لغويا، يرد المعنى «جلا عن البلد» أى «خرج منها خروجا». وقد كان ذلك تحديدا ما جرى صبيحة مثل هذا اليوم 18 يونيو من عام 1956، أى قبل 65 عاما، يومها تمت اتفاقية جلاء القوات البريطانية عن الأراضى المصرية بخروج آخر جندى بريطانى من منطقة قناة السويس. ويومها خرجت «الأهرام» بافتتاحية خاصة من أهم الافتتاحيات الصحفية التى طالعها القارئ المصرى على مدار التاريخ.
وجاءت الافتتاحية بعنوان «عيد الاستقلال»، وجاء فيها: «من حق مصر اليوم أن ترفع رأسها فى العالمين، وأن تسجل فى تاريخها يوم 18 يونيو 1956بحروف من نور.. وأن ترى فى أضواء الحرية تضحيات الاجداد والآباء، وما بذل الشهداء من عزيز الفداء»..
وتستكمل الافتتاحية الأهرامية رصدها التحول التاريخى ودور الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر فى اتمام مامهد له جمع عظيم من قيادات وزعامات مصر على مدار عقود من تاريخها، فتذكر:
«كم ثارت مصر ضد الاحتلال؟.. وكم بذلت مصر للخلاص من هذا العار؟ .. وكم قاست مصر من عذاب الاستعمار؟ لقد كانت المعركة من أجل الاستقلال طويلة مريرة قاسية، واستطاع الاحتلال ان يكسب كل جولة طوال أربعة وسبعين عاما.. استطاع أن يحطم كل ثورة عليه.. واستطاع ان يدوس كل قوة تقف لتحاربه.. واستطاع ان يرد سهام المناضلين الى صدورهم .. حتى ظن الانجليز ان حصونهم ستمنعهم من الجلاء، وانهم باقون على أرض مصر الى يوم يبعثون.. ثم تحققت المعجزة .. وأنبتت ارض مصر الطيبة رجلا أنهى المعركة بكلمة واحدة..وتجمعت كل ثورات مصر ضد الاحتلال فى صدر هذا الرجل...»
كان هذا بعض ما جاء فى افتتاحية العدد الذى جاء مزينا بمانشيت استثنائى يقول: «مصر تحتفل اليوم بالجلاء» وعنوان ثانى: «الرئيس يرفع اليوم علم مصر على مبنى البحرية ببورسعيد».
إنجاز 18 يونيو كان الخطوة النهائية فى مسار طويل بدأ عام 1936 بالاتفاقية التى وقعها مصطفى باشا النحاس بتنظيم جلاء القوات البريطانية عن الأراضى المصرية. الجلاء تعثر بفعل اشتعال فتيل الحرب العالمية الثانية (1939- 1945). وفور وضع الحرب أوزارها، بدأ وفاء الجانب البريطانى بالتزامات المعاهدة، إلا أن الوفاء لم يكن كاملا، إذ ظل آخر فلوله فى منطقة قناة السويس.
وظل الحال على ما هو عليه. كانت هناك محاولات جديدة من النحاس باشا فى مطلع الخمسينيات، ولكنها انتهت بالفشل، ثم جرت مياه ثورة يوليو فى النهر المصرى. وبدأت الحكومة المصرية مفاوضات جديدة توجت بتوقيع اتفاقية الجلاء في 19 أكتوبر 1954 والذى أقرت أهم البنود التى أوردها «الأهرام» كاملة، بالتالى: «تجلو قوات صاحبة الجلالة (فى إشارة إلى قوات المملكة البريطانية) جلاء تاما عن الأراضى المصرية.. خلال فترة عشرين شهرا من تاريخ التوقيع على الاتفاق الحالى». وتتوالى البنود، لنتوقف عند أهمها وهو المادة رقم (8) والذى ينص على التالى: «تقر الحكومتان المتعاقدتان أن قناة السويس البحرية – التى هى جزء لا يتجزأ من مصر – طريق مائى له أهميته الدولية من النواحى الاقتصادية والتجارية الاستراتيجية، وتعربان عن احترام الاتفاقية التى تكفل حرية الملاحة فى القناة الموقع عليها فى القسطنطينية فى التاسع والعشرين من شهر أكتوبر سنة 1888» .
وفى ذلك إشارة إلى الاتفاقية الموقعة بالقسطنطينية بين المملكة البريطانية والإمبراطوريات الألمانية والنمساوية والروسية والدولة العثمانية واسبانيا وفرنسا وايطاليا وهولندا، واتفقت تلك الأطراف كلها على الاعتراف بسيادة مصر على القناة، مع التأكيد على ضمانة حرية الملاحة عبر ذلك الممر المائى المهم.
كلها كانت مقدمات ليوم الجلاء، الذى تحول إلى أفراح عمت أراضى مصر، وكانت ذروتها فى مدن القناة، وتحديدا بورسعيد الباسلة. ولا أدل على ما جرى صباح 18 يونيو قبل 65 عاما ، من صور تاريخية سجلتها عدسات مصورى الأهرام، يتقدمهم المصور الفذ الكبير آميل كرم، فكان توثيقا للتاريخ وانتصارا للإنسانية.
عبدالناصر يرفع العلم المصرى على مقر البحرية فى بورسعيد يونيو 1956
ويخطب أمام الجموع احتفالا بالإستقلال الصور ـ أرشيف الأهرام
الرئيس عبدالناصر وسط حشود المحتفلين فى شوارع بورسعيد
ويرفع يديه بالتحية فى مشهد تاريخى
والهتاف من شرفات بيوت بورسعيد فى يوم الاستقلال
رابط دائم: