رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

السـيدة التى تطلّ من الشــرفة

إيهاب بديوى;

في صباحات الخريف الموحشة. تسمع بوضوح صوت تعانق الأغصان المتباعدة طوال أشهر الصيف. وكأنها تبكي الفراق وترتمي في أحضان بُعدها وتتعانق حتى تتكسر أطرافها الضعيفة. وبتكرار العناق كلما هبت موجة ريحية عنيفة مع اقتراب شتاء الشارع الكئيب. ينزف جسدها وتتشوه بعض معالمها. لكنها تطل سعيدة بالتقارب مهما كان ثمنه. من بين ثنايا الأفرع متساقطة الأوراق التي تتجرد شيئا فشيئا من كسائها الحامي وتدخل رويدا رويدا في سكون الأشهر الباردة. تظهر تلك الشرفة المتهالكة للقصر القديم. تقول الأسطورة أنه بُني في القرن التاسع عشر. وأسطورة أخرى تقول أنه تم بناءه في فترة الحرب العالمية الأولى بواسطة مهندس إيطالي لصالح تاجر يوناني معروف. لكن الحقيقة تكذّب الأساطير. فالسيدة الرقيقة التي تطل كل يوم من الشرفة طوال الأربعين عاما الأخيرة. تبدو ملامحها شرقية تماما. لا يزال الشارع الذي كان في زمن قديم يزخر بالحياة والفلل والقصور المتجاورة في نظام هندسي بديع. لا يزال بحتفظ برائحة الجمال لأن الفلل التي تحيط بالقصر لم يتم هدمها بعد. رغم الزحف الخرساني المتوحش الذي بدأ من نهاية الشارع ويقترب بهدوء ليخفي الشمس خلف الأدوار المتكررة التي تصل في بعض الأحيان إلى العشرين. وتأتي بأمواج من البشر من كل لون وجنس. ليتحول الشارع الأرستقراطي الهادئ إلى ساحة صراع بشري متكرر. ويفقد الجمال تحت وطأة الصناديق الحديدية المتحركة وأصوات البائعين والسياس ورواد المراكز التجارية والمكاتب الإدارية التي تزخر بها كل عمارة يتم بناءها.

باب القصر الهادئ لم يتوقف عن الحركة في السنوات الأخيرة. سماسرة وتجار ومقاولين ونصابين يسألون عن إمكانية البيع بأسعار خرافية. والرد يأتي دوما من البواب العجوز الذي ورث العمل عن والده وجده. لا توجد نية للبيع.

رغم أن الأشجار العتيقة التي ولدت مع انتهاء اللمسات الأخيرة للقصر تحيط بالسور الحديدي الأسود المدبب من كل جانب. وتخفي أغلب معالمه في الربيع والصيف مواسم الحياة. إلا أنها تتخلى عن هذا الدور رويدا رويدا في الخريف. حتى تأخذ عطلتها السنوية في الشتاء. فيتحول المنظر الجمالي إلى مشهد مرعب من قصص دراكيولا. قصر مشيد بثلاثة أدوار كل شيء فيه عملاق. مغلقة جميع نوافذه. متهالكة جميع ألوانه أو مختفية تحت لون مائل للأسود. ربما من مخلفات الحزن الذي غلف جنباته منذ إنشائه. هكذا تقول الأسطورة التي يحكيها البائع العجوز في الكشك الصغير الذي يقع في منتصف الطريق بين الشارعين المقابلين للقصر. يبدأ القصر حكايته كل خريف إذن. ويبوح بأسراره في الشتاء حين تظهر ملامحه من بين الأغصان. ثم يعود للإنزواء في الربيع. ويختفي من جديد كل صيف.

عشر سنوات على الأقل لم تخرج تلك السيدة من المنزل. هكذا أجاب البائع العجوز على سؤال من شخص مريب. وأكد أنه يعرف لأنه يظل في كشكه من بعد صلاة الفجر وحتى صلاة العشاء. تحضر له زوجته طعامه. روتين سنوات طويلة لم يتغير أيضا. سيارتها الفاخرة القديمة لم تتحرك من داخل القصر. حارسها العجوز يجلس وحيدا معظم الأحيان بعد وفاة زوجته وتفرق أبنائه في حياتهم. لم يتبقى معه سوى ابنه الأصغر الذي تزوج حديثا ويستعد فيما يبدو لاستلام الإرث العائلي بحراسة القصر..

لم ينس البائع العجوز سؤال الشخص المريب عمن يكون وماذا يريد. بلا مبالاة وعدم اهتمام بالرد تعود عليها من كثرة السائلين في السنوات الأخيرة. وتأثير ذلك الجيد على حركة البيع عنده. لأن من يريد السؤال يستخدم الأساليب القديمة التقليدية بشراء شيء ما وتعمد الوقوف وفتح حوار ليبدو كأنه غير معد مسبقا. من سيهتم في هذا الزمن بذلك القصر المرعب. خاصة في الخريف. سوى صاحب مصلحة ما. كان الحدث اليومي الأهم صيفا وشتاءً هو فتح نافذة الدور الثاني في تمام السابعة صباحا. وخروج تلك الحسناء لتجلس على مقعد وتتناول شيئا ما لم يتبينه البائع العجوز. ثم تليه بتناول مشروب ما لم يعرفه أبدا. حتى في محاولاته الفضولية عندما كان القصر يعج بالخدم بسؤال أحدهم حين يشتري منه شيئا ما. لم يكن يجد جوابا. الجميع كتوم وملتزم. طوال أكثر من أربعين عاما لم تغير تلك السيدة مكانها وعاداتها. ولم تتغير ملامحها الجميلة في عينيه.

رغم التجاعيد التي ملأت وجهها. والعصا التي أصبحت تتوكأ عليها. ولم تبتعد عن القصر. سوى في خروجات قلت مع السنين. حتى انعدمت تماما. أصبح مشهده المفضل رؤيتها برونقها وأناقتها وجمالها كما رآها أول مرة حين حصل على هذا الكشك نظير خدماته الجليلة للوطن وإصابته في إحدى الحروب. كل يوم. في نفس المكان والزمان. رغم أن المرة الأولى كان الشجر مهذبا وألوان القصر تنطق بالجمال والبريق فانضمت هي لتلك اللوحة الطبيعية لتزيد الجمال جمالا..

كان القصر ممتلئا بالحياة والأطفال والكبار.

لكنهم قلوا مع الأيام. ما كان يسمعه أنهم هاجروا الواحد تلو الآخر. ورفضت هي ترك بيتها. كل شيء يتغير في محيط القصر. توحُّش الشجر. ظهور الصدأ على جميع جوانب السور الحديدي العتيق المدبب الذي كثيرا ما اصطاد لصوصا ومتطفلين.

في ذلك اليوم الغائم. لم تظهر سيدة القصر كعادتها. ولاحظ البائع العجوز حركة غير عادية. انتهت بخروج نعش. يتبعه عدد قليل جدا بينهم البواب وابنه وزوجته. ورجل عجوز يعرفه جيدا. يطلقون عليه محامي العائلة. انفطر قلبه لغيابها. وكأنها أقرب الناس إليه. بعد عدة أيام.

فوجئ بفتح شرفة سيدة القصر. ترقّب بشغف بالغ من ستجلس مكانها.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق