يبرز الفيلسوف والمفكر المغربى الراحل محمد عابد الجابرى بمشروعه الفكرى بين أكبر المفكرين العرب بالقرن العشرين، وأتت أطروحاته لتضيء وتحلل الكثير حول تشريح العقل العربى والبحث الثقافى وانفصال العقل والصراع بين التجديد والتقليد والتراث. ويبدو أن الجابرى الذى رحل عن عالمنا فى مايو 2010 مصمم من قبره على الاشتباك مع قضايانا المتعددة وإثارة المزيد من السجالات الثقافية، حيث اكتشف الباحث المغربى خالد طحطح أخيرا مخطوطة بحث جديد منسى للجابرى تم نشره أخيرا لأول فى كتاب بعنوان « التاريخ والمؤرخون فى المغرب المعاصر» وصدر عن دار رؤية بمعرض القاهرة الدولى للكتاب.
ولا تقتصر أهمية الكتاب المكتشف على توثيق وجمع المؤلفات التاريخية حول المغرب حتى الستينيات من القرن الماضى، بل فى نقد الجابرى لتلك المؤلفات ومحاولته الاشتباك مع قضايا التاريخ واستنباط ووضع أسس لنقد الكتابة التاريخية، وتفسير التاريخ، وطرق البحث فى الأسباب والأحداث التاريخية. كما يعرض رؤية الجابرى لما يعتبره «التأريخ الحق» الذى يسهم فى صياغة «تاريخ حقيقي»ومصادره، والغرض منه، لإعانتنا على فهم حاضرنا واستشراف خطوط مستقبلنا، بحسب ما يقول الجابرى فى كتابه أن «التاريخ الحقيقى هو التاريخ الذى يعكس هذا الارتباط بين الماضى والحاضر، بين ما كان وما هو كائن، لنستطيع بعد ذلك رؤية ما ينبغى أن يكون». يبرز الكتاب الوعى التاريخى المبكر لدى الجابرى وانفتاحه على بعض المعارف المعاصرة التى تشتبك مع حقول التاريخ والتحليل النفسى. كما يسلط الضوء على علاقته الخاصة القديمة بابن خلدون وفكره .
وحول ما إذا كان الجابرى قد أشار من قبل إلى نصه المكتشف أخيرا؛ يوضح طحطح فى مقدمته أن النص ظل غير معروف على الرغم من أن الجابرى أشار له فى مذكراته السياسية التى اختار لها اسم «مواقف» لأول مرة عام 2003، ولم ينتبه له الباحثون ظنا منهم أن أطروحة الدكتوراة الخاصة بالجابرى تغنى عنه، باعتبارها امتدادا لهذا العمل واستكمالا له، فظنوا أنهم لن يجدوا فيه أى إضافات. لكن استعراض النص المكتشف يثبت عكس ذلك بما يطرحه الجابرى من نقد الكتابة التاريخية، واتخاذ نظرية ابن خلدون - باعتبارها سلطة تقويمية نظرية وتطبيقية - مقياسا للحكم على قصور الكتابة التاريخية بالمغرب بمراحلها الأولى . لكن ما سبب ولع الجابرى بابن خلدون ونظريته بتفسير التاريخ وعلاقته بنص الجابرى المفقود ؟ كان الجابرى قد أعلن انخراطه المبكر فى مشروع بناء نظرية فى الاشتراكية العلمية، ونشر 3 مقالات عالج فيها أزمة الاشتراكية بالبلدان المتخلفة لكنه توقف عن متابعة الأمر لإيمانه بعدم جدوى التنظير قبل الغوص فى دراسة تطور المجتمع العربى عموما، وآليات المجتمع الغربى، تزامنا مع ذلك وفى بدايته الأكاديمية للحصول على دبلوم الدراسات العليا سجل بحثا حول نقد ابن خلدون لمناهج المؤرخين الذين سبقوه، مبشرا فى مقدمته الشهيرة بعلم العمران البشرى، الذى أراده أن يكون معيارا فى يد المؤرخين يساعدهم التمييز بين الخطأ والصواب فى الأخبار والروايات. ويقول الجابرى « اكتشفت أن مشروع ابن خلدون يلتقى مع مشروعى وربما يؤسس له» ومن هنا كان ولعه بدراسة التاريخ وابن خلدون والذى أفرز بحث الجابرى غير المنشور «التاريخ والمؤرخون فى المغرب المعاصر: دراسة نقدية على ضوء المفهوم الخلدونى للتاريخ والتأريخ».
تلك الدراسة التى كانت مجهولة ومنسية لوقت طويل مثلت الانطلاقة الفعلية لعلاقة الجابرى بابن خلدون والتاريخ والتى تعززت لاحقا بحصوله على درجة الدكتوراة عن العمران البشرى عند ابن خلدون، كما أسفرت عن كتابته لمقالاته عن أزمة الاشتراكية فى البلدان المتخلفة . وهى أيضا جزء رئيسى من ذاكرة الجابرى الفكرية يمكن من خلاله استكشاف الجابرى كمؤرخ ناقد لأعمال معاصريه . يعتبر طحطح أن هذا النص المكتشف قد يصلح موضوعا لكتابة جديدة عن الجابرى،والتأريخ لمساره العلمى والبحثى والفكرى انطلاقا من زوايا قد تكون غير معروفة بما فيه الكفاية، مثل علاقة هذا المفكر العربى البارز بالتاريخ والمؤرخين، وكيف ترك التاريخ وانجذب إلى الفلسفة حتى نحى الفيلسوف المؤرخ الذى داخله جانبا بالنهاية.
رابط دائم: