رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

ليلة زفاف اسماء

محمود الجمل;

عندما استيقظت مفزوعا على صوت الرنين المتواصل للهاتف، كانت أسماء على الجانب الآخر، كنت مازلت بعيدا فى أقصى جنوب الصحراء، يجمعنى بزملائى معسكر كامل التجهيز يوفر كافة الخدمات للعاملين بحقول البترول المكتشفة وسط الصحراء الممتدة، الرمال تحيط بأسوار الكامب شجيرات قليلة متناثرة تبدو شاحبة من بعيد.

عندما قررت البحث عن فرصة عمل جديدة بعد التقاعد من العمل الوظيفى الرسمى،لم يكن أمامى سوى البحث عن فرصة تتناسب مع تكوينى وأن يكون المكان بعيدا عن كل الأماكن المعتادة والبشر الذين تعودت على رؤيتهم عبر أربعين سنة متصلة، كنت أبحث عن فرصة للفرار من الجميع والتعامل مع وجوه جديده لاتعرفنى، فرصة للاختلاء بنفسى ومحاولة إنهاء كل مشروعاتى الروائية المعطلة، مخطوطات تحتوى على عشرات التفاصيل ومحاولات لم تنته لرسم شخصيات غير مألوفة، لكن تفاصيل الحياة اليومية وعشرات المعارك محدودة القيمة وقفت حائلا أمام انطلاقى نحو الصفوف الأولى من الكتاب، رفاق المرحلة تقدموا رغم أننى كنت أسبقهم، إلا أنهم كانوا الأكثر تركيزا وتحديدا لأهدافهم، فى الوقت الذى انشغلت فيه بمعارك تافهة عطلتنى واخرتنى، لم أدرك أننى قد بلغت عامى الستين ولم يخرج لى كتاب واحد بصورة لائقة، فى الوقت الذى صار فيه رفاق المرحلة من المشاهير،تنتظر النخبة إبداعاتهم.

الصحراء كانت اختيارى وفكرة العزلة لم تكن هروبا من واقع ملتبس وقصص حب غير مكتملة، واحباطات غير مفهومة، فقط كنت أدرك أن عدم اكتمال مشروع اقترانى بأسماء، هذه العذراء التى فتنتنى منذ أول لقاء، لا أعرف حتى هذه اللحظة ما الذى جعلنى شغوفا بها ولا أكف عن الحلم بأن يجمعنى بها فراش واحد.

عندما رأيتها فى مكتب صديقى رئيس التحرير كانت مشغولة بهاتفها وعلى جانبها علبة سجائرها، تبادلنا وقتها حديثا قصيرا، كنت أرمقها وهى تشعل سيجارتها وتدخن بنهم، انشغلت بتفرس ملامح الوجه، جبهة عريضة وعينان يعلوهما حاجبان عريضان وأنف مسحوب تتدفق من فتحتيه أسراب الدخان بكثافة، تملك شفتين دقيقتين، السفلى ممتلئة قليلا، تضع روج غامق لونه غير مألوف، كان المشهد موحيا بأن ثمة شيء ما سوف يجمعنى بهذه الفاتنة. قبل أن تكمل تدخين سيجارتها الثانية كانت قد أجابت لى عن كل الأسئلة، هى فى طريقها لكى تكمل عامها الخمسين، رغم أن مظهرها وملامح وجهها لايمكن أن يوحى بأنها تزيد عن الخامسة والثلاثين، لم تتزوج بعد، عندما سألتها لماذا، قالت أين هو الرجل الذى يقبل الزواج من فتاة لاتجيد الطهى تعتمد على أمها فى كل الأشياء، قلت لكنك لاترفضين فكرة الإقتران بشكل مطلق،قالت لى نعم، لكن أين هو هذا الرجل.

عندما أشعلت سيجارتها الثالثة، أخذت نفسا عميقا، ثم ألقت بالدخان دفعة واحدة من بين شفتيها ثم قالت لى وهى تبتسم،كفاية عليا قططى وكلابى، مشغولة بهم وبطعامهم، هم اوفى بكثير من معظم البشر وخاصة الرجال، معظم من يشغلون مواقع هامة يبحثون عن محظيات وانا كما ترى،يصفنى البعض بأننى فتاة جادة أكثر من اللازم. انا مكتفية بأمى وبقططى وبعلبة سجائرى.

عندما سألتها كم عدد اللفافات التى تدخنها يوميا،قالت أربعين.

قلت لها انت اخترت عشق النيكوتين بديلا عن المتع المعتادة. واخترت عشق القطط بديلا من الوقوع فى هوى طفل صغير يخرج من بين احشائك.

لم توافقنى اسماء على كل ماقلت..قالت السيجارة محاولة للخروج من واقع العمل المقبض اليومى،محاولة للخروج من القهر، فقط محاولة لتعديل المزاج المعتل. أما العناية بالقطط وإطعام الكلاب فليس بديلا للأمومة. خد بالك..تقول لى، انا لا أقوم بأخذهم فى أحضانى، هم مجرد كائنات ضعيفة أشعر بمتعة هائلة وانا احاول أن اخفف عنهم بعض الضيق.

مرت اعوام على هذا اللقاء مع اسماء ولم نتوقف عن التواصل عبر الهاتف بشكل شبه يومى، كنت احرص على سماع صوتها عبر مكالمات مباشرة احيانا،وكنت استمتع برسائلها الصوتية من خلال الواتس، كنت أصف صوتها بالعمق واداعبها قائلا بأنها لو لم تكن محررة اقتصاد ماهرة لكانت مغنية اوبرا عظيمة.

اسماء تملك صوتا عميقا يأخذك لآفاق بعيدة وهى تحدثك، صوتها قادر على حشد كل الطيور البرية والكائنات الوحشية واستدعاء كافة النيازك المتاحة،صوت لم يتأثر عبر سنوات متصلة بتدخين آلاف اللفافات المحشوة بأجود انواع الدخان، هى تعلم أنه مع كل دفقة دخان يفك اسر عشرات الجن الذين سكنوا بين رئتيها،ينطلقون فى الهواء،يعودون الى قراهم ومنازلهم المحفورة أعالى الجبال

الصاخبة، يتحدثون عن هذه العذراء التى قلما تنام، حتى عندما تغمض عينيها، يظل هاتفها بجوارها، هى دائما فى انتظار رسالة لم تأتى بعد.

عندما نظرت بأمعان فى شاشة هاتفى كان اسم اسماء يتوهج بصورة غير مسبوقة، كنا قد انقطعنا عن التواصل المباشر منذ عدة شهور،وكنت قد اكتفيت بإرسال بعض الرسائل القصيرة فقط لإبداء الود.

لذا كنت مندهشا، لماذا تطلبنى الان.. عندما أمسكت بهاتفى وشرعت فى الرد، بادرتنى قائلة، بدون تفاصيل، انا موافقة، رددت متخابثا، موافقة على ايه، قالت، لقد انهكتنى مطارداتك، عبر ثلاث سنوات لم تكف عن محاولة إقناعى بالارتباط بك. عرفت انك تعمل فى منطقة بعيدة بالصحراء، انا فى انتظارك.

عندما عدت الى القاهرة،اسرعت نحو منزلها، أخبرتها عبر الهاتف اننى فى الطريق إليها، عندما وصلت، كانت تنتظرنى أمام الباب، قالت لى بعد أن اجتزنا عدة أمتار من المدخل لقد تخلصت من كل القطط وقررت التوقف عن التدخين، وقررت أيضا التخلص من الحاحك بقبول فكرة الزواج منك. كانت اسماء ترتعد ونحن نجلس فى حجرتها الخاصة بالدور الاول من مسكنها، كانت العشرات من علب السجائر الفارغة متراصة فوق مائدة صغيرة، كانت عيناها تراوح فى محجريها، لم تكن اسماء التى عرفتها او تعودت على سماع صوتها، كانت تبدو مسحورة، وجنتاها يعلوهما صفرة،شفتاها ترتجفان، قالت لى،هل انت جاد فعلا وتريد الاقتران بى،هل انت مستعد لمعاشرة امرأة لاتكف عن التدخين منذ أن تستيقظ وحتى تنام.

عندما أشعلت اسماء سيجارتها وبدأ الدخان فى التعاقد فى سماء الحجرة، مع كل زفير كانت معدلات الرؤية تتراجع، فقط كنت اتسمع اصوات تقول بفرح شديد..الف مبروك.. الف مبروك. مبروك يااسماء. لم اعد اذكر قبل أن تطبق على جحافل الدخان سوى أننى كنت انزع أشواكا من وردة حمراء يانعة واننى كنت اشرب من إناء بلورى شفاف وأن اسماء كانت مغمضة العينين وشفتيها بلاطلاء. فقط من بعيد تبدو اصوات مواء قطط ونباح جماعى لسرب من الكلاب وصوت ابواب تصفق وأصوات بشرية لم أتبين من كلامهم سوى عبارة، اخيرا..

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق