رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الاعتراف بالجميل

أحمد البرى;

أنا الطبيبة صاحبة رسالة «فتاة العيادة» التى نشرتها فى بريد الجمعة تحت هذا العنوان عن السكرتيرة التى عملت لدىّ فى العيادة، وبعد شهر من التحاقها بالعمل، حدث خلاف بينها وبين والدتها وأشقائها الأربعة، وخرجت مطرودة بحقيبة ملابسها، ولجأت لى، وطلبت أن تبيت فى العيادة حتى تجد سكنا لها، وقالت لى إن أباها منفصل عن أمها، ولا يعرف عنها وعن أخوتها أى شىء.. المهم أنها أقامت فى العيادة برغم معارضة بعض الأصدقاء الذين نصحونى بألا تبيت فيها خوفا من أى مشكلات، ولكنى كنت مقتنعة بأن أبعدها عن الشارع، وجاءت جائحة «كورونا» وتوقفت عن العمل بالعيادة خمسة شهور، وهى مقيمة فيها، وظللت أرسل لها راتبها بانتظام، وبعد أن استقرت ظروف «كورونا»، وعدت إلى العمل بالعيادة، استشرتك وقتها فى أمرها، فنصحتنى بأن أسعى إلى مد الجسور بينها وبين أهلها، وقد حاولت ذلك بالفعل، لكنها كانت تبعدنى عن الحديث فى هذا الموضوع، وبعدها تدخلت فى مشروع زواج لها، ولكنها رفضت، ولاحظت أنها لا تبالى بالارتباط، مع أنها تقترب من سن الأربعين.

الغريب أنها طوال تلك الفترة كانت تزور والدها، وكذلك والدتها، يعنى هناك تقارب واضح بينهم، ثم عرفت أن والدها رحل عن الحياة منذ أربعة شهور، وأنها استأجرت شقة بنظام القانون الجديد، وتقرر لها معاش من والدها، وقالت لى إنها ممتنة جدا وشاكرة لوقوفى معها، واستمرت معى، وقمت بزيادة راتبها، وأعطيتها ثمن المواصلات اليومية.. وسارت الأمور طبيعية، ثم فاجأتنى بأنها تريد أن تترك العمل، فطلبت منها الانتظار حتى أستعين بمن تحل محلها، فإذا بها تعلن على صفحتها على الفيس بوك عن حاجة طبيبة إلى سكرتيرة، ولما علمت ذلك، قلت لها: هذه مهمتى، وأنا سأختار من تعمل معى، ثم سألتها: هل وجدت عملا؟، أجابت لا، ولكنى محبطة، فقلت لها: حاولى ألا تدخلى فى «دائرة الاكتئاب»، وأول أعراضه كراهية العمل، والعزلة، وطلبت منها أن تعيد التفكير فى الأمر، وأبلغتها أننى سآخذ إجازة لمدة أسبوع، وأن عليها أن تحسم أمرها خلال هذه الفترة، فإذا بها تتصل بى قائلة: «إن أكثر من فتاة جعلننى أحزن كثيرا على نفسى، لأنهن اعترضن على تنظيف العيادة، وأنا أنظفها، وقد شعرت أنى مجرد عاملة نظافة، وأنك تعامليننى كذلك».. فلم أكمل المكالمة، وبعد عودتى أعطيتها راتبها، ووجدت بديلة لها، ولكنى لن أسامحها فى عدم «الاعتراف بالجميل»، فلقد أنقذتها من الشارع، فهل يكون هذا جزائى؟.. لقد قالت لى والدتى إنها «مضطربة عائليا ونفسيا»، فدعيها ولا تلقى لها بالا، لكنى أسألك: هل هذا جزاء عمل الخير؟.

 

 ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

لا يعيش الإنسان بمعزل عن الناس، وإنما يعيش فى مجتمع يتفاعل مع أفراده ، ويتعامل معهم، لذلك لابد أن يكون أحد أفراد هذا المجتمع قد صنع معه معروفا، أو أسدى له نصحا، أو قضى له حاجة، أو فعل معه أى فعل يستوجب به الحمد والشكر، ومن هنا يأتى الاعتراف بالجميل كدليل على حسن أخلاقه، وتمام إنسانيته، ويعلمنا رسول الله الاعتراف بالجميل، والإقرار بالفضل لصاحبه، والثناء عليه بحسن صنيعه ، فإذا شكرته فإنك عندئذ تكون شاكرا لله، أما من لم يشكر الناس فإنه لا يشكر الله. وكان رسول الله أكثر الناس اعترافا بالجميل، وإقرارا بالفضل، وحفظا للود، ووفاء بالعهد حتى مع غير المسلم، ولم لا؟ وقد كان أحسن الناس خلقا، وأكملهم أدبا، لكن «العرفان بالجميل» أصبح عملة نادرة، ربما نتيجة للتربية السيئة داخل البيت، وعدم وجود القدوة الحسنة، فلا تبالى يا دكتورة من موقف هذه الفتاة، واعتبرى معروفك معها، عملا ابتغيت به وجه الله، وأسوق لك ما روى عن أن السيد المسيح شفى عشرة مصابين بداء الجذام دفعة واحدة، ولم يجد من يقدم له الشكر عرفانا إلا واحدا فقط، أما التسعة الآخرون فقد فروا دون أية كلمة شكر.

وقصة أخرى فى عدم الاعتراف بالجميل حدثت لرجل تزوج امرأة لديها ثلاثة أبناء، وقد أقنعته باستدانة مبلغ كبير من المال لتغطية مصاريفهم فى الجامعة، وظل الرجل يعمل ليلا ونهارا طوال أربع سنوات ليسدد هذه المصاريف دون أن يتذمر، ومع هذا فإنه لم يسمع كلمة شكر أو ثناء على ما قام به، لا من زوجته ولا من أولادها، والسبب أن الزوجة لم تجعل أولادها يدركون أن الزوج يضحى من أجلهم بل اعتبرت ذلك أمرا طبيعيا وواجبا عليه. ولهذا فقد نشأ أولادها ناكرين للجميل وأن زوجها مدين لهم وليس العكس!

ولاشك أن الله يجزى على الإحسان والجميل أكثر مما يفعله البشر فهو رحيم بعباده، ويدل على هذا قصة سيدة سهرت على تمريض أمها وأم زوجها، بالرغم من مسئولياتها الكبيرة فى تربية خمسة أطفال وخدمة زوجها دون تذمر أو ملل، فماذا كان جزاؤها؟.. لقد أصبحت لديها خمس عائلات سعيدة تتنافس من أجل إسعادها، وتعتنى بها فى أواخر أيامها، ليس بدافع العرفان بالجميل، ولكن بدافع المحبة البالغة لهذه السيدة التى كانت لهم كل شىء ورضعوا منها مبادئ التربية الرفيعة.

إن قيمة المحبة والعرفان بالجميل تتعدى مجرد شكر الأقربين، بل هى شكر الله دائما وأبدا، ويروى عن رسول الله: «اشكر لمن أنعم عليك، وأنعم على من شكرك، فإنه لا زوال للنعمة إذا شكرت، ولا بقاء لها إذا كفرت، وإذا كانت النعم وسيمة فاجعل الشكر لها تميمة». وقد رضى الله تعالى أن نعترف بفضله علينا ووعدنا بأن يزيدنا من فضله، حيث يقول تعالى: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ» (إبراهيم 7)،، يا دكتورة استمرى فى عمل الخير، وكونى حريصة فى تعاملك مع الآخرين، وفقك الله وسدد خطاك.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق