لم تتوقف التعليقات والتصريحات طوال الأيام القليلة الماضية حول ما تريده موسكو من اللقاء المرتقب بين الرئيسين الروسى فلاديمير بوتين والامريكى جو بايدن. وكان الجانبان استبقا هذا اللقاء بسلسلة من التصريحات والقرارات التى تبدو على غير وفاق مع ما أعلنه عن الرغبة فى وقف المزيد من تدهور العلاقات بين البلدين، على ضوء التراشق اللفظى الذى بلغ حد نعت بايدن لنظيره الروسى بالقاتل، وما اتخذته موسكو من قرارات ردا على ما يتعرض له الدبلوماسيون الروس من مضايقات فى الولايات المتحدة. وفيما كان الرئيس بوتين قد حدد «خطوطه الحمراء» بشأن مواجهة محاولات توسع الناتو، و»ابتلاع» أوكرانيا وجورجيا، عاد الرئيس بايدن ليؤكد فى لقاء مع جنوده قبيل رحلته إلى أوروبا أن «أمريكا عادت»، بما يعنى جنوح الزعيمين صوب مخاطبة الآخر من موقع القوة، وإن حاول كل منهما الظهور على النقيض من ذلك.
الدعوة إلى هذه القمة جاءت مفاجئة. صدرت عن الرئيس الأمريكى بايدن عقب سلسلة من الانتقادات والعقوبات بل والشتائم والاتهامات فى حق نظيره الروسى. ورغم كل ذلك فقد وافق الرئيس بوتين، وإن أبدى فى البداية قدرا من التحفظات. وكان من الغريب أن يتفق الرئيسان على القمة دون جدول أعمال واضح، مكتفين بجدول إطارى يتسع لمختلف التأويلات، يكتنفه كثير من الغموض، حول «مناقشة مجموعة كاملة من القضايا التى تواجه كلا البلدين». وذلك ما أعقبته سلسلة من التصريحات التى تحمل المعنى ونقيضه. فمن تهديد بالمزيد من العقوبات وإنذارات بضرورة الإفراج عن المعارض الروسى الكسى نافالني، وفورا، إلى النزول على إرادة موسكو بالتوقف عن معارضة استكمال بناء خطوط نقل الغاز إلى أوروبا «التيار الشمالى -2»، وهو المشروع الذى طالما وقفت الإدارة الأمريكية السابقة ضده. وينسحب الأمر ذاته على الموقف ممن صارت تصفهم موسكو بـ «العملاء الأجانب»، ومما تسميها واشنطن «بالقرصنة الروسية الإلكترونية، والتدخل فى الانتخابات الأمريكية»، إلى جانب «ضم القرم» والأوضاع فى أوكرانيا، وفى بيلاروس. دائرة الخلافات واسعة والعلاقات بلغت من التدهور أدنى مستوياته. ومع ذلك ثمة من يقول إن عقد مثل هذه القمة يصب أكثر فى مصلحة الرئيس بوتين.
ومن اللافت أن أول قمة روسية أمريكية بين بوتين وبايدن، تأتي بعد قمتين عقدهما الرئيس الأمريكى مع حلفائه سواء فى إطار مجموعة «السبعة الكبار»، أو «الاتحاد الأوروبي»، بما يعنى أن بايدن يبدأ مباحثاته مع بوتين مدعوما بتفويض حلفائه سواء من بلدان الاتحاد الأوروبي، أو من حلف الناتو بما يساند مواقفه، ويؤكد انه يملك الكثير من وسائل القوة. كما أن انعقاد هذه القمة عقب ما اتخذته موسكو من قرارات حول اعتبار عدد من منظمات المجتمع المدنى وفى مقدمتها «صندوق مكافحة الفساد» الذى كان يترأسه المعارض الروسى الكسى نافالني، «منظمات إرهابية»، بكل ما يتبع ذلك من قيود تسلب قيادات هذه المنظمة الكثير من «حقوقهم المدنية»، ومنها المشاركة فى الانتخابات النيابية المقبلة فى خريف هذا العام، إلى جانب تشددها تجاه العديد من القضايا الخلافية، يقول ضمنا إن بوتين يخوض هذه القمة أيضا من موقع القوة، المدعومة بمختلف أشكال التحدى. وإذا أضفنا إلى ذلك عودة موسكو إلى محاولات فرض القيود على نشاط وتحركات الصحفيين الأجانب، وتحديد وضعيتهم بوصفهم «عملاء أو وكلاء أجانب»، شأن منظمات المجتمع المدنى التى يجرى تسجيلها لدى وزارة العدل بكل ما يرتبط ذلك من قيود، إلى جانب ما أصدرته الحكومة الروسية خلال الأيام القليلة الماضية من قرار يقضى بحظر تحركات الدبلوماسيين الأمريكيين لأكثر من 25 ميلا بعيدا عن مقار عملهم، فإننا نكون أمام تشدد متعمد من الجانب الروسى فى مواجهة القيود التى كانت بادرت بها الولايات المتحدة تجاه عدد من المؤسسات الإعلامية الروسية ومنها «روسيا اليوم»، ووكالة «سبوتنيك»، ما يعيد إلى الأذهان ما كانت عليه علاقات البلدين قبل توقيع «إعلان نهاية الحرب الباردة» بين الرئيسين ميخائيل جورباتشوف وجورج بوش الأب فى مالطة فى ديسمبر 1989.
وعلى الرغم من كل ما كاله بايدن لنظيره الروسى خلال الأسابيع القلائل الماضية من انتقادات وشتائم واتهامات، فقد حرص الرئيس بوتين على أن يستبق لقاءهما المشترك فى جنيف سلسلة من المديح الذى بلغ حد وصفه بأنه «شخصية استثنائية موهوبة» و»سياسى محترف طالما عمل فى كل مجالات السياسة تقريبا»، على حد تصريحاته التى أدلى بها إلى قناة تليفزيون «NBC» الأمريكية، وإن أضاف إلى ذلك سلسلة من الاتهامات، ومنها ما تتبناه الولايات المتحدة من ازدواجية المعايير، وانتهاك حقوق الإنسان فى إشارة إلى تعامل السلطات الأمريكية مع الجماهير التى اقتحمت مبنى الكونجرس فى مطلع العام الحالى، احتجاجا على نتائج الانتخابات. وإذ انتقد بوتين تدخل الولايات المتحدة فى شئون عدد من بلدان الفضاء السوفييتى السابق، وتدهور العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، قال إنه لا يتوقع انفراجة فى العلاقات بين البلدين التى بلغت أدنى مستوياتها على مدى عقود طويلة، من وراء اللقاء المرتقب مع بايدن.
وإذا كان لقاء بايدن مع حلفائه فى مجموعة «السبعة الكبار»، توقف أكثر عند العلاقات مع الصين وروسيا، فانه بدا أكثر اهتماما بما يتعلق بروسيا وسياساتها فى القارة الأوروبية، وفى أوكرانيا خلال اجتماعات قمة الناتو. وذلك ما لم يكن بعيدا عن دائرة رؤى الكرملين الذى لم يكف ممثلوه فى مختلف الأجهزة الإعلامية عن مناقشة هذه القضايا من منظور استعراض مواقف موسكو وتوجهاتها تجاه الكثير من القضايا المحلية والإقليمية والدولية. كما أن الرئيس بوتين لم يتوقف عن الإدلاء بمختلف التصريحات والأحاديث التليفزيونية ومنها ما أدلى به الى قناة «إن بى سي» الامريكية وكشف فيها عما يمكن أن يمضى إليه فى علاقاته مع الولايات المتحدة، فى توقيت مواكب لتصعيد السلطات الرسمية حدة خطابها الرسمى الذى يعكس إحساس الكرملين بتحقيق الكثير من التفوق العسكرى على الولايات المتحدة. وفى حديثه إلى برنامج «موسكو. الكرملين. بوتين» الذى جرى إذاعة بعض فقراته قبيل بثه كاملا مساء الأحد الماضي، حدد بوتين الكثير من الخطوط الحمراء التى قال إن موسكو لن تسمح لأى كائن كان بتجاوزها. وإذ أعاد إلى الأذهان ما سبق أن وعدت به قيادات الولايات المتحدة الأمريكية والناتو الرئيس السوفييتى السابق ميخائيل جورباتشوف بعدم تمدد الناتو شرقا إلى أبعد من حدوده التى كانت عليه فى مطلع تسعينات القرن الماضي، أى الحدود الشرقية لألمانيا الغربية، ما أقدم الكرملين معه آنذاك على حل حلف وارسو الذى كان يضم الاتحاد السوفييتى وكل بلدان شرق أوروبا، قال إن موسكو لن تسمح بتكرار خداعها وارتكاب مثل تلك الأخطاء التى ارتكبتها القيادة السوفييتية. وكانت السنوات الماضية التى أعقبت حل حلف وارسو ثم انهيار الاتحاد السوفييتى شهدت ليس فقط تمدد الناتو شرقا، بل و»ابتلاعه» لكل بلدان حلف وارسو وعدد من جمهوريات الاتحاد السوفييتى السابق. وأشار بوتين كذلك إلى خطورة نشر الصواريخ الأمريكية بولندا ورومانيا ما يوفر فرصة وصولها إلى قلب روسيا بما فيه موسكو فى غضون 15 دقيقة. وأضاف ان محاولات انضمام أوكرانيا إلى الناتو يعنى ضمنا تقليص هذه المدة فى حالة نصب هذه الصواريخ فى خاركوف أو دنيبروبيتروفسك الأوكرانيتين إلى سبع أو عشر دقائق، وهو ما لن تسمح به موسكو. وضرب مثالا على ذلك بتساؤلاته حول ما يمكن أن تفعله واشنطن فى حال نصب الصواريخ الروسية فى كوبا وبما يمكن معه أن تصل معه إلى المناطق التى تتركز فيها الصناعات الأمريكية الإستراتيجية فى غضون المدة ذاتها أى 15 دقيقة؟ وقال إن ذلك «خط أحمر»، شأنه فى ذلك شأن ما يتحدث عنه البعض بشأن عودة القرم إلى أوكرانيا. وأشار بوتين فى تصريح لقناة «روسيا 24» التليفزيونية ضمن برنامج «موسكو. الكرملين. بوتين»، إلى أنه لا يعرف ما الذى اتفقت عليه كييف والغرب بشأن انضمام أوكرانيا لـ «الناتو»، مؤكدا أن روسيا تأخذ ذلك بعين الاعتبار. وأضاف أن موسكو لا تركن إلى قبول «عدم صحة ما يقوله الرئيس الأوكرانى فلاديمير زيلينسكى حول فكرة انضمام أوكرانيا إلى الناتو»، مؤكدا أن موسكو ليس لديها أى ضمانات لعدم انضمام أوكرانيا للناتو، مشيرا إلى أن اقتراب البنية التحتية للناتو من الحدود الروسية «أمر بالغ الأهمية بالنسبة لأمن الروس وروسيا». غير أن بوتين لم يكتف هذه المرة بمجرد الإشارة إلى ما وصفه بخطوطه الحمراء، حيث مضى إلى ما هو ابعد بتهديد أى دولة يمكن أن تقبل نشر الصواريخ الأمريكية فى أراضيها، مؤكدا أنها ستكون أولى الضحايا التى يمكن أن تستهدفها الصواريخ الروسية للرد على ما يستهدف أراضيها.
وتعنى كل هذه التصريحات أن الجانب الروسى حدد هذه القضايا، لتكون ضمن جدول أعمال القمة المرتقبة، التى ستضم إلى جانب الأزمة الأوكرانية وقضايا حقوق الإنسان وما يتعلق منها بالمعارض الروسى ألكسى نافالنى الموجود فى سجون روسيا الذى كان بايدن استهل فترة حكمه فى البيت الأبيض بإنذاره إلى بوتين حول ضرورة الإفراج الفورى عنه، وهو ما دفعه إلى اتخاذ عدد من العقوبات الاقتصادية والسياسية ضد روسيا وعدد من القريبين من الرئيس بوتين بسبب عدم استجابة بوتين إلى إنذار الرئيس الأمريكي، ومن القضايا التى كشفت مصادر الكرملين عن إدراجها ضمن جدول الأعمال المسائل المتعلقة بالعلاقات الثنائية واحتدام الأوضاع على صعيد العلاقات الدبلوماسية، إلى جانب القضايا المتعلقة بقضايا المناخ، والتعاون المشترك فى مواجهة مكافحة وباء الكورونا، إلى جانب عدد من القضايا الإقليمية ومنها أوكرانيا وبيلاروس وربما الأوضاع فى الشرق الأوسط. لكن النقطة المحورية فى القمة المرتقبة فإنها تظل قضية «الاستقرار الاستراتيجي»، أو بقول آخر الحد من التسلح، وهى القضية التى باتت تشغل الإدارة الأمريكية والقيادات العسكرية فى البنتاجون أكثر من ذى قبل، بعد كشف الرئيس بوتين عن الكثير من الأسلحة العصرية التى يؤكد الكرملين ان الولايات المتحدة لن تبلغ مثلها قبل عام 2025. وتلك هى الأسلحة التى تقول المصادر الروسية إن الجانب الأمريكى يريد ضمها إلى أى اتفاقات أو معاهدات مقبلة مع الجانب الروسى بشأن الحد من التسلح. وكان الجانبان استبقا لقاءهما فى جنيف بعدد من اللقاءات الثنائية ومنها لقاء وزير الخارجية الروسية سيرجى لافروف مع نظيره الأمريكى انتونى بلينكين على هامش اجتماعات مجلس القطب الشمالى فى ريكيافيك عاصمة آيسلاندا، إلى جانب لقاء نيكولاى باتروشيف سكرتير مجلس الأمن القومى الروسى مع نظيره الأمريكى جاك سوليفان فى جنيف.
فهل وصلت هذه اللقاءات إلى ما يمكن أن يوفر الأرضية اللازمة لنجاح القمة، أم إن ما أعرب عنه بعض المعلقين الأمريكيين ومنهم ديفيد كرامر مساعد وزير الخارجية الأمريكية فى إدارة جورج بوش الابن، من توقعات تتسم بقدر أكبر من التشاؤم يمكن أن تجد طريقها إلى التنفيذ؟ ذلك ما سوف تجيب عنه الأيام القليلة المقبلة.
رابط دائم: