«ينبغى أن يكون للقانون سُلطة على البشر، لا أن يكون للبشر سُلطة على القانون».. صادفتنى هذه المقولة ممهورة باسم «باوسانيوس»، الذى تبين بالبحث عنه أنه مؤرخ قديم ينتمى إلى دمشق فى عصورها الكلاسيكية، ورغم مرور عقود طويلة على مقولته، إلا أننى أراها تختصر الكثير مما نريد أن نقوله فى تلك السطور عن معنى دولة القانون، تلك التى لا تسمح بوجود مستعص على العقاب، رافعا شعار؛ ألا تعلم من أكون؟!، ولا ترضى بمجاملة فاسد أو متورط لأنه يجلس على كرسى بارز، أو يتحصن بمنصب رفيع، تلك
هى «الجمهورية الجديدة» التى تسعى يوما بعد يوم لتأكيد هذا المعنى وغيره من المعانى المحققة لدولة القانون، وسواء كان هذا التأكيد بتفعيل قوانين طواها النسيان، أو بتشريع جديد يحاصر تحرشا أو عنفا ضد المرأة، أو انتهاكا لحقوق طفل أو أى إنسان، أو يئد شبهة عدم مساواة بين أتباع الأديان، فإن المحصلة العامة تجعلنا مطمئنين إلى أننا، وقبل أن تأتينا ذكرى ثورة 30 يونيو بأيام - ورغم أن لدينا حربا لم تنته بعد مع الإرهاب - ننحنى بسلطاتنا التنفيذية والقضائية والتشريعية احتراما لمبدأ سيادة القانون.

المستشار عادل الشوربجى
المستشار عادل الشوربجى:
محاكمات الإرهابيين تمت بالقوانين العادية.. ولم نعقد محاكم «استثنائية» أو «ميدانية»
توجيهات بسرعة الفصل فى قضايا المواطنين.. وليس «الفصل السريع»
لا أحد يمكن أن ينسى واقعة الشاب النحيف ذى اللحية، الذى ظهر ملوحا بعلم تنظيم القاعدة الأسود فوق أسطح إحدى البنايات بمحافظة الاسكندرية، وقد أخذ فى إلقاء صبية صغار من أعلى خزان المياه، وكيف تسبب هذا المشهد المفزع، الذى تم تداوله فى فيديو على وسائل التواصل الاجتماعى وقتها فى حالة صدمة وهلع للرأى العام، لم تهدأ إلا بعد إصدار محكمة النقض حكمها بإعدام هذا الإرهابى. المستشار عادل الشوربجى النائب الأول لرئيس محكمة النقض، ومجلس القضاء الأعلى سابقا والرئيس السابق للجنة الأحزاب السياسية، كان رئيسا للدائرة التى أصدرت هذا الحكم، والذى جلسنا إليه ليشرح لنا كيف تجسدت دولة القانون فى أعمال السلطة القضائية، وهو القاضى الذى تحمل عبء دراسة ملفات قضايا إرهاب عديدة متخمة بالأوراق والمستندات، فضلا عن الاستماع لأقوال واعترافات ودفوع، يقول: لم يكن لأحد أن يعرف منطوق الحكم قبل صدوره، ولم يحدث أن يُطلب منا أى توجه غير الحكم العادل المبنى على الأدلة والمستندات، موضحا أن احترام القضاء وصيانة استقلاله أمر مستقر فى الدولة المصرية على مختلف عصورها، ورغم ظروف مرحلة الفوضى التى عبرتها مصر بكل أمان، فإنه لم تصدر قوانين استثنائية، ولم يتم اللجوء لأى استثناءات فى المحاكمات، إذ حوكم المتهمون فى قضايا الإرهاب بالقوانين العادية، وأمام المحاكم العادية، فى جلسات علنية، وأتيح لهم كل ما يتاح لغيرهم من كافة حقوق الدفاع عن أنفسهم، وكل الضمانات المنصوص عليها قانونا، من عرض أمام النيابة، وإحالة إلى الجنايات، إنتهاء بالتمكين من الطعن بالنقض، والذى أدان البعض، بينما برأ البعض الآخر، أو خفف عنهم العقوبة، مشيرا إلى أنه قد جرت العادة مع وجود ظروف استثنائية، أن يتم تعديل القوانين، أو تشكيل محاكم ثورية للقضاء على الإرهاب، فهناك دول قامت بما يسمى بالمحاكمات الميدانية، التى يتم فيها ضبط المتهم وإصدار حكم ضده، بل وتنفيذه بسرعة هائلة، وفى نفس مكان القبض عليه، كما حدث فى رومانيا ضد تشاوتشيسكو رئيس رومانيا الأسبق وزوجته، الذين تم إعدامهما رميا بالرصاص فى محاكمة لم تستغرق ساعة تقريبا، بل إن بعض أعضاء مجلس الشعب فى ظل حكومة الإخوان، قد طالبوا بإنشاء المحاكم الثورية والاستثنائية.
ويؤكد المستشار الشوربجى أن هذا المبدأ كان محل رفض وبإصرار من القيادة السياسية، التى أصرت رغم ظروف الفوضى والإرهاب على التطبيق الصحيح للقانون، وعلى حماية استقلال القضاء، وضرب مثلا بقضية الإرهابى محمود حسن رمضان المتهم الرئيسى فى الواقعة المعروفة إعلاميا بواقعة «إلقاء الأطفال من فوق سطح عمارة بسيدى جابر»، والذى ثبتت تهمة القتل العمد مع سبق الإصرار فى حقه، إضافة إلى تهم أخرى من بينها حيازة أسلحة ومفرقعات دون ترخيص، فى حين كانت الأحكام لباقى المتهمين تتراوح بين المؤبد والأشغال الشاقة، موضحا أنه تم تمكين دفاع المتهم من كافة مطالبه أمام محكمة الجنايات أولا، ومنها الدفع بعدم مسئولية المتهم عن أفعاله، حيث تم إيداعه مستشفى الطب النفسى بالمعمورة، تحت الملاحظة، ليصدر المستشفى تقرير ينفى ذلك تماما، كما تم الاستجابة لمطلب دفاعه كذلك بالطعن بالنقض، والتى أصدرنا فيها حكمنا السابق، فى فبراير 2015، ومشيرا من ناحية أخرى لتحقق مبدأ؛ لا أحد فوق القانون، وليس أدل على ذلك من كل تلك المحاكمات التى لا تتجاهل أى متهم يثبت تورطه فى فساد أو رشوة، والأمثلة كثيرة لشخصيات معروفة فى قطاعات كثيرة بالدولة، تمت إدانتها قضائيا.
ولكن هل هناك ثمة عقبات فى طريق تأكيد دولة القانون؟، كان هذا محور آخر قادنا الحديث فيه مع المستشار عادل الشوربجى إلى مناقشة مصطلح « العدالة الناجزة» وهو توجه أيضا من القيادة السياسية -كما قال لنا - بسرعة الفصل فى القضايا، وليس الفصل السريع، موضحا أن هناك فارقا بين الأمرين، فالأول يحقق كافة ضمانات دقة التقاضى، وما تتطلبه من أى عدد من الجلسات، ولكن دون تسويف أو طول تأجيل، خاصة أن القضايا المدنية قد تستغرق وقتا طويلا حتى يتم الفصل فيها، واصفا ذلك بأنه نوع من الظلم، فقمة العدالة ليس أن تتحقق فقط وإنما أن تتحقق فى أسرع وقت، وألا تأتى بطيئة، مشيرا إلى وجود أسباب قد تبرر هذا البطء أحيانا، منها كثرة عدد السكان، وبالتالى كثرة القضايا المنظورة، ومنها وجود ثقافة لدى الكثيرين باللجوء إلى القضاء فى أبسط النوازل والخلافات، مع الجيران أو بين الزوجين، فهناك ما يشبه اللدد فى الخصومة فى مجتمعنا، إضافة للحاجة لزيادة عدد القضاة، ويضيف رغم ظروف كورونا إلا أن الفصل فى القضايا أمر يتحقق يوما عن الآخر، ويلفت المستشار الشوربجى النظر كذلك إلى ضرورة عمل ما أسماه بتنقية التشريعات، موضحا أن هناك تشريعات كثيرة تحتاج للغربلة، حيث أننا إلى الآن لدينا قانونا اسمه قانون «التروماى».

المستشار يحيى قدرى
المستشار يحيى قدرى:
-
لدينا قواعد دستورية بلا قوانين تنظمها
-
«الطوارئ».. استثناء يراعى ظروف البلاد
عشر سنوات منذ يناير 2011 وما تلاها من أحداث شكلت عبئا كبيرا على البلاد، لم تمح كافة آثارها بعد، ووفقا للوصف الذى استخدمه المستشار يحيى قدرى الفقيه القانونى والرئيس التنفيذى السابق لحزب الحركة الوطنية، فإن الأمر كان أشبه بعملية جراحية شديدة، خلفت جراحا عضوية ونفسية، ومع ذلك فهى لم تمنع مصر أن تكون بحق دولة قانون، بمعنى أن كل من الحاكم والمحكوم يحترم القانون؛ ويلتزم بنصوصه التزاما دقيقا لا يمكن الحيد عنه، لكنه استلزم أيضا من ناحية أخرى أمورا يمكن أن يفسرها البعض على أنها قيود تحد من الدولة القانونية الكاملة، والتى تسعى مصر ونسعى جميعا إليها منذ 30 يونيو، ألا وهى الدولة التى يحكمها القانون فى كل مناحى الحياة وبخاصة التشريع، فلا يصدر تشريعا إلا ويكون مراعيا لخصائص أى قاعدة قانونية، من حيث العمومية والتجريد، والأمر الذى نتفهمه جيدا - يضيف المستشار قدرى- أن هناك ظروف مجتمعية قد تجعل أولى الأمر والسلطة التشريعية مضطرين للتدخل بقوانين حاسمة لمنع خطر جسيم تمر به البلاد من الاستفحال والتوغل، ولكن هذا لايعدو أن يكون استثناء، كما فى القانون المنظم لحالة الطوارئ، والتى تشكل عبئا على فكر وصورة الدولة القانونية الكاملة، لكونها تستلزم إجراءات استثنائية لا تتواكب وفكرة الدولة القانونية، ولكن يجب أن نسأل أنفسنا هنا، ألا تستحق تلك الهجمات الإرهابية، والأطماع الخارجية التى تحيط بمصر أن نعتبرها أمرًا استثنائىًا يستلزم الانتقاص من حريات الأشخاص، خاصة أولئك المشتبه فى تورطهم بالعمل ضد مصالح البلاد؟.
فالأمر هنا - يكمل المستشار يحيى قدرى- أشبه بالتدخل الجراحى لإنقاذ حياة إنسان، إذ لا يمكن وصف هذا المشرط الجراحى بأنه اعتداء على هذا الجسد المريض المطلوب أن يبرأ مما فيه من علل، وهكذا فإنقاذ حياة المجتمع تعلو على كافة المصالح الأخرى، وذلك كله يتم مع الوضع فى الاعتبار أن هذا الأمر يأتى على سبيل الاستثناء، وليس الأصل، وبالتالى يتعين زواله فور زوال سبب وجوده، وإلى أن يحدث ذلك فهناك قواعد داخل هذا الاستثناء منها، أن يتم التعامل معه من خلال مظلة التفسير الضيق للنصوص المنظمة له، فلا يٌقاس فيه ولا يتم التوسع فى تفسيره، ويكون علينا جميعا أن نتفهم تلك الأوضاع، ويكون على الحكومة أن تضع أمام الشعب الحقيقة كاملة، حتى نكون على علم بدوافع هذه الاستثناءات.
ويؤكد قدرى أن من نجح فى إنقاذ مصر من الجماعة الإرهابية فهو قادر على استكمال الدولة القانونية، عندما تسمح الظروف والتحديات المجتمعية بذلك، مشيرا إلى أن هناك جانبا آخر يتعلق بالشعب نفسه، إذ مايزال هناك من يعتقد أنه يمكنه بالصياح والهتاف أن يحصل على حقا له، أو أنه ينال باستخدام القوة أمرا يريده، أو أن يخترق بيده تشريعا ليعترض عليه، فهذا يتنافى تماما مع دولة القانون التى نعيشها، والتى رسمت طرقا قانونية وقضائية لنيل هذه الحقوق، وهذا يبرر وجود قيود على حرية التظاهر، إذ مازالت الرغبة فى الفوضى موجودة لدى البعض، يُضاف إلى ذلك الدواعى الأمنية اللازمة لحماية أمن كل من الوطن والمواطن، فليجب ألا تكون حرية ينشدها الآخر سببا فى الاعتداء على حرية غيره أو المساس بأمنه واستقراره، وهذه أمور لا تحتاج لقوانين فقط بقدر ما تحتاج لإعادة إحياء قيم التسامح والأخلاق والانضباط واحترام القانون لدى الجميع.
ويوضح أن هناك شقا ثالثا يتعلق بالمجالس النيابية المكلفة ضمنيا من الشعب بأن تراعى فى إصدار القوانين كافة قواعد الدستور، حتى لو أدى ذلك لرفض قوانين مقدمة إليها من الحكومة مثلا، دون أن يُفسر ذلك على أنه إجهاض لانجاز حكومى، وإنما قد يكون تصويبا له، أو درءا لشبهة به، مؤكدا أن هناك قواعد دستورية لم يتم إصدار القوانين المنظمة لها، والتى يتعين استكمالها.

د.عبدالله المغازى
د. عبدالله المغازى:
-
دولة سيادة القانون تكتسب أرضا جديدة.. ونحتاج المزيد
-
نأمل أن يرى قانون «الإدارة المحلية» النور قريبا
المشكلة ليست دائما فى غياب التشريعات والقوانين، وإنما فى وجود إرادة سياسية لتفعيلها، وتعديلها، أو استحداث قوانين أخرى إذا استلزم الأمر.. هذا ما أكده الدكتور عبدالله المغازى أستاذ القانون الدستورى وعضو مجلس النواب السابق، موضحا أن هذه الإرادة قد توفرت لمصر منذ 2014، وبناء عليه تم تفعيل قانون البناء الذى كان موجودا، ولكن لم يتم تفعيله إلا بعد صدور قانون المصالحات، كما خضعت قوانين أخرى لتعديل يحقق حماية أكبر للطفل، وللمرأة؛ تارة يحميها من التحرش بها، وتارة أخرى يحميها من ممارسات الختان التى تنتهك أنوثتها وجسدها، وإذا انتقلنا لقانون بناء الكنائس الذى كان وعدا تحقق من الرئيس عبدالفتاح السيسى، حين قال: أصدرنا قانونا لبناء الكنائس فى مصر بعد أن ظل حلما لمدة 150 سنة، كما حقق وعده بأن يكون هناك كنيسة فى أى مدينة جديدة للدولة، وهو ما تحقق فى كنيسة العاصمة الإدارية الجديدة، وجاء كذلك تفعيلا لمواد الدستور رقم53 التى تنص على أنه لا تمييز بين المواطنين بسبب الدين، أو العقيدة، وكذلك المادة 64 التى تنص على أن حرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة لأصحاب الأديان السماوية حق ينظمه القانون، وتفعيلا للمادة 235 من الدستور تم إصدار القانون رقم 80 لسنة 2016 بشأن تنظيم وبناء وترميم الكنائس، وبناء عليه شهدت عمليات تقنين أوضاع الكنائس وعمليات إنشاء والترميم لها طفرة كبيرة فى السنوات الماضية.
ويوضح دكتور المغازى من ناحية أخرى، أن هناك أفعالا لم تكن مجرمة مثل العنف ضد المرأة فأصبحت كذلك، ومثلها جرائم تتعلق بالإنترنت، وكانت هناك أيضا مبادئ تخالف الدستور ومنها مبدأ المساواة، إذ لم يكن من حق خريجات الحقوق التقدم إلى وظائف النيابة العامة ومجلس الدولة، وهو ما تحقق لهن أخيرا، مشيرا إلى أن ذلك كله لا يعنى أننا قد اكتفينا، أو أنه قد تحقق لنا الاكتمال، وإنما نستطيع القول إن دولة سيادة القانون فى مصر تكتسب كل يوم أرضا جديدة، ولكننا نحتاج المزيد، لأننا دائما نقول أن التشريعات والقوانين، ناقصة نقصان البشر، فإذا أردنا مثالا على هذا النقصان، فلدينا التوكتوك الذى تحدثنا عن سلبياته وعشوائيته كثيرا، التى دعت مجلس الوزراء قبل ثلاث سنوات لمناقشة الأمر، والنظر فى استبداله بالسيارات الصغيرة» التمناية» ومع ذلك لم يحدث شئ، ولايزال التوكتوك مثالا على وجود نوع من «الشيزوفرينيا القانونية»، تجعل تسييره ممنوعا بشوارعنا، لكن استيراده وتصنيعه غير ممنوع !!!.
وكذلك قانون الإدارة المحلية المحفوظ بالأدراج منذ سنوات، والذى ينظم عمل المجالس المحلية، التى اختفت منذ 2011 رغم أهميتها فى الرقابة على المحليات، والتى لا ننكر أن جزءا لا يستهان به من مشاكلنا سببه وجود فساد فى المحليات، ونأمل أن يرى قانون الإدارة المحلية النور قريبا.

د. خالد القاضى
د. خالد القاضى:
-
الفصل بين السلطات الثلاث.. أهم ضمانات دولة القانون
-
الحكم الرشيد يهيئ البلاد للتنمية
(دستور - رئيس - برلمان).. ثلاثة استحقاقات رئيسية حددتها خريطة طريق ثورة يونيو 2013 لإقامة تلك الدولة القانونية (دولة القانون)، التى شهد الواقع المصرى بعد ثورة 30 يونيو 2013 تجسيدا حقيقيا لها.. والذى يأتى كما يؤكد المستشار الدكتور خالد القاضى رئيس محكمة الاستئناف، والفقيه التشريعى والدستورى، إمتدادا لتاريخ مصر القانونى العريق، ويضع أسسا لنموها وتنميتها من أنها دولة قانون واقع. فهى «الحكم الجيد» أو «الرشيد» أو «السديد» الذى له أبعاد تنموية، ويهيئ للتنمية البشرية، وذلك وفقا للمفهوم الدستورى.
ويؤكد دكتور القاضى أن دولة القانون تقيد نفسها بنظام قانونى تشريعى محدد، متجسدًا بالسلطات الثلاث للدولة (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، بهدف تحقيق ضمان أفضل لنوعية الحكم، وهى على العكس تماما من الدولة البوليسية التى يستبد فيها الحاكم ويجمع كل السلطات فى يده منكلا بمعارضيه وأعدائه، موضحا أنه رغم أن مفهوم دولة القانون ومضمونه يعتبر من المفاهيم ذات دلالات تختلف باختلاف بعدى الزمان والمكان، وحسب السياق التاريخى والثقافى كذلك للأمم أو المجتمعات، إلا أنها تشترك فيما بينها فى تحديد المفهوم العام لدولة القانون.
مشيرا إلى أن مبدأ الفصل بين السلطات يعتبر من أهم ضمانات دولة القانون، بمعنى أن كل سلطة تملك الوسائل الكفيلة بالحد من تعسف أو تجاوز السلطات الدستورية الأخرى، فالسلطة التنفيذية، مثلا يجب أن تتفق أعمالها وتصرفاتها، كسلطة إدارية ليس مع أحكام الدستور فقط، بل مع أحكام القواعد القانونية الأخرى النافذة من قوانين عادية ولوائح تنظيمية استناداً لمبدأ المشروعية، ويكون «القضاء» هو الضامن والكفيل لتأمين احترام السلطة التنفيذية (الإدارة) لهذه الأحكام من خلال دعوى الإلغاء ودعوى التعويض عن أعمالها المادية وتصرفاتها القانونية (سواء اللوائح التنظيمية أم القرارات الفردية) .
وكذلك فإن أعمال السلطة التشريعية يجب أن تدور فى حدود أحكام الدستور، وخاصةً فى إصدارها للتشريعات. فلا تملك السلطة التشريعية أن تخالف أحكام الدستور، فى نصها وفى روحها، من خلال القوانين الصادرة عنها. فأحكام القوانين يجب أن تكون متفقة مع أحكام الدستور، وضمان ذلك يكون عن طريق الرقابة على دستورية القوانين.
أما السلطة القضائية فهى تعتبر الوسيلة الأمثل لصيانة وحماية الحقوق والحريات، سواء فيما يتعلق بخضوع السلطة التنفيذية أو الإدارة للقانون، أم فى خضوع السلطة التشريعية للدستور؛ ووجود قضاء مستقل شرط أول لوجود باقى مقومات الدولة، والرقابة القضائية لا قيمة لها إلا إذا كان القضاء مستقلاً، وقواعده القانونية (الشكلية والموضوعية) محددة ومعروفة مسبقاً (قاعدة الجهل بالقانون لا يعتد به والتى تفترض النشر أو الشفافية وفق مفهوم الحكم الجيد)، لا يمكن للسلطة (الإدارة) أن تخرقها.
ومن أهم دعائم دولة القانون كذلك - يكمل المستشار خالد القاضى - الإيمان بقيمة وأهمية الفرد والذى يعتبر إحدى الإيديولوجيات الأساسية التى تقوم عليها المجتمعات الديمقراطية. هذا الإيمان فى الواقع ناجم عن موروث تاريخى أفرزته الحضارات التى تعاقبت على هذه الدول. فالعصور القديمة ركزت وأكدت إنسانياً على الشخصية الإنسانية الحرة المسئولة، واقتصادياً على الملكية الفردية، واجتماعياً على العدالة. وقد جاءت الحضارة اليونانية اللاتينية على تنظيم ذلك فى إطار الدولة أو السلطة السياسية. ومن ثم أدخلت المسيحية على هذه الأفكار دقة ولهجة جديدة: ففكرة الإنسان الحر المسئول أعطيت مزيداً من القيمة من خلال التأكيد على النفس والخلاص الفرديين، وأكملت فكرة العدالة بفكرة الإحسان، ثم جاء الإسلام ليضفى على هذه القيمة الإنسانية للفرد والثقة به وفيه ضمانات وضوابط جديدة مكملة لما سبقها، وهو ما استفادت منه التجارب الدستورية والتشريعية لبناء وتعميق تلك المفاهيم فى الدول القانونية، مرددين مقولة الإمام محمد عبده «القانون هو سر الحياة وعماد سعادة الأمم، وأن القوة لا تأتى بثمرتها الحقيقية إلاّ إذا أعضدت باتباع الشرع والقانون الذى أقر العقلاء بوجوب اتباعه».
لقد آن الأوان لترسيخ كرامة الإنسان وحقه وواجبه فى بناء بلده سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.
فلن نكرر تجربة الهتاف بإسقاط النظام، ولكننا سنبنى ونعمر ونكرس جهودنا لمصرنا الغالية، لكى نعكس وحدة المجتمع تجاه قضايا اجتماعية تتجسد بعدم تكفير من يختلف فى الأمور الدينية غير القطعية والابتعاد عن إحداث فتنة لمجرد وجود تباين فى وجهات نظر ترتكز على أسس علمية وتاريخية، فالوطن للجميع ولابد من التعايش السلمى بين طوائف وأديان المجتمع كافة.
رابط دائم: