ربما لم يكن لأى عمل أدبى عربى تأثير فى الغرب مثل التأثير التى أحدثته "ألف ليلة وليلة" أو "الليالى العربية" كما فضل ريتشارد بيرتون أن يسميها فى ترجمته الشهيرة عام 1885. عبر الترجمة طار بساط "ألف ليلة وليلة" إلى معظم لغات العالم تقريبا. تجاوزت الحكايات الخالدة وما تضمنته من أساطير حملت عناصر التشويق والإبهار المقترنة بالحكمة جميع الحدود الزمانية والمكانية واللغوية والثقافية، مما أثر على الثقافة والأدب العالمى بطريقة لا تضاهى.
الحكايات، التى ترويها شابة لتفتدى حياتها وحياة نساء أخريات من ملك شرقى مضطرب يكره النساء، تدفع الملك بالنهاية لاستعادة عقله، فتنجح الشابة بإنقاذ نفسها وبنى جنسها. وتصبح "شهرزاد" رمزا لرواة القصص فى الثقافات المختلفة، حيث جذبت حكاياتها ملايين القراء حول العالم على مدى قرون، كما ألهمت العديد من المؤلفين مثل صمويل تايلور كوليريدج ، وتشارلز ديكنز ، وخورخى لويس بورخيس ، فضلا عن الملحنين مثل نيكولاس ريمسكى كورساكوف ، وصانعى الأفلام .
ريتشارد بيرتون
على الرغم من شعبية بعض الحكايات مثل "علاء الدين ومصباحه" و "على بابا والأربعين حرامي" و "سندباد البحار" - والتى أصبحت متجذرة فى الثقافة والفلكلور الغربيين ، إلا أن أقل من ربع القصص العربية البالغ عددها 550 حكاية هى التى جعلت"الليالى العربية"تحظى بالشعبية.
معظم الحكايات التى حظيت بشعبية فى الغرب هى الحكايات المرحة والممتعة لجيل الشباب ، التى تجمع بين الفكاهة والمغامرة والخيال لإثارة التشويق والدراما. ومع ذلك ، فإن بعض الحكايات الأخرى الأقل شهرة يمكن تصنيفها ضمن أدب الرعب، حيث تظهر كائنات دنيوية أخرى ومخلوقات خارقة فى لقاءات مباشرة مع البشر مثل "التاجر والجن "، "ليلة فى مقبرة"، "مدينة النحاس"، وهى حكايات خيالية يسود فيها الرعب والحزن. ألهمت العديد من هذه الحكايات المخيفة أساتذة روايات الرعب المعاصرين ، ومن بينهم إدجار آلان بو، وإتش بى لوفكرافت.
فى كتابها "كيف ألهمت الليالى العربية الحلم الأمريكي" ، تكشف المؤرخة الأمريكية والناقدة الثقافية سوزان نانس أن "الترفيه والوفرة والرفاهية والرضا" التى تميز "ألف ليلة وليلة" كانت نفس الخصائص المستخدمة لتعريف الحلم الأمريكى والنظام الرأسمالى، مشيرة إلى أن الأمريكيين أظهروا دائما افتتانا بشعب وعادات وأساطير الشرق خلال الـ 150 عاما الأولى من التاريخ الأمريكى ، سعى الجمهور الأمريكى إلى الانخراط الثقافى مع العالم الشرقى. تجادل نانس أنه فى إطار الإعجاب بالليالى العربية ، أعاد الأمريكيون تمثيل الحياة الشرقية كما تصوروها من خلال "ألف ليلة وليلة"بشكل إبداعى واستهلاكى، وأصبحت قصة علاء الدين ، الذى أصبح ثريا فجأة بفرك مصباح قديم ، دليلا وإشارة مناسبة بشكل خاص لكيفية استفادة الفرد من الرأسمالية الاستهلاكية.
تبرز نانس أيضا التأثير الكبير لليالى العربية والشرقية على الفنون والسلوك الاجتماعى، حيث تظهر الأدلة الكثيرة وجود علاقة حيوية بين التاريخ الاجتماعى الناشئ للولايات المتحدة ونظيره الشرقى مما يسلط الضوء على دراسة التقاطعات الثقافية بين الشرق والغرب، والطرق التى شارك بها الأمريكيون ودمجوا جوانب من الثقافة الشرقية فى بلادهم. فمع نمو الاقتصاد الأمريكى ، أدرك المستهلكون أنهم يستطيعون امتلاك قطعة من الحياة الغريبة الموصوفة فى "ألف ليلة وليلة "من خلال شراء سلع استهلاكية تخلق فى منازلهم انعكاسا للاستهلاك الفاخر والتحول الذى كان بمثابة استعارات للرأسمالية الديمقراطية، فى محاولة لترجمة أجواء أكثر استرخاء كما هى بالحياة الشرقية التى تصورها قصور "ألف ليلة وليلة".
ولعل النجاحات المتتابعة لأفلام ديزنى عن أساطير "الليالى العربية" مثل حكايات علاء الدين ومصباحه السحرى تشير إلى أن العديد من الأمريكيين مازالوا يتبنون صورة نمطية عن الشرق كموقع للثروات المذهلة والرومانسية والنهايات السعيدة، وهو ما يضفى على الشرق سحرا خاصا لدى المواطن الغربى، حيث تحولت حكايات "ألف ليلة وليلة" فى خيال القراء الغربيين من كونها مجرد خيال شرقى من العصور الوسطى إلى تمثيل حقيقى وصادق للشرق والشرقيين، ومن ثم فإن الصور النمطية العرقية والثقافية التى يتم الترويج لها بشكل واضح من خلال الترجمات الأوروبية المختلفة لـ "ألف ليلة وليلة" أصبحت متجذرة فى الخيال الجماعى الغربى.تلك الصورة النمطية تشاركها الأمريكيون والغرب عموما عن الشرق قبل وقت طويل من بروز المخاوف الجيو- سياسية.
أدى تطور الرسوم الكرتونية والأيقونات لحكايات الليالى العربية منذ نهاية القرن الثامن عشر إلى تعزيز الصور النمطية الغربية عن الشرق ، حيث كانت تعرض دائما صورا ومشاهد للحريم ، وأسواق العبيد ، والمناظر الطبيعية الصحراوية ، والمزارعين والمحظيات، والحمامات والقصور، وغيرها من الموضوعات المتعلقة بالعنف والشهوانية، وكان ذلك أحد أسباب التدخل العسكرى والسياسى الغربى الفاضح فى شئون الشرق حتى يومنا هذا، والذى يجد جذوره فى هذا التصور الذى دام قرونا عن الشرق على أنه خالد ودونى ومتخلف. وبالتالى، هو فى حاجة إلى تدخل الغرب المتحضر لينقذه من واقعه المؤسف.
رغم ذلك تبقى الحقيقة التى لا جدال فيها؛ أنه بالنظر إلى قيمتها التاريخية والجمالية والثقافية التراكمية؛ فإن حكايات "ألف ليلة وليلة" ألهمت وأمتعت أجيالا من القراء فى جميع أنحاء العالم وخدمت كجسور ثقافية بين الشرق والغرب.
رابط دائم: