوكية شيدت فى شارع الصليبة عام 683هـ ،وهى خانقاة الأمير علاء الدين البندقدارى أحد أشهر المماليك فى عصر الظاهر بيبرس وقد حكم دمشق نائبا عنه واشتد فى محاربة الصليبيين وكان أحد نواب السلطان فى حكم مصر .وقد دفن الأمير بالقبة التى ألحقها بالخانقاة .
أفراح وأحزان الصليبة
العام 752هــ ــ 1351م
زينت الصليبة وأشعلت الشموع وخرجت مشايخ الصوفية يستقبلون الأمير شيخون العمرى الذى كان محبوسا فى سجن الإسكندرية بأمر السلطان حسن . فلما تولى الملك الصالح أمر بالإفراج عنه «فسار فى موكب مهيب حتى طلع القلعة وقبل الأرض بين يدى السلطان الملك الصالح فأقبل عليه السلطان وخلع عنه ثياب السجن وألبسه تشريفا جليلا وخرج شيخون إلى منزله والتهانى تتلقاه» .
رابط دائم: