لا يقتصر التاريخ على ما هو مدون أو ما تكشفه حفريات وقطع أثرية، وإنما تحكي البنايات والمتنزهات تفاصيل أخرى، وهو ما ينطبق على لا جرانج La Grange ومعناه سقيفة المزرعة أو المخزن الكبير للمعدات الزراعية المختلفة فضلًا عن القش والتبن وحيث يمكن الاحتفاظ ببعض الحبوب ، وهي الطبيعة السابقة للمتنزه التاريخي بمقاطعة جنيف السويسرية الذي تتوسطه بناية (فيلا) تحمل الاسم نفسه. وقد تردد الاسم منذ مطلع شهر يونيو الماضى، حيث كان عنوانًا رئيسيًا في نشرات الأخبار لاحتضان مكتبته لساعات محادثات الرئيس الأمريكي جو بايدن ونظيره الروسي فلاديمير بوتين لمناقشة عدد من القضايا بين القوتين العظميين في لقاء حبس معه العالم أنفاسه لسابق الهمز واللمز بين الإدارتين.
يحكي لا جرانج ،متنزهًا وبنايات، تاريخ جنيف بوقوعه في أقصى جنوب بحيرة جنيف/ليمان في امتدادها للعمق الفرنسي باتصال مع متنزه «أوه فيف»، ملخصًا موقع المدينة الفرانكفونية المتأرجح بين اتحاد سويسري وجارة فرنسية حاولت فرض سيطرتها على مدى القرون الماضية فاتسمت العلاقة دومًا بالود الحذر، ولم تستقر إلا بالحياد الذي فرضته الدول الكبرى الأوروبية على سويسرا منذ مطلع القرن التاسع عشر. ومن موقع لا جرانج على تلك التلة المطلة على البحيرة، يمثل المتنزه بخضرته الدائمة إحدى الصور الأيقونية للمدينة الواقعة بين سلسلتي جبال جورا وسيلاف، بإطلالة على النافورة الشهيرة، وأشجار معمرة وأكبر حديقة زهور تضم نحو عشرة آلاف وردة تنتمي إلى مائتي نوع وهو ما جعلها مسرحا لمسابقة دولية سنوية منذ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، لتجعل من لا جرانج الأشهر بين متنزهات المدينة التي تغطي أكثر من ربع مساحتها، وتضم قائمة زائريه نخبة من مشاهير العالم ومنهم: إليناور روزفلت والبابا بولس السادس.
ويعكس لا جرانج فخامة الطبيعة السويسرية الجاذبة للسياحة باعتباره أكبر متنزهات المدينة ،إذ يمتد على مساحة 213 ألف متر مربع، ويضم نافورات وممرات للسير وحدائق أطفال ومسرحا للحفلات الموسيقية المجانية الأسبوعية على مدى شهري يوليو وأغسطس، إلى جانب البرنامج السنوي الصيفي لمسرح ديل أورانجيري، فضلًا عن ساحة تضم اكتشافات حملات التنقيب الأثرية. من جهة أخرى، يكشف انتقال ملكية المتنزه عن تغيرات في تاريخ سويسرا المعاصر، حيث انتقلت ملكية الأرض عام 1706 من قبل أسرة إقطاعية قديمة إلى أسرة المصرفي لولين حيث نجح أبناؤه الثلاثة في بناء المبنى الرئيسي على الطريقة الفرنسية قبل ثورة المدينة في الثلث الأخير من القرن الثامن عشر بتصميم جان لويس بوفيه، استنساخا من قصر كارن على أطراف المدينة، ليتم استخدامه نزلا للضيوف ومسكنا صيفيا للأسرة، ومنهم انتقلت الملكية بالشراء إلى السويسري فرنسوا فافر الذي جمع ثروته من التجارة مع الهند، والذي ترك بصمة افتتانه بالشرق على تفاصيل الحديقة والمقتنيات، التي توالت بعده لتعكس الذوق السائد وقتئذ من كتب نادرة ولوحات ومنحوتات ورسوم جدارية ونقوش وتماثيل تنتمي لمدارس شتى، وذلك قبل أن يتبرع الحفيد المثقف ويليام فافر مؤسس جمعية القراء وعضو مكتبة المقاطعة وجمعية الحفائر بأرض المتنزه ومبانيه ومكتبته في نهاية الحرب العالمية الأولى لمصلحة البلدية تحت عدد من الشروط أهمها: الإبقاء عليه حديقة عامة.
ولم يكن للمدينة والدبلوماسية السويسرية من العثور على اختيار أفضل لاحتواء القمة باعتباره مكانًا مملوكًا للدولة، بديلًا عن الأماكن الخاصة وذلك حتى لا يتكرر ما حدث من عرض فيلا زهرة المياه في فيرسوا للبيع، المقامة منذ منتصف القرن التاسع عشر وسط مساحة قدرها 12 ألف متر، التي شهدت عام 1985 قمة ريجان-جورباتشوف الأولى من نوعها. وإن تكرر الحظر والتوتر مع القمتين، حيث شهدت المدينة إجراءات احترازية استثنائية بإعلان التقييد المؤقت للمجال الجوي للمدينة على مدى يومين بالتزامن مع القمة كما تم وضع الحواجز وأسلاك شائكة حول المتنزه الذي حمل مدخله لافتة تقول: «المتنزه مغلق كليًا أمام الجمهور، لمناسبة خاصة»، كما تم إغلاق وسط المدينة المواجه للبحيرة ونشر الآلاف من قوات الجيش والشرطة المحلية والوطنية، ومشاركة طائرات مروحية تابعة للجيش للتمشيط حماية من تهديدات الجماعات المتطرفة. كما فرضت المقاطعة قيودا على التنقل بتغيير خطوط السير وتباعد أزمنة التقاطر، كما شجعت الشركات والمنظمات على اعتماد أسلوب العمل عن بعد خلال القمة، التي أكدت شهرة سويسرا المحايدة على الساحة الدولية.
رابط دائم: