رغم تواجده فى ممر ضيق بجوار ميدان العتبة الشعبى وسط القاهرة، مازال يشع بنوره ويؤدى دوره الثقافى منذ بدايته الأولى، ومازال أحد أشهر أسواق الكتب فى مصر، ومن الأشهر على مستوى العالم العربى، وتلك سمعة حافظ عليها «سور الأزبكية» على مدى أكثر من قرن من الزمان، ليصبح المعرض القاهرى الدائم للكتاب، وقبلة لعشاق القراءة رشيقة التكلفة والباحثين عن نفائس الكتب.
ولا ينافس «سور الأزبكية»، فى تلك السمعة المحببة، إلا ضفاف نهر السين بالعاصمة الفرنسية، فهما يشتركان فى احتضان الثقافة وتقديمها للناس بمبالغ زهيدة. كانت تلك أولى كلمات دكتور يسرى عبدالغنى، رئيس مركز الأصالة والمعاصرة للبحث العلمى والتنمية الثقافية، وذلك فى تصريحات خاصة لـ«الأهرام» حول بحثه التوثيقى بشأن السور، والذى يحمل عنوان «سور الأزبكية.. جامعة الفقراء»، والمتناول لتطور دور السور على مدار العقود.
يقول الدكتور يسري: «من منا لم يمتلك كتابا أو اثنين من سور الأزبكية بثمن زهيد، خمسة أو عشرة قروش. فأنا أمتلك بمكتبتى كتبا بقرش صاغ وبتعريفه. فكل ما لذ وطاب فكريا تجده بسور الأزبكية من أدبيات الفن والأدب والعلوم والفلسفة والفكر والدين والتاريخ والإعلام».
«أزبك».. صاحب الفضل الأول:
وعن بدايات « سور الأزبكية»، يحكى الدكتور يسرى أن تسميته المتعارف عليها تعود إلى أواخر القرن الـ 14، إبان حكم دولة المماليك عندما قام السلطان قايتباى بمكافأة قائد جيوشه، الأتابك سيف الدين بن أزبك، بمنحه قطعة أرض ناحية بركة «بطن البقرة». وكانت حينها أرضاً جرداء ليس بها سوى ضريحين: «ضريح سيدى عنتر»، و»ضريح سيدى وزير».
فأوصل أزبك المياه إليها من «القناة الناصرية، وشيد على طولها رصيفاً من الحجارة، ليتخذه الناس ممشى. وأقام أيضاً متنزهاً رائعاً حول البركة حمل اسمه، فضلا عن جامع كبير، وحمامات والطواحين والأفران. وحدد لها كل عام عيدا سماه: احتفال» فتح البركة». وبحلول عام 1495، كانت الأزبكية قد تحولت إلى حى كبير يتوسط القاهرة.
ويكمل الباحث: «ومع دخول العثمانيين مصر عام 1517، شيد الأمير رضوان كتخدا قصراً كبيراً على حافة بركة الأزبكية الشرقية، وفى عهد عباس حلمى الأول، تم هدم القصر وأعيد بناؤه مره أخرى بمسمى (العتبة الخضراء) تبركاً باللون الأخضر لمدخله»
وحسب الدكتور يسرى، فإن منطقة الأزبكية شهدت حوادث فارقة مثل دخول الجنرال نابليون بونابرت مصر عام 1798، ومحاولاته التقرب للشعب المصرى بتعلم مبادئ الدين الإسلامى، فكان القائد الفرنسى يتردد على «دار الخليل البكرى» بميدان الأزبكية، ليدرس على يده القرآن الكريم ويتلقى دروساً فى آداب الإسلام وشرائعه، ثم اتخذ لنفسه داراً فيها. ومن ميدان الأزبكية، خرجت جماهير القاهرة عام 1805 تنادى بمبايعة محمد على والياً على مصر، وبعد تولى محمد على حكم مصر اختار ميدان الأزبكية ليكون قلب العاصمة الجديدة، لتصبح مسكنا للطبقة العليا، ليتطور مستوى المنطقة وتصبح مركزا لعديد من الفنادق والمتنزهات. وقد ميزها محمد على بوجود «ديوان المدارس»، أو وزارة المعارف حينها.
ويعتبر الخديو إسماعيل، مؤسس حى الأزبكية بهيئته الجديدة عندما عاد عام 1867 من زيارته لمعرض باريس، فبهره العمران الحديث هناك. فعمل على أن تكون الأزبكية على شاكلتها، وأعاد تخطيطها.
وعن معالم المنطقة، يوضح الدكتور يسرى أنه فى عام 1864، تم ردم البركة التى كانت تتوسط الميدان، وأقام الخديو إسماعيل مسرحين هما: المسرح الكوميدى الفرنسى، ودار الأوبرا الخديوية. وكلف المهندس الفرنسى، ديشان، مسئول بساتين باريس، بإنشاء حديقة الأزبكية على مساحة عشرين فداناً، وجلب لها أشجارا ونباتات زينة نادرة.
«السور» .. بدايته الخمسينيات:
أما عن نشأة «سور الأزبكية» بعد ثورة يوليو 1952، فيوضح الدكتور يسرى أن حديقة الأزبكية حافظت، رغم كل التغييرات، على سورها الحديدى القديم، الذى تم هدمه فى عام 1952، ليتم استبداله بسور حجرى، ليضم لاحقا عددا من المكتبات الثقافية. وقبل إنشاء السور، كان باعة الكتب يطوفون ببضاعتهم الثقافية على رواد المقاهى، ثم شرعوا فى افتراش الأرض بالكتب فى ميدان العتبة، وبمحاذاة حديقة الأزبكية. وفى عام 1949، كان قطاع تجارة الكتاب قد بات الأقوى، وبلغ عدد بائعى الكتب فى الأزبكية 31. توجه الباعة إلى مجلس الوزراء، والتقوا برئيس الوزراء آنذاك، مصطفى النحاس، الذى أمر باستصدار تراخيص لهم بمزاولة المهنة، ومنع تعرض بلدية القاهرة لهم، ليتكون بذلك أول تكتل رسمى مدعوم للكتب فى الأزبكية.
ويكشف الدكتور يسرى عن دور رؤساء الجمهورية المصرية فى نهضة سور الأزبكية، فيوضح: «فى عام 1959، لجأ بائعو كتب الأزبكية إلى الدكتور عبدالقادر حاتم، الذى كان يعمل حينها مستشارا للرئيس جمال عبدالناصر، طلبا للدعم وتطوير حالة السور.
ولأن الرئيس جمال عبدالناصر، ومعه عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة كانوا من أشهر رواد السور ومحبى خدماته الثقافية، فقد استجاب بتنفيذ أكشاك خشبية مجانية للبائعين، فضلا عن تسهيلات أخرى، وأصبح «سور الأزبكية» يلعب دورا محوريا فى النهضة الثقافية خلال حقبة الستينيات وتضاعف أعداد بائعى الكتب بالأزبكية.
ويوضح الدكتور يسرى أن الرئيس أنور السادات كان أيضا من أبرز المترددين على السور قبل وبعد توليه الرئاسة.ومع الرؤساء، يعدد الباحث أسماء المشاهير الذين التزموا بالتردد على «سور الأزبكية» مثل: الأدباء الكبار نجيب محفوظ، وإبراهيم المازنى، وعباس محمود العقاد.
ومن الستينيات والسبعينيات إلى التسعينيات، يوضح الدكتور يسرى ما كان من حملة عظيمة قادها مثقفو وصحفيو مصر لإعادة اهتمام الدولة بمكتبات السور، كأحد معالم القاهرة الثقافية، مما أدى إلى تخصيص الهيئة المصرية العامة للكتاب أحد الأجنحة بمعرض القاهرة الدولى للكتاب، لعرض كتب سور الأزبكية.
وبعد إشادته ببعض أشهر أصحاب المكتبات بسور الأزبكية، مثل الكاتب محمد جابر غريب، وعم فاروق، يكشف الدكتور يسرى عن أمنيته بانتشار أفرع مصغرة من السور فى مختلف أنحاء مصر، وأن يكون له تجسيد فى العاصمة الإدارية الجديدة. ويزيد معربا عن أمله فى إنشاء نقابة لبائعى « سور الأزبكية» وهيئة تعنى مباشرة بالإشراف على السور والحفاظ عليه.
رابط دائم: