يقول سقراط «اعرف نفسك». فحين يحدد الفرد طريقه من البداية، فقد اجتاز سنوات ضائعة من التشتت والتجارب الفاشلة، في رحلة البحث عن الخطوة الأولي. وفي هذا يقول العقاد في سيرته حياة قلم « إنني منذ بلغت الطفولة وفهمت شيئا يسمي المستقبل ولم أعرف لي أملاً في الحياة غير صناعة القلم، ولم تكن أمامي صورة لصناعة القلم في أول الأمر غير صناعة الصحافة» لذلك أصدر صحيفة التلميذ وهو في الثانية عشرة ولم يبرح المدرسة.
.................................
وهنا تبدأ خطوته الثانية، وهي مرحلة البحث عن متنفس للتعبير عن أفكاره، ومكان يستوعب اهتماماته وإبدعاته، ومحاولة تثبيت قدميه في ذلك المجال الذي أحس بمناسبته له. وهنا يتساءل بعض المبدعين الناشئين- ممن لم تهدهم بوصلتهم بعد- عن الطريق الذي سلكه الكبار، وذلك لمحاولة الاسترشاد بهم. برغم كون كل مبدع هو ابن تجربته إلا ان قراءة السير لم تكن إلا رغبة في دفعة أو أمل، تعين علي مواصلة السعي. فيخبرنا الكاتب أنيس منصور في سيرته «عاشوا في حياتي» كيف عمل فيما هو أقرب لإستعداده في الكتابة والقراءة. فيقول»وجدت في جيبي ورقة مكتوبا عليها عنوان د.عبد الوهاب عزام عميد كلية الأداب. لقد نصحني استاذي د. شوقي ضيف أن أذهب إليه ليساعدني في العمل بجريدة الأساس، ولم يكن عندي ماهو العمل في صحيفة ولا الصحافة فقد قررت أن أكتب وأن أذهب إلي جريدة الاساس، وأن أطلب نشر الذي كتبته، وكتبت، ونشرت». والصحفي صلاح منتصر أحبها- في صغره- فبدأ مهووساً بالكاتب القصصي إبراهيم الورداني الذي كان أول ما قرأ له قصته المنشورة في ورقة جرنال ملقاة علي الأرض، بعد ذلك ساعده صديق له بالعمل في جريدة الأخبار. والكاتب صنع الله إبراهيم أحبها في الجامعة، فقد حرر بمفرده جريدة الحائط باسم الحزب الاشتراكي ولم يعرف الحزب شيئاً عنها، وبعد الجامعة، حاول الالتحاق بجريدة القاهرة اليومية في بداية صدورها. وقد عبر عن حبه لها في يوميات الواحات قائلاً «كنت استسلم لأحلام يقظة تدور حول العمل في الصحافة». فالصحافة رداء فضفاض وقبلة للتائهين، يحج إليها كل مبدع لا يسعه مجاله للحديث عما بداخله. فالمخرج محمد خان لم يسعه المجال السينمائي بكل ما قدمه من أفلام للتعبير عما يشغل عقله من أفكار، لذلك لم يجد حضناً فسيحاً يستقبله إلا هي. فكتب فيها عن مشكلات السينما وكواليسها. كما أنها لا تقتل روح الإبداع، بل تؤثر فيه، وتساعد علي تنميته والانصهار معه. في حوار صحفي قال ماركيز «إنني مدين للفن الصحفي، إذ بدأت صحافياً، وأستطيع القول انني لولا الصحافة لما كتبت القصة فكنت استعين بالتقنية الروائية في مقالاتي الصحفية. فالصحافة والأدب متمازجان علي الأقل عندي»، ويقول الأديب التركي ياشار كمال «حينما احترفت الصحافة التقيت شخصاً ارستقراطي النشأة تحول إلي مناضل مسلح كان سبباً في كتابة رواية ميمد الناحل». فهولاء بدأوا بالعمل الصحفي ثم اتجهوا بعد ذلك للأدب، وهناك من وجد أن الصحافة وظيفة مثالية إن كان لابد من سبيل للعيش، وملجأ يتسع لأفكار أي مبدع ناشىء. فقد حكي الأستاذ محمد المخزنجي في أثناء رحلة تحوله من العمل في مجال الطب للعمل بها، عن مناسبة العمل الصحفي لميوله الإبداعية فيقول «في سبحة الكتابة التي لم أعتدها إلا قصصية وجدت هذا الشغل الصحفي يسيراً للغاية عندما أعملت فيه سليقة القصاص، سواء كان تحريرا أو إعادة تحرير لمقالات في مواضيع مختلفة». وحين تدقق النظر فيما كتبه شيخ الصحفيين محمد حسنين هيكل، فلن تجد نفسك إلا أمام روائي متمكن، كما وصفه عمار علي حسن في أقلام وتجارب بأنه»روائي ضل طريقه الي الصحافة»، وفي هذا السياق يقول نجيب محفوظ في تعليقه علي ما كتبه الصحفي د. فتحي عبد الفتاح في كتاب «شيوعيون وناصريون» بأن الكاتب قدم جنسا أدبيا من أجناس الرواية العالمية في مجال الأعمال التى عالجت قضايا السجون والمعتقلات والقهر. فالقلم والإبداع وخلق الشخصيات ورواية ماحدث للآخرين، وعرض الواقع، وإفساح الطريق لكافة الأقلام من كل المجالات والاتجاهات الأخري في التعبير عن نفسها، أشياء تجعل من الصحافة قبلة جامعة. وفي النهاية لايسعنا إلا أن نقول كما قال العقاد نحن نستريح بستة جنيهات نتناولها من عمل نرغب فيه ولا نستريح باثني عشر نتناولها من عمل نبغضه ونساق إليه ولا نود أن ننجزه محسنين أو غير محسنين.
رابط دائم: