مية فضة، أى قرشان ونصف، يتقاضاها خلف بهلول الزاهى- وشهرته «خلف تكفا»- يومياً، أى خمسة وسبعون قرشاً فى الشهر، نظير عمله مساعداً للمقدس بخواجى وغفيراً للببور. كان خلف يدخر أجرته بالكامل. وبُح صوت الحزينة «تكفا»، واشتكته لطوب الأرض، لكنه أبى أن يعطيها مليماً أحمر، فكنست عليه المقام واعتبرته وساخة بطن:
>> دم ياخدك!
الأكل والشرب سفلقة أو رشوة. امرأة غلبانة كل حيلتها ست بيضات هى أجرة الطحين، يستولى على بيضتين منها. بائع متجول يطفف له الميزان ليدفع جزءاً من الأجرة فلفلاً وباذنجاناً. بقال أرسل مع الطحين قرطاسى شاى وسكر. المهم عند خلف ألا يخدش هيبة المية فضة. أما مشكلة النوم فمحلولة: غرفة المكن. ما الذى يعطل زواجه إذن من هضبة بت عبدالواسع الغرابلى!.
>> اسمع يا شيخ عارف..
كنت عائداً إلى الببور فى ساعة متأخرة من الليل. كان القمر بدراً مكتملاً، وكنت على الجسر عندما سمعتُ المأمأة. أصخت السمع فتبين لى أن الصوت يأتى من أسفل الجسر. وبعد تردد قررت أن أستكشف الأمر. نزلت وأنا أتلكأ وأتحسس الأرض بقدمى. خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الخلف. لا أخفيك أننى كدت أتيبس من شدة الخوف. الصراحة راحة. لكننى تشجعت وقلت لنفسى: ما الذى سيحدث؟. ما الذى ستخسره يا خلف؟. ولنفرض أن كارثةً ستحدث فعلامَ أخاف؟. لا على يمينى غلة ولا على شمالى تبن.
>> القصد..
أصبحت فوق الخط الوهمى بين الزرع وتراب الجسر. مشيت بضع خطوات لم أسمع خلالها سوى نقيق ضفادع. استدرت عائداً فإذا بى أمام نعجة بالغة، تكسوها فروة من صوفٍ أبيض، ناصعِ البياض. فمها مكممٌ، وقائماها الأماميان مشدودان إلى قائميها الخلفيين بسلسلةٍ محكمة. توجست قليلاً، ثم عزمت وتوكلت وحملتها بين ذراعى وأكملت طريقى حتى وصلت إلى بوابة الببور. أنزلتها وفتحتُ مُغلاق البوابة، وما إن استدرتُ نحوها حتى كانت قد تحولت إلى آدمية. أنثى مكتملة، تنظر فى وجهى بانكسار، ففهمت أنها تستعطفنى لأفك قيودها، فاستجبت على غير إرادة منى. تمالكت نفسى وسألتها: إنتى مين؟. ففردت ذراعيها جناحين وقالت وهى تميل بجذعها يميناً ويساراً كأنها تعزف لحناً غامضاً:
«وبالاسم المعظم قدره
باجٌ أهوجُ جلجلوتُ هلهلت
بصمصامِ طمطامِ بالنورِ بمهراجٍ
به النار أخمدت
يحيا حياة القلب من دنس بقيومٍ
قام السر فيَ فأشرقت
حروفُ لبهرامٍ علت وتشامخت
وأسماء عصا موسى بها الظلمة انجلت»
كانت عيناها مستديرتين تماماً وفيهما حزن. أى والله يا شيخ.. فيهما حزن. شعرت أن حلقى جف كعصا، وتجمد الدمُ فى عروقى، وبركتُ على عتبة البوابة كالمقطف. ولم أدرِ بنفسى إلا ممدداً فى صباح اليوم التالى على مصطبة فى غرفة المكن.. ولا أثر لها. يوم.. يومان.. أسبوع ولم تظهر. أكلنى قلبى. ماذا دهاك يا خلف؟. خيبة الله عليك. على آخر الزمن تقع فى هوى جنية!.
>> المهم.. ظهرت.
كان جسمى قد هَزُلَ وضعفت شهيتى. لا أذكر: هل فتحتُ بوابَة الببور بنفسى.. أم كانت مفتوحة!. ارتميت على المصطبة وأنا أحدق فى العتمة، ثم تحاملتُ على نفسى وصلبتُ طولى ووضعت فى المنقد كبشة عضم شامى. أشعلت النار وغسلت براد الشاى وغيرت ماء الجوزة.. فالليلة ستطول. فجأة وجدتها. لا تسلنى بمَ شعرتُ!. كل ما أذكره أن حضورها خطف روحى، ومسنى بجبروتٍ رهيب. كانت جالسة على المصطبة فى كامل حيائها. لم تطلب منى حتى أن أفك السلاسل. بدا لى أنها اطمأنت فلم تعد تتعجل الأمر.. وأنا كذلك. تخيل يا شيخ عارف أننى هِجت، وفكرت أن أهجم عليها لأضاجعها.. تخيل!.
>> ما علينا..
أعددت شاياً لنفسى. لا أعرف إن كان هؤلاء المساخيط يشربون شاياً أم لا!. هى لم تطلب. وعلى كل حال هذا ليس مهماً، فأنا أريد أن أسمعها لأعرف حكايتها. حاولتُ أن أرحبَ بها وأعبر لها عن إحساسى بالسعادة، فوجدتُ لسانى ثقيلاً. قلت لنفسى: حلت لعنتها. بدأ جسمى يحتقن، لولا أن صوتاً أتى من مكانٍ ما فى الغرفة:
>> عندما تريدنى أشعِلْ ناراً.
لم يأتِ الصوت من جهتها: كنت واثقاً من ذلك. لكننى نظرتُ إلى شفتيها بسرعة لعلى ألحق ببقيةً من حركة، فوجدتها تبتسم. آهٍ.. آهٍ يا شيخ لو شفت ابتسامتها. كانت أفصح من كل الكلام.
>> لا أريد أن أطيل عليك.
رفعتُ الراية. تركتها تتوغلُ فى غابة نفسى لعلها تبدلُ خرابها عزاً وغنى. قال صوتها إنها تنتمى إلى أسرةٍ صالحةٍ، مُسَخرة لخير البشر، وأنهم ظلوا يلقنونها ميثاق الجن الصالح، ويقيمون بينها وبين وعيها سداً وراء سدٍ، حتى ظنوا أنها أصبحت مأمورة كغيرها من الجن. لكنها منذ ولادتها نمرودة، مفعمة بذاتها وتكره أن تعيش كغيرها من الجن، لذا عصت وخالفت ميثاق أهلها وسألت: أى بشر!. فانقلب العالم السفلى رأساً على عقب، واجتمع حكماءُ الجن التسعة عشر ليبحثوا أمرها قبل أن يستفحل أثره. قلت فى نفسى مندهشاً:
>> تسعة عشر من حكماء الجن يجتمعون لأن جنيةً طائشةً طرحت سؤالاً ساذجاً كهذا؟
علت نار المنقد وقد أخذت شكل دوامة لفتنى ثم التهمتنى وألقت بى فى ملكوت آخر، لم أرَ مثيلاً له فى حياتي: أضواء مبهرة، وملامح غامضة غير مستقرة، وكائنات نورانية تتحرك فى خشوع وانتظام. لا أعرف كم مضى من الوقت وأنا أغوص وأطفو فى هذا الخضم. وفجأة غرق المكان فى ظلمة حالكة، ورحت أصرخ وأصرخ، لكننى لم أكن أسمع صراخى. أى والله يا شيخ عارف. كان الصراخ يرتد إلى حلقى حتى كدت أختنق، ثم أغمضت عينى واستسلمت. لا أعرف ما الذى حدث لى أثناء غيبوبتى، لكننى أفقت على مشهد يسحق النفس ويبث فيها شعوراً مؤلماً بالضآلة والتفاهة. ثمة قاعة أقف فى منتصفها. لم تكن قاعة، بل هالة من الضوء تحيط بالجميع. أما الجنية نفسها فقد كانت قابعة فى قفص وكلها ثقة وعناد. لم يكن هو الآخر قفصاً، بل هالة من ضوء ذى زرقة صريحة. وثمة منصة يجلس عليها تسعة عشر جنياً، يتوسطهم كبيرهم، ويقال له «حانز». أذكر الاسم جيداً: «حانز». نعم «حانز»، لكننى لا أتذكر شيئاً من ملامحه. أتذكر فقط أنه مال على ميمنة المنصة ثم على ميسرتها. وبعد مداولة قصيرة صدر الحكم على الجنية بأن تقضى بقية عمرها مسجونة بين عالمهم وعالمنا، وحكم على بألا أتزوج سواها.. فما العمل يا شيخ؟
قال الشيخ وهو يتثاءب:
>> طاسة شموع فى طاقة المقام.. واطلب المدد.
سكت خلف لحظات ثم قال متحدياً:
>> بل سأطلب هضبة وأتزوجها. ولتضرب هذه المسخوطة رأسها فى الحائط.
رفع الشيخ كفه اليمنى فتوقف الحضور عن الكلام:
>> الفاتحة يا رجالة
همهم الشيخ العارف بفاتحة الكتاب، لكن عبدالواسع وحسنين عبدالحق أشاحا بوجهيهما.
مسح الشيخ وجهه بكفيه، وطلب من محمود أبو عصاية أن يفتح دفتره. وقبل أن يبدأ فى إجراءات عقد القران، لاحظ الحضور أن جسد خلف يهتز بقوة كأن أحداً يضربه على قفاه. تكرر الأمر مرة واثنتين وثلاثا، وبدأ جسم خلف يتخشب، واحتقن وجهه، ثم غاب عن الوعى، فهب حسنين مفزوعاً وكاد يحتضنه، لولا أن هتف الشيخ محذراً:
>> اثبت.. ماحدش يحفه!
أغلق أبو عصاية دفتره. وقبل أن ينصرف اقترح الشيخ العارف على خلف أن يذهب إلى الحاجة كهارب فى قرية «سلام العُدُر» قبلى مدينة أسيوط، لأنه ملبوس، لكن خلف تقاعس. ومضت ثلاثة أشهر دون أن يحرك ساكناً، وعبدالواسع لا يفهم سبب تقاعسه. وكلما سأله عن موعد عقد القران أفلت بحجة: مرة لا يملك بيتاً، وهو- أى عبدالواسع- يعرف ذلك. وليس معقولاً أن يتزوج فى ببور الطحين أو فى سباتة البوص التى يضع فيها بهائمه. ومرة طلب من عبدالواسع أن يصبر عليه إلى ما بعد «أربعين» والده، وإلا أكل أهل الشق وشه. لكنه كاد أن يفقع مرارته عندما قال له إن الجاموسة ولدت وتحتاج إلى تبن وكسبة، وأنه اضطر أن يشترى لها علفاً بالفلوس التى كان يحوشها للزواج.
البنت معلقة كالفانوس المطفأ، وأهل الشق لا يفهمون شيئاً ولن يسكتوا.. فما العمل؟. قرر عبدالواسع أن يضع حداً لهذه المسألة، فخيره بين أمرين: إما أن يدخل على هضبة فى بحر أسبوع، أو يذهب كل حى إلى حال سبيله. وفى هذه الحالة سيفقد عمله فى الببور، وقد لا يكون له عيش فى البلد بعد ذلك.
وزنها خلف، وقرر مواجهة الجنية: كتب كتابه على هضبة. وفى الليلة نفسها، وبكلفة لا تزيد عن ثمن أردب قمح، سحبها كالبهيمة إلى السباتة، ثم هجم عليها متخماً بمزيج من الشبق والغيظ. وبعد أن مزع غشاء بكارتها واطمأن لف سيجارة وجلس على حرف المصطبة يلتقط أنفاسه. فجأة تذكر أن هضبة لم تجفل وهو يضاجعها، ولم تكن خائفة كأى بنت، بل كانت تتلذذ وتغنج طالبة المزيد. فبصق على الأرض وأطفأ السيجارة فى بصاقه. ثم التفت إليها، فلاحظ أنها ترمقه بعينين يتلألأ فيهما ثبات وتبجح غريبان، وأطلقت ضحكة مدوية وهى تقول:
>> أنت الذى خان العهد. اعمل حسابك.. كلما اقتربت من هضبة سأكون حاضرة
لم يتوقع خلف أن تأتيه المسخوطة بهذه السرعة وبهذه الطريقة. أحس بهوان ولم يجد كلاماً يقوله، ففردت هضبة جسمها وأغلقت عينيها مودعة، فتملكه الغيظ، وأغلظ طلاقاً بألا يقترب منها بعد ذلك. وظن خلف أنه استراح من ملاحقة الجنية، لكن هضبة فاجأته بعد ثلاثة أشهر وزفت إليه نبأ حملها، فأصابته لوثة:
>> ليلة ابوكى كَحَلَة!
طوال أشهر الحمل المتبقية ظل خلف يلاحق هضبة محاولاً إجهاضها دون أن تدرى. مرة طلب منها أن تساعده فى رفع تليس قمح، وتقاعس لعل الشوال يسقط فوقها.. فلم يسقط. ومرة فك الغنم والمعيز من مرابطها، ودفعها نحوها وهى نائمة لتخوض بحوافرها فى بطنها.. لكنها استيقظت. ومرة رفسها عامداً بكل ما أوتى من قوة وهو نائم إلى جوارها.. فتمغطت قليلاً وقالت بصوت واهن:
>> يا راجل حاسب!..
ثم واصلت نومها.
فشلت كل محاولات خلف، فانتظر حتى هاجمتها آلام الطلق وأخذها إلى بيت أبيها بحجة إن من الأفضل أن تلد فى حضن أمها. كان القمر مكتملاً فى تلك الليلة، وأقصر الطرق إلى بيت عبدالواسع يمر من تحت الكوبرى الخشب الذى يربط بين سراية بيت الدكر ومندرتهم. سحب خلف حمارة من حوش الببور وفرش على ظهرها جلباباً قديماً وضع فوقه مخدتين متجاورتين. أوقف الحمارة إلى جوار ماجور عجين مكفى لمساعدة هضبة على الركوب. كانت هضبة تئن بحملها، وكذلك الحمارة، بينما يهرول خلف إلى جوار الاثنتين وقلبه مقبوض. وعندما أصبح الموكب أسفل الكوبرى تماماً حرنت الحمارة وأبت أن تتزحزح من مكانها، بينما آلام الطلق تقترب من ذروتها. بدا واضحاً أن هضبة ستلد فى الطريق. ارتبك خلف ولم يعرف ماذا يفعل!. ثم لمعت الفكرة فى ذهنه: لماذا لا يصعد إلى مندرة بيت الدكر وليحدث ما يحدث!. لم يفكر فى ردة فعل العمدة عندما يفاجأ بأن زوج ابنة خصمه اللدود عبدالواسع يطرق باب المندرة فى ظرف إنسانى طارئ كهذا. أنزل هضبة من فوق الحمارة وهى تعوى من شدة الألم. حاول أن يحملها فلم يستطع، فطلب منها أن تتحامل على نفسها وتتكئ عليه، وكان الطريق طويلاً على غير العادة. كان عليها وهى فى هذه الحالة أن تجتاز المطلع ثم السلم الجانبى لتصل إلى فناء المندرة. لكنها بالكاد خطت خطوتين، وفى الثالثة ثقل جسمها على خلف وبركت منه كجدار بائش:
>> ما قادراش يا خويا!.
تركها خلف تتهاوى على المطلع، ثم جلس وراء ظهرها ليسندها. هل يتركها فى عرض الطريق وهى فى هذه الحالة ويذهب لإبلاغ أمها؟. هل يذهب إلى الداية «ضاحية مرت شيبة الحمد» قبلى البلد؟. هل يغامر ويطلب المساعدة من نواعم، عبدة بيت الدكر، ولم يكن يفصله عنها سوى بضعة أمتار؟.
أحس أن رأسه ينفجر من شدة الحيرة، فإذا بالشيخ العارف يظهر فى اللحظة والمكان المناسبين كعادته. جلس الشيخ وراء ظهر هضبة وطلب من خلف أن يجلس أمامها ويفتح ساقيها على الآخر ولا يرفع عينيه من بين فخذيها، ثم ألقمها ساعده الأيسر وطلب منها أن تعض وتحزق بكل ما أوتيت من قوة.
كلبشت هضبة فى ذراع الشيخ وحزقت:
>> مدد يا حلفاوى!
بعد بضع دقائق أطل المولود برأسه:
>> اسحب يا خلف.. اسحب.
مد خلف يديه وراح يسحب المولود ببطء:
>> بالراحة.. بالراحة.. حزقة كمان يا بت عبدالواسع.
انزلط المولود وسكنت آلام هضبة وانخمد صوتها. اقترح الشيخ العارف على خلف أن يجلس بدلاً منه وراء ظهرها ريثما يذهب لإبلاغ أمها، ثم فتح صرة الهدوم التى كانت مع خلف ولف المولود وألقى بعباءته فوق هضبة. وضع خلف رأسها على فخذه وراح يفكر فيما جرى. كانت غارقة فى سبات ما بعد الولادة. وحتى ذلك الوقت لم يكن قد تحقق من جنس المولود. وعندئذٍ تململت هضبة وخرج منها صوت سرعان ما أدرك أنه ليس غريباً عليه:
>> بنت يا خلف.. واسمها حانز.
رابط دائم: