«الكلمة الصادقة تحجز لنفسها مقعدًا ثابتًا فى مملكة الخلود».. لا أحد يثبت صحة هذا الافتراض مثل الأديب الإيطالى دانتى أليجييرى الذى رحل عن عالمنا قبل 700 عام، وتحديدا سنة «1321م» مخلفا وراءه إرثا خالدا من المؤلفات المتنوعة فى الأدب والمسرح والفلسفة والسياسة ليصبح أحد الآباء المؤسسين للفكر العالمى متجاوزا انتماءه الضيق كأحد أبناء فلورنسا بإيطاليا.
تُعد «الكوميديا الإلهية» أشهر أعماله على الإطلاق، وهى ملحمة شعرية بديعة تتناول عوالم الغيب بصورة خيالية لكنها مليئة بالحكمة والرؤية المدهشة مثل أن الإنسان نفسه هو مصدر الشر، ويجب ألا يبحث عن قوى خارجية ليتخذ منها عذرا أو «شماعة» يعلق عليها أخطاءه.
يقول دانتى فى القصيدة السادسة عشرة من «الكوميديا»: إذا كان العالم الحالى منحرفاً وضالاً فابحثوا عن السبب فى أنفسكم.
فى هذا العمل الذى يتكون من 14 ألفًا و233 بيتا شعريا، يتخيل دانتى أن الجحيم مكتوب على بابه: «لا أمل لك يا من تدخل هنا»، والطريف أن هذه العبارة التقطتها أخيرًا سلسلة أفلام «قراصنة الكاريبي» فى «ديزني» فضلا عن فرق موسيقى «الروك» الأمريكية لتجعل منها إيقاعا راقصا!
ويذهب البعض إلى أن كلمة «إلهية» هنا لا يقصد بها المعنى الحرفى للكلمة، وإنما هى صفة تُخلع مجازا فى اللغة الإيطالية على كل ما هو عظيم ورائع لجماله وإتقانه واكتماله، وبالتالى تصبح الترجمة الحرفية «الكوميديا العظيمة».
لكن ما حدث كان عكس ذلك، فقد ظل العمل يكتسب الترجمة المغلوطة فى كل اللغات، وليس فى «العربية» فقط، جريا على نظرية تقول إن الخطأ الشائع يكتسب مشروعية بسبب شيوعه بل يصبح مفضلا على الصحيح المستغرب المستهجن!
ولا يزال الجدل يُثار بقوة حتى الآن حول المؤثرات الإسلامية فى هذا العمل الشهير، إذ يذهب بعض الباحثين إلى أن دانتى قام بالسطو على «رسالة الغفران» لأبى العلاء المعرى حين تمت ترجمتها إلى اللاتينية، فيما يذهب آخرون إلى أن الأمر كان مجرد « تأثر»، وليس «سرقة»، بينما تكاد المصادر كافةً تجمع على أن «الكوميديا الإلهية» هى النسخة الأوروبية من «رسالة الغفران».
المفكر الراحل د. لويس عوض يميل إلى الرأى الأول فى كتابه «على هامش الغفران»، إذ يذهب إلى القول بأن أوجه الشبه بين العملين «أوضح ما يمكن أن يُنسب إلى محض المصادفة أو توارد الخواطر بين الشعراء».
بصرف النظر عن النتيجة النهائية لهذا الجدل التاريخى، فالمؤكد أن الموقف الثقافى لدانتى أليجييرى لم يفصل عن موقفه السياسى، بمعنى أن الرجل لم يكتف بالصعود إلى البرج العاجى، ويطل مترفعا عن الجموع فى شوقها للعدالة، وبحثها عن الخير والحق والجمال.
لقد كان الأديب الإيطالى أحد أحرار التاريخ الذين وضعوا أسس الدولة المدنية الحديثة التى لا تسمح بتغول جماعة أو فئة على مقدرات البلاد بزعم أنها مندوبة السماء على الأرض، أو تملك تفويضا إلهيا مباشرا لتقرر من هو المؤمن الجدير بدخول الجنة، ومن هو الكافر المطرود من رحمة الله.
رابط دائم: