-
الوباء كارثة للعالم .. لكنه كان فرصة للتجديد والإبداع
-
مهمة المعهد تعزيز الحوار بين ضفتى البحر المتوسط
-
تجربة تونس فى إعطاء المرأة حقوقها تستحق التشجيع
تظل الثقافة هى رافعة الأمم وسر تقدمها وأساس الحياة وجودتها، وركنا من أركان الحضارة لا غنى عنه فى عملية التنمية بجميع جوانبها، إهمالها يجلب على الأمة الفقر والجهل والإرهاب والتطرف، والاهتمام بها يجعلها فى مصاف الدول الكبرى الساعية إلى النهوض والتقدم والتطور. ويلعب معهد العالم العربى فى باريس دورا مهما فى التقارب الثقافى والفنى والحضارى العربى الأوروبى بين شعوب تختلف فى الحضارة والتاريخ والثقافة، ويعد مقره فى باريس جسرا للثقافة بين الشرق والغرب.
رئيس المعهد الحالى هو المفكر والمثقف الكبير جاك لانج وزير الثقافة الفرنسى الأسبق، صاحب التأثير العميق فى الحياة الثقافية الفرنسية على يديه ولد «عيد الموسيقى» ومتحف اللوفر الكبير، كان له الدور الأهم فى اختيار موقع المعهد فى قلب باريس، ومنذ توليه رئاسة المعهد منذ عام 2014، أعاد له الوهج ببرامج واحتفالات وندوات لم تحدث طوال تاريخه، عن الثقافة فى زمن الجائحة، ودورها فى مواجهة التطرف والكراهية، عن افتتانه بنجمات العرب أم كلثوم وفيروز وغيرهما كان معه هذا الحوار..
ماذا عن أوجه التعاون بين المعهد والمعنيين بالثقافة والآثار فى مصر؟
مصر حاضرة بشكل كبير فى برامجنا، وبالتحديد منذ بضع سنوات من خلال المعارض المتعلقة بمصر، وعلى سبيل المثال فقد قمنا منذ ثلاث سنوات بعمل معرض عن قناة السويس، تم فيه عرض لوحات فريدة لافتتاح القناة ومخطوطات وخرائط ومجسمات وأفلام نادرة تحكى تاريخ القناة. لقد تأثرت جدا يوم افتتاح قناة السويس الجديدة من حيث البراعة وسرعة التنفيذ. وقد تناول المعرض تاريخ قناة السويس منذ البداية وحتى اليوم مرورا بالتأميم وعمليات التوسيع وكان عنوانه « قناة السويس: ملحمة مصرية». وقد واكب الزائر فى المعرض موسيقى أوبرا عايدة لفيردى التى كتبت خصيصاً من أجل مناسبة افتتاح القناة وتم تقديمها فى القاهرة عام 1870. ولذا ننتظر بشغف الافتتاح المتوقع قريبا لمتحف قناة السويس بالإسماعيلية.
وماذا عن البرامج الأخرى؟
منذ عامين، قمنا بتنظيم معرض رائع لمسيحيى الشرق والأقباط المصريين. كما قدمنا «معرض أوزوريس» وكان نجاحه لا مثيل له من حيث عدد الزوار ومن حيث التغطية الإعلامية. وقد عرض فى هذا المعرض الاستثنائى عدة تماثيل لأوزوريس منطلقين من الأبحاث التى قام بها علماء آثار مصريون اكتشفوا تاريخها، وفى اللحظة التى أتحدث معك فيها، هناك معرض يقام الآن لفنانى العالم العربى بدءا من أم كلثوم وفيروز، وهذه المعارض نالت نجاحا كبيرا فى فرنسا وأوروبا. مصر حاضرة بقوة فى الأفلام والمهرجانات والحفلات الموسيقية والعروض.
أعلن المعهد عن تنظيم معرض «ديفا» أو معبودات الجماهير لنجمات العالم العربى فمن أين جاءتك الفكرة؟
الأفكار تأتى أحيانا من دون أن نراها، وأنا حالفنى الحظ عندما كنت شابا، أعتقد فى العشرين من عمري، أن أحصل على بطاقة لحضور حفل أم كلثوم، لقد كنت مبهورا بها، وبعدها كان لى شرف أن أتعرف على فيروز والأخوين رحبانى فى بيروت، وصراحة قبل ذلك كنت أجهل فنانى العالم العربي.
وإذا زرتِ المعهد اليوم سترافقين تاريخا من العمالقة، وستلتقين بـ: أم كلثوم وفيروز ووردة وأسمهان وصباح وليلى مراد وداليدا وسعاد حسني. فكل قسم من المعرض مخصص لنجمة من تلك النجمات، فالمعرض مكون من 1500 متر، وستجدين فيه مقاطع من أفلام وحفلات موسيقية وصور فوتوغرافية وافيشات بعضها لم ينشر من قبل، وقطع أصلية من ثياب المشاهير وموسيقات واشياء متعلقة بهن.
تثير حرية المرأة فى عالمنا إشكاليات كثيرة، فكيف تنظر إلى المرأة فى أوطاننا العربية؟
ما أظهرته هؤلاء النساء من الفنانات أنهن عندما يشاركن يكن مصدرا للإلهام لهن ولغيرهن، هؤلاء الفنانات هن ظاهرة للتحرر، ولا تنسى أنهن وجها لوجه أمام المجتمع التقليدي، إنهن حقا نساء شجاعات، وخلال أيام سيكون هناك منتدى للناشطات والنساء الرائدات فى أكثر من مجال، سيجتمعن من كافة الدول العربية للتحدث عن أحلامهن وطموحاتهن ، وللأسف فإن وضع المرأة فى العالم العربى محبط، والنساء لا يزلن تحت الضغط الذكوري، وفى الوقت نفسه توجد بلدان النساء فيها يحاربن للحصول على حقوقهن، ودعينى أقول إن تونس كانت فى طليعة الدول التى أعطت المرأة حقوقها وتستحق التشجيع.
ذكرت أنك من النوع المتفائل الذى لا يصدأ هل تغير هذا التفاؤل مع كورونا؟
على الإطلاق، لقد كان الوباء العالمى الذى نمر به فرصة هائلة للتجديد. لقد تأثرتُ بالديناميكية والإبداع المذهل اللذين أبداهما الفنانون والمثقفون فى العالم العربى خلال هذه الفترة. مصر، على سبيل المثال ، نظمت نفسها واستطاعت مواصلة تطوير برامجها الثقافية من خلال الدورة التاسعة والعشرين عبر الإنترنت لمهرجان الأوبرا للموسيقى العربية فى نوفمبر الماضي، وفى ديسمبر الماضى كذلك تمت إقامة أول مهرجان للسينما الفرانكوفونية عبر الإنترنت بالكامل فى المعهد الفرنسى بالقاهرة، كما تميزت مصر بشكل ملحوظ فى العديد من مجالات الإبداع الفني. فى السينما على سبيل المثال ، كان فيلم منال خالد «حمام سخن» الفيلم العربى الوحيد وأول فيلم مصرى منذ 10 سنوات يظهر فى «القسم العالمي» بمهرجان الجنوب الغربى بالولايات المتحدة فى مارس الماضي، وسعدت جدا حين علمت أن فريقًا مصريًا قد فاز بالمسابقة الدولية لإعادة إعمار مسجد النورى الكبير فى الموصل.
ما هو الدور الذى يمكن أن تلعبه الثقافة فى مواجهة الكراهية والتطرف؟
المصدر الأول فى الإرهاب والتطرف هو الجهل، كما أن هناك عوامل عدة لها دور فى تغذية الإرهاب والتطرف، منها الجهل بالدين والتاريخ، وهناك مصدر التفاهات والأكاذيب، الإرهابيون مختصون بالدعايات الكاذبة، وأنتم تعلمون أكثر منى أن القرآن تم تفسيره من قبلهم بطريقة أيديولوجية، وأشك أنهم قرأوا القرآن أو أنهم حتى يجيدون اللغة العربية بشكل جيد، إنهم بعيدون عن الثقافة والمعرفة. وإذا أردنا سواء هنا فى فرنسا أو فى مصر أن نحارب الإرهاب والتطرف فعلينا أن نفسح المجال للشباب والشابات للتعلم وكسب المعرفة والثقافة ، وأن نعلمهم التاريخ على حقيقته، هذه العوامل هى التى تؤدى إلى تراجع العنف والجهل، وأنا أؤمن بهذه العوامل بعمق.
قمت بإصدار كتاب «اللغة العربية ..كنز فرنسا» فما السبب الكامن فى عشقك للعربية ؟
اللغة العربية جزء من تاريخنا، كما أن اللغة الفرنسية هى لغتنا الأم، تاريخ فرنسا مرتبط بالشرق وباللغة العربية، فمنذ أربعة قرون أسس الملك فرنسوا الأول المدرسة الفرنسية لتدريس اللغات الإنسانية مثل اليونانية القديمة أو اللاتينية واللغة العربية، ونحن نعلم أنه كان لفرنسا وجود فى عدة بلدان عربية، وكان لهذا الوجود حسنات وسيئات، وكان هناك تواصل اجتماعى فى كل بلد وجدنا فيه، فلديكم فى مصر تراث متعدد وتاريخ قديم جدا، إن مصر بالنسبة لجيلى هى بلد الجمال والعظمة، فلدى مصر الفراعنة والمسيحيون، والحضور اليهودى فى مصر، ولغة مقدّسة أنزل بها القرآن إنه بلد غنى بعدة ثقافات، وهى لغة الإمبراطوريات المتعاقبة والحضارات الإنسانية المتعددة.
هل يعانى المعهد من أى مشاكل مادية، وكيف يحصل على تمويله ؟
لا يعانى المعهد من أى مشاكل مادية، ويحصل على تمويله من الحكومة الفرنسية، ومن الزائرين، مقابل أسعار « التكت» ومن البلدان العربية أحيانا، ومن بعض الجمعيات، ومن متبرعين، ومنهم مصريون.
عندما كنت وزيرا للثقافة تعرضت لانتقادات لتجاهلك ضواحى فرنسا، كيف تردون على ذلك؟
هذا عار عن الصحة، لا أعلم من أخبركِ بهذا، بل على العكس لقد كانت هناك نشاطات ثقافية ومكتبات، وليس فقط المدارس، واتخذت أهم الإجراءات لدعم الطلاب من أجل تعليمهم، وكنت بجانب الجميع فى دعم نشاطاتهم الرياضية والثقافية والذهنية، وبالمناسبة هناك سلسلة من المبادرات لإنشاء المكتبات ومراكز الموسيقى، كما أننى لست فى الحكومة منذ عقود، وخلفائى لم يتخلوا عن الخطط الثقافية والاجتماعية.
ما تفسيرك لتعثر ولادة الديمقراطية بعد الثورات فى دول مثل الجزائر وتونس ولبنان وليبيا؟
يظل العالم العربى منطقة شديدة التنوع، وهذا أحد أسباب ثرائه. وبالتالى، من الصعب تفسير التحولات السياسية التى يمر بها كل من هذه البلدان من خلال المتغيرات العامة التى تتجاهل خصوصياتها، حيث تشترك هذه الثورات فى أنها ما زالت حديثة جدًا. على حد قول الشاعر المصرى أحمد شوقى، «ثورة النفوس تقطع الحبال ، وثورة العقول تزيل الجبال». إذا حدثت تغييرات فى النظام بالفعل، يجب أن تتبنى العقليات والعادات السياسية والاجتماعية هذه المنطق الجديد، الأمر الذى يتطلب وقتًا. هذا صعب.
ما حقيقة ما يسمى بـ «اليسار الإسلامي» فى الجامعات الفرنسية؟
هذه لعبة سياسية فرنسية، فماذا يعنى اليسار الإسلامي، إنه تعبير فى غير محله وسخيف، إنه لا يعنى أى شيء، بل مصطلح خلق من أعداء الجامعات، وإذا كان هذا المصطلح قد تصدّر عناوين الأخبار فجأة فى نهاية عام 2020 ، فقد انكشف فراغ هذا التعبير فى وضح النهار من خلال اختفائه المفاجئ بنفس القدر. تمامًا مثل «اليهودية البلشفية» أو «الهتلر-التروتسكية» ، فإن «اليسارية الإسلامية» هى نتيجة لتوترات متزايدة ناتجة عن الصدمة الوطنية التى حدثت فى أكتوبر الماضى، وتبقى معركتنا الأولى هى معركة التعليم والتواصل، هذه هى مهمة معهد العالم العربى من خلال تعزيز الحوار بين ضفتى البحر الأبيض المتوسط من خلال فعاليات ثقافية متعددة. إن فظاعة مقتل صموئيل باتى ترتكز قبل كل شيء على تعصب يغذيه ظلامية زاحفة نحاربها بالفن، لأنه ، كما أعلنت اللامعة غادة السمان ، «الفن وحده يستطيع أن ينقذنا من الجنون».
رابط دائم: