يختار الأشخاص مغادرة أوطانهم لأسباب مختلفة, ولعل أكثرها هو البحث عن مصدر رزق مناسب يكفى حاجته وعائلته, ورغم أن «خبز الوطن» فى كثير من الأحيان قد يكون خير من «كعك» الغربة»، كما قال الفيلسوف الفرنسى فولتير، لكن أحيانا يرسل العاملون بالخارج ما هو أكثر من مجرد الأموال لوطنهم الأم, فهم يجلبون معهم ما يمكن وصفه بأنه «أمتعة»، تتمثل فى الأفكار والسلوكيات والخبرات الحياتية والثقافية والممارسات المأخوذة من البيئات التى سافروا إليها, والتى تثرى مجتمعاتهم وتحقق التنمية.. ومن هنا جاءت فكرة «التحويلات الاجتماعية».
أول من صاغت هذا المصطلح كانت الأمريكية بيجى ليفيت، أستاذة علم الاجتماع فى كلية ويليسلى بالولايات المتحدة، وذلك فى عام 2001, بهدف لفت الانتباه إلى حقيقة أن العاملين بالخارج يرسلون أكثر بكثير من مجرد نقود إلى عائلاتهم فى بلدانهم الأصلية. وشرحت ليفيت فى كتابها «القرويون العابرون للحدود»، أن «التحويلات الاجتماعية» هى مجموعة من المهارات والأفكار والممارسات التى يكتسبها الشخص المغترب على فترات زمنية، لتبدأ فى الانعكاس أولا على شخصيته وأسلوب حياته؛ ثم يقوم بنقلها إلى أسرته ومجتمعه فى بلده الأم، إما من خلال المحادثات الهاتفية، أو محادثات «الفيديو» على الإنترنت, وأيضا أثناء التفاعل الشخصى عندما يقضى المغترب عطلة فى بلده الأصلية, أو يعود إليها إلى الأبد بعد التقاعد.
وفى محاولة لتقريب الصورة, اتخذت عالمة الاجتماع، شباب إحدى قرى جمهورية الدومينيكان كمثال، فبعدما سافر هؤلاء الشباب إلى ولاية بوسطن الأمريكية للعمل, قرروا إنشاء دورى البيسبول هناك، واصطدم الشباب بكم هائل من القوانين واللوائح التى كان عليهم الالتزام بها, فتعلموا كيفية التفاوض بشأن نظام المتنزهات البلدية وتأمين التصاريح لجمع التبرعات. لذلك عندما قرر مواطنو قريتهم الصغيرة فى جمهورية الدومينيكان, إنشاء دورى مماثل, حرص المغتربون على إثراء أقرانهم فى الوطن بالخبرات التى اكتسبوها فى هذا المجال, حتى أنهم أرادوا من عمال البناء الالتزام بالمواعيد النهائية بنفس الطريقة التى رأوا فيها أن عمال البناء يخضعون للمساءلة فى الولايات المتحدة.
يمكن رؤية بصمة «التحويلات الاجتماعية» أيضا فى مجالات الصحة العامة, فمثلا يكون المغتربون أكثر وعيا تجاه توعية عائلاتهم فى وطنهم الأصلى بالاهتمام بالصحة العامة مثل شرب المياه النظيفة المعبأة, وإبعاد الحيوانات عن أماكن المعيشة وإدراك أهمية الفحوصات السنوية.
يمكن للتحويلات الاجتماعية أيضا أن تتحدى أفكار الناس حول الديمقراطية وسيادة القانون, فقد وجد العالم السياسى المكسيكى لويس ف. خيمينيز، أن العاملين بالخارج كان لهم دخل كبير فى تغيير نهج السياسة المكسيكية المحلية, تماما مثل العائدين من الولايات المتحدة إلى بلدهم الأم البرازيل. ولنأخذ المغترب العائد جيلبرتو فيليب (65 عاما)، كمثال، ففى كل مرة كان ينطفئ فيها ضوء أحد أعمدة الشوارع، أو تتراخى الشركات المحلية فى جمع القمامة, كان جيلبرتو يذهب إلى إدارة المدينة ليقدم الشكاوى, قائلا «لقد تعلمت فى الولايات المتحدة أن الحكومات عليها أن تفعل ما يفترض أن تفعله، وأنه على المواطنين أيضا التأكد من حدوث ذلك».
أخيرا لا يقوم محترفو التكنولوجيا ورجال الأعمال من باكستان والهند بإرسال الأجهزة التكنولوجية لوطنهم الأم فحسب, بل يرسلون أيضا أفكارا حول إدارة الأعمال وتنمية المهارات. فقد شجع العمل فى الولايات المتحدة, البعض على التفكير خارج الصندوق, وتغيير أنماط السلوك فى التعامل مع الزملاء ورؤساء العمل، حيث يقول المهندس الباكستانى أمير، الذى سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، إن أول درس تلقاه من رئيسه فى العمل هو «ألا يقف عندما يدخل إلى الغرفة»، وأن يكف عن مناداة الجميع بـ «سيدى» .
ومع ذلك, فإنه ليس كل ما يرسله العاملون بالخارج إلى بلدانهم إيجابيا بأى حال من الأحوال, فقد يستوردون قيما تضعف من الروابط العائلية، وتغزى النزعة الاستهلاكية وتشجع على التساهل فى العلاقات بين الجنسين، وربما يستوردون أيضا سلوكيات إجرامية. فى النهاية يخشى البعض من أن تسهم التحويلات الاجتماعية أيضا فى تنامى «ثقافة الهجرة», فيصبح الانتقال من البلد الأم أمرا لا مفر منه نظرا لأن الناس لم يعودوا راضين عن الفرص الاقتصادية والاجتماعية التى توفرها لهم أوطانهم.
رابط دائم: