لم تكد تنقضي الشهور الأولى من ولاية الرئيس الأمريكى جو بايدن، إلا وساد أسلوبه الدبلوماسى الهادئ على سياسته الخارجية، فى مواجهة ميراث التصعيد العسكرى الذي خلفه سلفه الجمهورى دونالد ترامب.
ففي أبريل الماضى، حسم بايدن الموقف الأمريكي من الوضع فى أفغانستان، وقرر البدء فى سحب قواته من كابول (نحو ٢٥٠٠ جندي، وأكثر من ١٦ ألف متعاقد مدنى)، على أن تكتمل عملية الانسحاب قبل ١١سبتمبر ٢٠٢١، فى دلالة رمزية على النجاح فى الثأر لأرواح الضحايا الأمريكيين من تنظيم «القاعدة» والقضاء على خلاياه. وتغاضى بايدن عن الشروط الثلاثة التى وردت فى نص الاتفاق، الذى أبرمه ترامب مع حركة «طالبان»، متعجلا التخلص من عبء الوجود العسكرى على أرض الكهوف والجبال التى استنزفت العسكرية الأمريكية، ما بين مقتل أكثر من ٢٤٠٠جندى أمريكى، وإصابة أكثر من ٢٠ ألف آخرين، بل وخسائر اقتصادية بلغت نحو ٢٫٢ تريليون دولار، وهو رقم يفوق ١٥مرة ما استثمرته الولايات المتحدة فى خطة «مارشال» فى غرب أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية. واستلهم بايدن فى خطته بأفغانستان تجربة الجنرال لويد أوستن، فى أثناء قيادته للقوات الأمريكية فى العراق، ونفذ ببراعة وحنكة استراتيجية الرئيس الأسبق باراك أوباما فى الانسحاب عام ٢٠١١. فأسند وزارة الدفاع لأوستن مستفيدا بخبرته وصمته للخروج من المستنقع الأفغاني.
وتصطدم خطة بايدن الأمنية بتوقعات الخبراء لاندلاع حرب أهلية مدمرة، فى حالة فشل الأطراف المتصارعة حول السلطة فى أفغانستان فى التوصل إلى اتفاق سياسى قبل الانسحاب الكامل، خصوصا مع ضعف الحكومة الحالية فى المواجهة عسكريا أمام عناصر الإرهاب، فيما شكك كينيث ماكينزى قائد القيادة المركزية الأمريكية، فى قدرة الجيش الأفغانى على مواجهة طالبان، معترفاً بأن الحركة المتمردة صارت أكثر عدداً وقوة وتسيطر على أراضٍ ومساحات واسعة. وحذر السيناتور ميتش ماكونيل زعيم الجمهوريين فى مجلس الشيوخ من «خطأ الانسحاب الضخم»، مؤكدا أن قرار بايدن لا يحظى بإجماع داخل أروقة صنع القرار سياسياً وعسكرياً، كما حذر السيناتور الجمهورى ليندسى جراهام من أن أفغانستان ستظل بؤرة إرهاب عالمية. وتمسكاً بسلاح الدبلوماسية، تتجه أنظار بايدن إلى التنين الصينى، حيث حذر من مخططات بكين للهيمنة على أمريكا بحلول عام ٢٠٣٥. وكانت لقاءات بايدن بنظيره الصينى شى جين بينج فى قمة السبع بمترجم فورى فقط، كفيلة بحسم تلك القناعة لدى الثعلب العجوز. وتيقن بايدن من مخاوفه بعد أن تعرضت عشرات الآلاف من المؤسسات الأمريكية لمحاولات قرصنة، نفذتها وحدة تجسس تابعة للحكومة الصينية، واستغلت ثغرات فى خوادم شبكات البريد الإلكترونى. وبات الرئيس الأمريكى حائرا بين «عصا» الحرب التجارية وعقوبات الرسوم الجمركية القاسية، و «جزرة» الاستثمارات المتبادلة لمساومة الصين. وإذا ذُكرت الصين، التفتت العين إلى إيران عقب توقيع الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين بكين وطهران لمدة ٢٥ عاما، تشمل مجموعة متنوعة من الأنشطة الاقتصادية من النفط والتعدين إلى تعزيز النشاط الصناعى فى إيران، فضلا عن مجالات النقل والزراعة .. وقبل أن تجف حروف الاتفاق التاريخى، يسارع بايدن إلى السير فى اتجاهين: أولهما تنشيط جولات فيينا بين إيران والمجموعة الدولية بشأن الاتفاق النووى، لإحيائه وتجديد الدماء فى شرايينه لإلزام النظام الإيرانى ببنوده والامتثال لشروطه بعدم تطوير السلاح النووى لأغراض عسكرية. وثانيا، المبادرة بإسقاط بعض العقوبات على كيانات وشخصيات إيرانية إثباتا لـ«حسن النية»، ولتشجيع طهران على رفع سقف التعاون مع واشنطن أمام السيناريو الصينى المحبوك. وهنا يسبح الرئيس الأمريكى ضد التيار مجددا، وسط تحذيرات بأن العودة إلى الاتفاق النووى ستساهم فى زيادة عدم الاستقرار بالشرق الأوسط، مع حصول إيران على أكثر من ١٠٠ مليار دولار «مكافأة سخية» من وراء الصفقة النووية القديمة. إنه وبلا شك صراع المصالح الذى من المفترض أن يحسم خلال المرحلة المقبلة، بينما السؤال المطروح: هل يخرج بايدن فائزا منه أم لا؟.
رابط دائم: