هذا الكتاب «الأخبار المفاجئة: كيف يؤثر أو لا يؤثر الإعلام فى السياسة؟» نشر أول مرة فى عام 2019 ثم صدرت منه أربع طبعات، يتناول دور الإعلام بكل تخصصاته فى التأثير على السياسة وتشكيل الرأى العام، وما مدى تأثير السياسة فى الاعلام؟ هل يساند الإعلام النظم الديمقراطية أم يسيئ إليها؟ تساؤلات يحاول المؤلف كينيث نيوتن الإجابة عليها. هناك أكثر من دليل على أن الإعلام يؤثر بقوة على السياسة وعلى آراء السياسيين فالعلاقة بين الاعلام والسياسة حية ومتحركة، لكنها تختلف فى نشاطها من مكان إلى آخر ومن دولة الى أخرى ومن عصر إلى آخر .
الكتاب يتضمن أكثر من موضوع حول الإعلام. فهناك أوراق بحث عن الصحافة الورقية، وعن الإعلام الالكترونى، ودراسات تبحث فى وسائل التواصل الاجتماعى التى تنشر اليوم إعلاما جديدا وغير تقليدى. لكن هل تؤثر السياسة فى الإعلام فى المجتمعات الديمقراطية أم الإعلام هو الذى يؤثر فى السياسة؟ المؤلف يعرض أكثر من إجابة على هذا السؤال. أما المجتمعات ذات الأنظمة الشمولية، فقد اتفقت الدراسات على أن الإعلام الحقيقى غائب تماما فى هذه النظم، فالإعلام الحكومى أو الدعايات تفرض على وسائل الإعلام بكل تخصصاتها. لكن المؤلف عرض كل الاجابات دون أن ينحاز إلى النظم الديمقراطية أو الشمولية.
نيوتن يقول إننا نحدد آراءنا حول أحداث العالم ثم نقوم بعملية تصفية أو تنقية لها، ثم نعلن بعد ذلك موقفنا من تلك الأحداث، وهنا يخطئ الإعلاميون. الأمريكيون الذين لايعرفون أين تقع أوكرانيا هم الذين ساندوا فكرة التدخل العسكرى الأمريكى ردا على الغزو الروسى لها، تأثرا بالحملات الصحفية والإعلامية الأمريكية التى أدانت الغزو الروسى، ولنفس الأسباب يعانى السياسيون المتطرفون من تصورهم الغامض بأنهم الأقدر على فهم القضايا السياسية. تبين أن الشخص الذى يتخذ قرارا من الصعب تغييره حتى اذا ظهرت أدلة تؤكد خطأ هذا القرار. وفى أحيان كثيرة يحاول الفرد لى الحقائق التى تساند رأيه لكنها لاتعكس الحقائق ويقدم ذرائع تساند رأيه.
حرب فيتنام
كانت أخبار حرب فيتنام اختبارا مهما لتأثير الإعلام على السياسة وعلى صناع القرار . فى عام 1966 بدأت أخبار جبهات القتال تكشف الحقائق من خلال التقارير الصحفية اليومية المكثفة وامتلأت الصحف بخطابات القراء المناهضة للحرب. فى نهاية هذا العام كان غالبية الشعب الأمريكى يمينا ويسارا ضد استمرار الحرب وطالبوا بسحب القوات الأمريكية، بما يؤكد قوة تأثير الإعلام ليس فقط على السياسة ولكن على موقف الرأى العام .
الصحافة والتصويت فى الانتخابات
ينقلنا الكاتب إلى قضية تأثير الصحافة على الموقف السياسى للناخبين فى بريطانيا ويعرض علينا من خلال دراسات دقيقة مدى انتشار الصحف بين البريطانيين . يكشف الكتاب بالدراسات والأرقام أن العلاقة بين الموقف السياسى للصحيفة وبين القراء ليست جامدة، القراء لاينحازون تماما لرأى الصحيفة لعدة أسباب أهمها أن بعضهم لايتفهمون طبيعة الموقف السياسى للصحيفة . وهناك من يخطئون فى أحكامهم عليها .وهناك قراء لايعنيهم كثيرا انحياز صحيفتهم السياسى لأنهم يختارونها لأسباب غير سياسية . فهناك من يهتمون بقراءة صفحات الرياضة أو الحوادث أو الفن ولاتشغلهم السياسة. وبعض القراء منذ طفولتهم اعتادوا قراءة الصحيفة التى يقرأها والداهم كما أن السياسة وألاعيبها لاتشغلهم . والمؤلف يشبه اختيار القارئ للصحيفة كاختياره للمقهى أو المطعم . هناك من يفضلون المقهى الهادئ وآخرون يفضلونه يضج بالموسيقى. وهنا يلعب ذوق وثقافة الفرد دوره فى اختيار الصحيفة. يطرح المؤلف بعد ذلك سؤالا مهما عن مدى ثقة القراء اليوم فى الصحف ؟ نتائج استطلاعات الرأى هنا تختلف حسب الزمان والمكان والعينة المختارة، لكن المؤلف يرد بأننا نستطيع الحصول على إجابة عامة لموقف القراء. والاجابة هنا لاتدعونا للتفاؤل كثيرا! وجد استطلاع أمريكى أن نسبة كبيرة من الأمريكيين الآن يرون أن أخبار الصحف غير دقيقة لأنها اعتادت التحيز لفريق دون آخر، ولديها قابلية للتأثر من أصحاب السلطة والمنظمات والمؤسسات الكبيرة. وفى بريطانيا انخفضت الثقة فى صحف التابلويد بالسنوات الأخيرة لتصل إلى 14% بين القراء بالسنوات العشر الأخيرة. وانخفضت بشدة ابتداء من عام 2012 فلم يعد يثق فى جدية وصدق الصحف الورقية سوى 33% من القراء بينما هناك 66% من القراء لايثقون على الاطلاق فى ما تنشره الصحف.
الديمقراطية.. والإعلام
شغل موضوع الديمقراطية والاعلام مساحة كبيرة فى أكثر من فصل بالكتاب. المؤلف يرى أنه لاتوجد ديمقراطية اذا لم يكن هناك إعلام وصحافة حرة، وفرض رقابة على الاعلام يقتل الديمقراطية. بعد ذلك يعرض مميزات وعيوب حرية الإعلام بالولايات المتحدة واليابان وعدة دول أوروبية، ويصل إلى أن المجتمعات المنفتحة التى تناقش فيها الأفكار بحرية دون خوف أو قهر ويتم التنافس فيها بين الصحف وبين أجهزة الإعلام المختلفة هى الوسيلة المثلى لاقامة صلح بين أجهزة الإعلام والدولة الديمقراطية .
القرائن تشير الى أن هناك علاقة إيجابية بين إقبال الجماهير على مشاهدة التليفزيون العام - تليفزيون الدولة وزيادة الوعى بالقضايا السياسية، فالأخبار المحلية والدولية تذاع عدة مرات فى فترات الذروة وهى أكثر حيادا وصدقا، لذلك فان الثقة فى التليفزيون العام ضعف ثقة المشاهدين للتليفزيون التجارى . [المقصود بالتليفزيون العام هو ماتشرف عليه الحكومة وتمول جزءا من ميزانيته والباقى من التبرعات التى يتلقاها من المشاهدين، لكنه مستقل تماما إعلاميا وسياسيا عن الحكومة]. والتليفزيون العام مثل التليفزيون البريطانى وتليفزيون راديو كندا لايهدف إلى الربح وهناك عدة دول أوروبية لديها هذا النوع من التليفزيون العام تسانده الدولة لكنها لاتتدخل فى برامجه .
صاحبة الجلالة.. وبلير وتاتشر وميردوخ
حكايات تأثير الإعلام على السياسة تستغرق عدة صفحات من آخر فصلين بالكتاب، لذلك تستحق الصحافة البريطانية بجدارة أن نطلق عليها صاحبة الجلالة. يقول المؤلف إن قوة الصحافة تتجاوز فى أحيان كثيرة مهمتها ورسالتها الصحفية. ذكر نيوتن جانبا من شهادته أمام لجنة التحقيق البريطانية التى شكلت عام 2012 لتبحث رد فعل الصحافة على تجاوزات ميردوخ. فقد أعلن تونى بلير أنه قبل الانتخابات التى ترشح فيها كزعيم لحزب العمال عام 1995، سافر من لندن لأكثر من نصف الكرة الأرضية ليلتقى روبرت ميردوخ فى نيوزيلندا بهدف إقناع ميردوخ بألا تهاجم صحفه حزب العمال. يضيف المؤلف: المثير للدهشة حول لقاء بلير وميردوخ، ليس موقف حزبه الضعيف بالانتخابات، ولا أنه رضخ لميردوخ، ولا أن هذا اللقاء ظل سرا طوال عدة سنوات رغم الشائعات التى تداولها الصحفيون حول هذا اللقاء لكن الغريب أن بلير كان مقتنعا بأن مساندة ميردوخ أوتحييده كان ضروريا جدا ليحقق طموحه ويفوز بالانتخابات. ويؤكد المؤلف أن بلير كانت لديه عدة أسباب للقاء ميردوخ. فصحف ميردوخ فى بريطانيا يتجاوز توزيعها خمسة ملايين نسخة يوميا يقرأها بين 10 ملايين 15 مليون قارئ، ويمتلك ميردوخ أيضا صحيفتى التايمز والصنداى تايمز بما يعنى سيطرته على ثلث سوق الصحف القومية ببريطانيا، وكان معروفا بتدخله فى سياسات التحرير بالصحف التى يملكها مما تسبب بصراعات وأزمات كثيرة بينه وبين الصحفيين بصحفه.
هذه الصحف ساندت حزب المحافظين فى أربعة انتخابات تشريعية سابقة على مدى 18 عاما. لكن فى عام 1997 غيرت الصن موقفها من تأييد المحافظين إلى حزب العمال لمساندة تونى بلير الذى فاز باكتساح. فبعد لقائه مع ميردوخ عام 1995 توطدت علاقة الصداقة بينهما رغم أن ميردوخ كان قد سبق وأعلن أن الصداقة بين الصحافة والحكومة ليست صحية أما الرسالة التى خرجت من هذه العلاقة فتقول للسياسيين: حافظ على أن تكون قريبا من أصدقائك الصحفيين، وعلاقاتك بأصحاب الصحف أكثر قربا... وبينما أصر ميردوخ على أنه لم يطلب شيئا من رئيس الوزراء البريطانى، لكنه طلب من بلير صراحة قبل الغزو العسكرى الأمريكى للعراق عام 2003 أن يؤيد ويساند الغزو بكل الوسائل ! بعد ذلك أشاد بلير بموقف صحف ميردوخ فى تأييد الغزو [من هنا اختلق بلير كل الأكاذيب التى تساند الغزو وأعلن أن لدى العراق أسلحة دمار شامل] !
لم يكن بلير أول زعيم سياسى بريطانى يقيم علاقة صداقة مع ميردوخ ولم يكن آخرهم، فالوثائق التى أفرج عنها من أرشيف مارجريت تاتشر،كشفت أنه كان هناك لقاء سرى بين تاتشر وميردوخ يوم 4يناير 1981 حيث عقدا صفقة تتضمن أن تساند صحف ميردوخ تاتشر فى الانتخابات المقبلة مقابل أن تساعده الحكومة البريطانية فى شراء صحيفتى التايمز والصنداى تايمز، بما يؤكد أن ميردوخ كان يبتز أعدادا كبيرة من السياسيين البريطانيين ليرضخوا لمطالبه مقابل مساندة صحفه لهم.
هذه الأسرار وتلك الفضائح تؤكد أهمية وخطورة تأثير الصحافة على السياسة، وأن الزعماء السياسيين تدفعهم طموحاتهم أحيانا للرضوخ لرغبات الصحافة وأصحاب الصحف .
رابط دائم: