رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

أحمــد أبو خنيجر بعد حصـوله على جـائـزة «التفـوق»: متعـــة القارئ.. رهانى الأســـاسـى فى الكتابة

حوار أسـامة الرحــيمى
أحمــد أبو خنيجر

فى أسوان وجدت ذاتى ورأيت تجليات العالم ومراحل الإنسان

أنا ابن الجماعة الشعبية وانتبهت لما أملكه وأستطيع فعله

القاهرة مجهدة للروح.. والإبداع يمكن أن يزدهر بعيدا عنها

 

 

كان أبوه أول من أوقعه فى غرامها، باصطحابه إليها، وحكاياته التى لم تنقطع عن أعاجيبها، وبقدر انبهاره بتفاصيلها فى طفولته.كان يقبض على أصابع أبيه، لينعم بشغفه، مستعينا به على خوفه من كل شيء فى شوارع القاهرة، المزدحمة، المبهرة، وبقدر ما خشيها وقتما شبّ، وتفادى الإقامة فيها حين نما وعيه، وغالبته الكتابة، وأعانته على ندّاهتها قصصه المنشورة فى جرائدها، ومجلاتها. فما حاجته إليها إذن، وقد حقّقت له أفضل ما تمناه منها؟

هكذا انفتحت مداركه كافةً على آفاق أسوان المتجددة، فراح ينهل من كوامن جمالها القديمة والحديثة، الظاهرة والخفية، حتى ارتوى بفكرة البقاء فيها، واطمأن قلبه إلى أن الإبداع يمكن أن يزدهر حتى لو كان بعيدا عن العاصمة القاهرة أكثر من ألف كيلومتر.

براح الكتابة فى بلده وادع رحيب، ومهما تكاثرت مشاغل الحياة والعمل، لا تبدد الهدوء المقيم. وصَدَقَ حَدْسه، حيث أبدع ما أراد، كما يحب، ونال تحققه الأدبى تدريجيا بلا زعيق، وبعيدا عن أى مشاحنات، وسعى إليه الفوز المتكرر بقدر اجتهاده. ولم تنقطع محبّة «أحمد أبو خنيجر» للقاهرة، وحافظ على شغفه بها، بزيارات متقاربة، يلتقى خلالها الأحباب، ويستطلع أحوال الإبداع الثقافية، ويتسمع نبض العاصمة الهادر، فإذا شعر بتوتراتها تتصاعد، آب إلى مكمنه، ولاذ بدأبه. ولأنها باتت على يقين من جديته، راحت تبادله المحبة، وترسل إليه الجوائز، تقديرا لإبداعه، واحتراما لعزلته المثمرة. ومن هنا كان معه هذا الحوار.

ما الآثار الإيجابية للجوائز على المبدع، هل تكون دافعا لمزيد من التحقق، أم تجعله أكثر تدقيقا فى كتاباته؟

قد يستمر زهو الجائزة فترة، وسرعان ما ينقشع ليضعك مرة أخرى فى مواجهة الورق الأبيض، وحدك، عاريا إلا من وعيك وأحلامك التى تحاول فى كل مرة النبش والقبض عليها عبر الورق، غير أننا لا ننزل النهر مرتين بنفس الوعى، هناك تبدل ما جرى، إحساس بثقل ومسئولية ربما لا نأخذه على محمل الجد فى البداية، لكنه جرى وتم التورط وبات عليك الانتباه، ذلك الأمر الذى تكون منذ البداية، تلك الجدية والالتزام والجهد، لا يمكن التنازل عنها، الأمر الآن صار مضاعفا مهما قللنا منه أو تخففنا من قيوده، ليس الحذر أو الاطمئنان هو ما يقود الخطوة بقدر الرغبة العارمة فى اكتشاف مساحات جديدة لم نصل إليها من قبل.

الجوائز التى حُزتَها متنوعة بين الدولة والخاص، وبين الرواية والمسرح، فهل لأيها أفضلية على غيرها؟ وهل الثقة بلجان التحكيم فيها واحدة، أم هناك اختلاف ما بتقديرك؟

دوما ستجد الخلاف والاختلاف حول الجوائز، أيما كانت، بالطبع لا يمكن كسب رضا الجميع، غير أن الفارق الجوهرى بين الجوائز قد يكمن فى قوانين الجائزة نفسها وشروطها ولجان تحكيمها. تكتسب الجائزة ثقلها ونزاهتها من وضوح شروطها الصارمة وثقل وعى لجنة التحكيم، وهو الأمر الذى يفضى إلى ارتياح حيال تقبل نتائجها. اللغط لن يتوقف، ليس فى مصر وحدها بل فى أعرق الجوائز العالمية، راجع ما يحدث كل سنة مع جائزة «نوبل» على سبيل المثال، وهذا أمر طبيعى يخص الشعور الإنسانى بطبيعة الحال.

وفى كل جائزة أحصل عليها رغم فرحتى بها أقول لنفسى إننى أجدت بدرجة جيدة رأت اللجنة استحقاقها للجائزة، لكن لجنة أخرى قد لا يروقها هذا العمل فتسقطه من الجائزة، وهذا حدث مع أعمال كثيرة، يبدو التوفيق أفقا جيدا فى ذات الوقت تأتى الجائزة كربتة على الكتف: «إنك على الطريق، أكمل». وأصل بالقدر نفسه من الجهد والعزم.

بمناسبة أسوان، وبعدها عن القاهرة، هل كان هذا لمصلحة إبداعك أم ضده أم أن التطور التكنولوجى ألغى تلك المسافات، ولم يعد المبدع بحاجة للإقامة فى العاصمة، مادام يشعر بحيويتها الثقافية لحظة بلحظة؟

ـ منذ البدايات البعيدة كنت أرسل قصصى بالبريد لمحررى الصحف الأدبية وأجدها منشورة بعد فترة قصيرة، وهذا فى ظنى حمانى من فكرة النزوح للقاهرة، وهى مدينة مربكة ومجهدة لروحى ولا قبل لى بتحمل صخبها وضجيجها المتواصل على مدى الساعة. وأكد هذا الأمر لى أن كل الأشياء يمكنها أن تحدث وأنا بعيد عن القاهرة، فقط على الانتباه لما أملكه وأستطيع فعله، وكيف على أن أطور فى ذاتى وأدواتى؛ ومن المؤكد أنها حدثت. وبالطبع وجود أجهزة الاتصال والتواصل الحديثة قلل كثيرا من حدة الانتقال للقاهرة، خاصة أن الكتابة السردية والمسرحية لا تتطلب فعليا الوجود الجسدى، بخلاف الكتابة للسينما أو التليفزيون أو الأغانى وغيرها من الألوان، قبل هذا، يأتى تفضيلى المدن الصغيرة بضجيجها المتوسط.

يبدو من أعمالك أن أسوان هيأت لك عالما مغايرا، وربما فريدا، لم يقترب منه أحد قبلك بهذا الزخم الإبداعى؟ وهل يختلف ريف أسوان عن حضرها فى انعكاسه على رواياتك وقصصك؟

ـ تكوين أسوان بديع على المستويات كافةً، بدءا من جمال الطبيعة وتنوعها المذهل والمتجاور بين الصخور والجبال والرمال والنهر والأرض الزراعية، تباين الألوان والأعراق البشرية، التبدلات القاسية للشمس الأسوانية تنضج الصخور قبل البشر، لتشكلهم ما بين القسوة والرقة. ذلك التجاور الخلّاق صنع عالما فريدا، ليس بامتداده التاريخى المتجلى فى المعابد العظيمة، ولكن أيضا بذلك الامتداد الجغرافى الهائل المشتمل على التنويعات كافة؛ رُبّما ورطنى ذلك مبكرا فى عشقها ومن ثم دفعنى للتفتيش والتنقيب عن دقائقها الذهبية. يكفى مثلا أن تصعد لقبة أبى الهوا، لتحتضن المدينة بتنوعاتها المذهلة. هذا المشهد العام لن يكون كافيا للمعرفة، لكنه يدفعك لعمل «زووم» (تقريب) حتى ترى وتلمس وتشم تلك الاختلافات المتبدية فى الملابس والروائح وألوان البشرة واللهجات وأنواع الغناء والموسيقى والفنون فى الفرح والحزن، وكثافة الحكايات النابعة من قلب النيل، تلك الحكايات التى يرعاها «حابى» بحنو بالغ، حتى وإن شطرت وذهبت لصحراء «ست»، من تلك البقعة سترى كيف جلس «خنوم» ليشكل الوجود المصرى على دولابه، وكيف جاهدت «إيزيس» لإنقاذ البشر من الفناء حينما قرر «رع» فى نوبة غضب طائشة إنهاء هذه الدراما البشرية المتجددة؛ فى هذا الركن من العالم وجدت ذاتى وتوافقت وتواءمت روحى معه، لذا يمكننى رؤية تجليات العالم كله هنا، أقصد تجليات الإنسان فى مراحل حياته المتتالية.

بجانب الرواية والقصة، كتبت المسرح، وفزت بجائزة مهمة فيه العام الماضي؟ فهل استلهامات المسرح فى أسوان تختلف عنها فى مسرح القاهرة؟ أم أنك تكتبه بأفق قاهرى، وستينى ربما؟

بداياتى الباكرة كانت مع المسرح، فى تلك «الاسكتشات» الصغيرة التى كنا نقدمها فى المدرسة، وأنا وإخوتى فى البيت، ربما كان ذلك مجرد «لعب عيال»، لكن مع التناقضات التى تبدت فى الوعى ما بين الوعى الجمعى الشعبى ومنظومة القيم التى يتمثلها، والوعى الكتابى بتناقضاته أيضا، كان هذا يقربنى أكثر من قوة الدراما المسرحية التى يوفرها المسرح على عكس الرواية، وهو ما دفعنى لمناقشة مفهوم البطل الشعبى، عبر نصين متتاليين: «ياسين»، و«أبو زيد لمّا غرّب». لكن المسرح بطبيعته استلابى، يعنى أنه يستحوذ عليك بالكلية، لذا أهرب منه كثيرا، لكن مع «فوانيس الليل»، العمل المسرحى الأخير، لم أستطع فعل ذلك، رغم الإغراءات التى قدمتها بتحويل النص إلى رواية، ذلك أن أجواءه صحراوية بامتياز، من ثم كان بعيدا عن أجواء مسارح القاهرة أو الأفق الستينى.

دائما، كنتَ مفتونا بالفنون الشعبية، مثل غناء الشيخ «أحمد برين»، ورفيقه «العجوز» (وأمثالهما)، وقدمت كتبك: «كان ياما كان دراسة فى الحكاية الشعبية»، و«الطرق الصوفية فى أسوان» ثم «الإنشاد الدينى فى جنوب مصر». فما الذى اجتذبك إلى هذا العالم الثرى؟

ـ أنا ابن الجماعة الشعبية، تربيت بين نيلها وجبالها وحكاياتها وغنائها ورقصها ومواويلها، بين ألغازها وعبقرية تعبيراتها، وحينما شرعت فى الكتابة عنها لم يكن هناك من طريق إلا فهم مكونات وعيها وطريقة نظرها للعالم، وقبل هذا كيف ترى نفسها، بدأت بجمع الحكايات وأغانى الكف وغيرها من المظاهر التى تغطى مناحى الحياة كافة، لم يكن الغرض الجمع وفقط بقدر ما هو بداية للتحليل والدراسة للوصول لبعض الفهم لها، وهو ما تجلى مثلا فى كتاب: «كان ياما كان» دراسة فى الحكاية الشعبية». وتلاه كتاب «الطرق الصوفية فى أسوان»، وهو ما «جرجرنى» لدراسة الاحتفال الشهير بالوليّ الكبير «أبى الحسن الشاذلى»، فى كتاب: «فى رحاب الصحراء»، «مدد يا شاذلى». وكتاب آخر سيصدر قريبا عن «الإنشاد الدينى فى جنوب مصر». لكن فى كل هذا وقبل الدرس والفهم، يبدو العشق هو العتبة التمهيدية لذلك، فأنا أعشق أداء المشايخ «أحمد برين» و«العجوز»، و«الرنان»، و «لعطوانى»، وغيرهم من مشايخ الإنشاد، إلى «رشاد عبد العال» و«أبو درويش» ملوك فن الكف الأسوانى، إلى تنويعات السيرة وغناء السيدات فى الأفراح والتحنين للحج، ببساطة ستكتشف أن الفن هو صنو الحياة، فالجماعة الشعبية لا يمكن أن تُفوّت حدثا دون وضع بصمتها الفنية عليه فى تجلياتها الحياتية كافة.

كلما ناداك أبو الحسن الشاذلى قطعت إليه الفيافى بمئات الكيلو مترات، كأنها تمشية بسيطة، فما أعجبه من نداء. وضعت عنه كتابك «فى رحاب الصحراء»، «مدد يا شاذلى». فلأى مدى يختلف عن الدراسات الشعبية المعروفة،؟

فى كتابى هذا. لم أسلك سلوك الدراسات الشعبية، بل غلب الطابع الأدبى عليه. وبدا كأنه رحلة استكشافية لهذا العالم، ما بين الانطباع الشخصى ومظاهر الاحتفال، منذ بداية الاستعداد للسفر إلى «حميثرا»، والطريق، وحكايات المريدين، والمقام والدورة، وليل الذكر والسحر، وسط الطبيعة القاسية نهارا، الخلابة ليلا، ثم وقفات سريعة مع رحلة الإمام الشاذلى منذ مولده حتى وضع رحاله نهائيا فى سفح حميثرا فى رحلته الأخيرة للحج.

اختطفك فن «الحكى» أيضا، فلم تكتف بتعقب ذلك الفن فى مكامنه، بل اجترحته، وأضفت إليه، فمن أين أتتك غوايته؟

فتنتى المبكرة بالحكايات التى كنت أسمعها من حكّائين عظام، رجالا وسيدات، كل بطريقته الساحرة، كانت قادرة على تحويل ما أسمعه إلى صورة عبر التخيل، صور متتابعة لخيال وثّاب تبثه الحكاية، لا يمكن فصل تلك الصور فى عقل الطفل عما يسمعه بأذنيه، ذلك أنه حتى إذا خفت صوت الحكاية توهج بريق الصورة مستحضرا وقع الكلمات وطرق الأداء المتنوعة، ربما دفعنى هذا فيما بعد لدخول هذا المضمار، مضمار الحكى، ليس على مستوى تقديم عروض حكى فقط، ولكن من خلال كتابة نصوص حكى قصيرة، ما بين الشعر والسرد، الفصحى والعامية، أو الصورة والنص. أحاول فى تلك النصوص تقطير تجربة فى دفقة مركزة، سامحا لأفق التلقى بأن يكمل، حسب موضوعاته، ما أحجمت عنه، ربما رهانى الأساسى فى كل ما أكتبه هو المتعة، فدونها لا يمكن تحمل أى نص مهما تكن الأفكار التى يناقشها، المتعة فى البداية، وفى الحقيقة هى متعتى المباشرة فى أثناء الكتابة، وتلك المعاناة المحببة فى قنص الكلمات والصور والمواقف والمشاهد. دون تلك المتعة لن أكمل، وإن حدث وشعرت بفتور أو ملل فى أثناء الكتابة فيتوجب على أن أترك القلم فورا. لا يمكن لكتابة لم تمتع صاحبها أن تمتع القارئ فى خلوته، فورا سينفض يده من الكتاب، ويبحث عن غيره، ويمكن تلمس ذلك من خلال المحيطين بك، فى القراءة أو عروض الحكى ذاتها.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق