لم تكن غفوتى هى الأولي، منذ أن تحركت بنا الحافلة فى هذا اليوم المشؤوم، أحسست أننى أخط نحو الانهيار، أمعنت النظر فى الوجوه، فازداد الأمر سوءا . الشحوب هو القاسم المشترك، ولم تفلح الفكاهات التى أطلقها أحدهم، فى نزع فتيل القلق .
كان استقبالنا لائقا بمهمتنا، ألبسونا أكاليل الزهور، أوجز الحضور فى خطبهم العصماء على غير العادة، انفض الحفل سريعا، وفروا كلهم ما عداى ورفاقي، وبالرغم من فخامة المستشفي، إلا أنهم عندما أغلقوا الباب أحسست بالرعب، كل الوجوه مقنعة ولاهثة، دخلنا غرفة التعقيم، وبدأنا الدخول فى ذلك الرداء المقيت .
الموت عنوان المرحلة، وجدت هذه الجملة مكتوبة على ورقة فوق المكتب عند استلامى أول نوبتجية، أدركت أن من كتبها هو الطبيب السابق من خلال توقيعه، طلبت فنجانا من محبوبتى القهوة، بدأت فى تصفح ملفات المرضى فى هذا العنبر، ترددت فى شربها، فلا علم عندى بإجراءات الوقاية عند عامل البوفيه، أزحتها جانبا واستأنفت عملي، استوقفتنى حالة سيدة وابنتها فى نفس الطابق، فزعت من هول الصدمة، تحركت لأتابعهما، أوليتهما عناية خاصة، دعوت الله أن تمتد لهما يد الشفاء، ولكن الأم لفظت أنفاسها الأخيرة.
من شرفة الحجرة، استطعت تمييز زوجها من بين العشرات خارج المستشفي، لم تكن دموعه بالكثيرة، كانت أناته وحسراته تصنع جسورا طويلة يحاول المرور عليها؛ كى يمسك بروح زوجته، ولكن هيهات هيهات
تعمدت إدارة المستشفى عدم إخبار البنت بوفاة أمها، وبالرغم من سؤالها المتكرر، وإجاباتنا غير المقنعة، بدت البنت أكثر اطمئنانا، وكأن عقلها الباطن يرفض مجرد التفكير فى إصابة أمها بمكروه.
وعند خروجها سألت عن أمها، لم يستطع أحد منا الإجابة، أخذت تنتحب فى صمت مودعة الجميع، لم نسمع صرخاتها، إلا عندما ألقت بنفسها فى حضن أبيها.
لم تكن هى المرة الأولى التى يحتضر فيها أحد أمامي، لقد تجرعت نفسى معظم عذابات الحياة، ولكن نظرات الأم وهى تلفظ أنفاسها الأخيرة، ويدها تشير إلى حجرة ابنتها، يبدو أنها ستجثم على صدرى حتى الممات.
كان المشهد الوحيد الذى يبعث فى نفسى الأمل ويخرجنى من كآباتى المتعددة، هو مشهد شفاء أحد المرضي، وكـأنه ينزع عن نفسه حبل المشنقة، ويتنفس الحياة، ويتركنا لنصارع نفس المصير.
لم تفلح الأيام فى تهدئة نفسي، لمرات كثيرة أحسست بالاختناق من هذا الرداء ، أشعر أننى سأموت خنقا داخله، أمر مرور الكرام على أصدقائي؛ عندما ألمحهم فى جنبات المستشفي، كل منا يخشى الآخر، وبالرغم من انتشار رائحة المطهرات والمعقمات إلا أننى أشم رائحة مختلفة، أعلم أنها رائحة الموت، وأعلم أنهم يشمونها مثلي.
كلما تحدثت مع زوجتى عبر المحمول، أرى الدموع تختبئ فى مقلتيها، نحاول الاختباء وراء ابتساماتنا الزائفة؛ حتى لا يشعر صغارنا بالحزن، خلال اللحظات القليلة التى يرتشفون معى فيها شوق اللقاء ورائحة الأمل، ولكنها تترك لدموعها العنان؛ عندما ينام الأطفال ونتوحد أنا وهى والأحزان، كنت أشعر بحرارة دموعها، فتمتد يدى رغما عنى وتمسحهم عبر شاشة المحمول، فنضحك سويا ونحاول الإبحار فى عالمنا الخاص.
الدقائق تمر وكأنها ساعات، ولكنها تمر، تنتهى نوبتجيتى أخيرا، وأدخل فى المتاهة الثانية خمسة عشر يوما داخل هذا العزل اللعين، أتفقد الوجوه من حولي، ألقى السلام عليهم واحدا واحدا، أحاول التعرف عليهم داخل أقبيتهم الوقائية، لمرات عديدة لم يكن العدد مكتملا، للحظات جال بخاطرى ما كنت أخشاه، هل أصيب أحد أفراد الطاقم؟ رفضت هذه الفكرة قدر المستطاع، حتى تأكدت من خلال دموع الطبيبات اللواتى سالت خلف الأقنعة وملأته، فأحسست معهم بالاختناق، بدأت نوبة من الهستيريا والصراخ، ياإلهى بالرغم من كل تلك الاحتياطات، إلا أن هذا الوباء اللعين يفعل بنا ما يريد.
لم يكن الأمر صعبا هذه المرة، استسلمت لهم وهم يأخذون لى المسحة الأولي، أكثرت من الدعاء، حاولت ألا أضيع أى لحظة أستطيع فيها التحدث إلى زوجتى والصغار، بدأت أسرد مع نفسى أسئلة الموتي، هل ستتزوج زوجتى من بعدى ؟، هل سيكون المعاش كفيلا بمنحهم حياة سعيدة ؟، وعلى قدر التضحية؟، أرى أمى وأبى يبتسمان لي، ومعهم من فقدت، خلال رحلتى القصيرة، استيقظت وجلا فى انتظار نتيجة المسحة الأخيرة، أكثرت من الصلاة وانتظرت اللقاء .
رابط دائم: