رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

خبيئة نجيب محفوظ
فى «أعوام» البدايات و«أصداء» النهايات

كان يمكن لهذا الكتاب أن يقع فى فخ، مغر بطبيعة الحال، ويكتفى صاحبه، بالكشف عن الخبيئة فحسب، والخبيئة هنا هى نص نادر غير منشور من قبل لأديب مصر العالمى نجيب محفوظ، كتبه فى سن مبكرة (18 عاما تقريبا)، مسترشدا ومتأثرا بكتاب الأيام لطه حسين، لكن الناقد الأدبى والصحفى، محمد شعير، اختار الطريق الصعب، ولم يكتف بارتداء قبعة مستكشفى المقابر الفرعونية، وإنما كان من «الحفارين»، الذين يفتشون فيما وراء الخبيئة، وأثرها فيما بعد على أدب ورؤية صاحب الكنز نجيب محفوظ، للحياة والوجود والموت، والكثير من المعانى الملغزة الأخرى.


ما يبدو مثيرا للتساؤلات، هو تعمد شعير إخفاء طريقة عثوره على نص محفوظ الخفى، رغم أن فى ذلك رحلة لاتقل متعة عما يحويه النص ذاته. وبينما يترقب القارئ تفاصيل البحث، يختصر شعير ذلك فى سطور قليلة، مكتفيا بأن "الأعوام" فقد من منزل نجيب بالعباسية بعد وفاة والدته، ثم خرج بطريقة غامضة من مصر ليستقر عبر ما يبدو أنه تهريب ثم صفقة مزادات فى أمريكا وبريطانيا، قبل أن يستقر لاحقا لدى شخص من هواة جمع النوادر فى دولة عربية، ليصل أخيرا عبر البريد الإلكترونى لصاحب الكتاب. فهل كان الاتفاق يقضى بإخفاء رحلة النص ورحلة خروجه من مصر فى مقابل الكشف عنه؟

فى نص "أعوام نجيب محفوظ: البدايات والنهايات"، الصادر عن دار الشروق، يتحدث محفوظ عن "صبي" شقى، تربى فى الجمالية، وارتبط بأمه وعالمها وحكاياتها ورحلاته معاها فى الترام، وتأثر بأجواء الكفاح الوطنى ضد الإنجليز، وشب على تقدير اسم سعد زغلول، وغياب واضح للأب وأثره، وانشغال بحكايات الخير والشر وانتصار الموت على الحياة حتى يقول على لسان كاتب المذكرات (لقد شغله الموت والأموات وقتا ليس بالقصير).، ورغم السن المبكرة التى كان فيها محفوظ وهو يكتب أعوامه هذه، فإن التفكير والانشغال بما وراء الحكاية، يبدو واضحا حتى أنه يتوقف عند ما ترويه له والدته، متسائلا (هل قصت عليه تلك القصة لانها كانت حقيقة؟ أم لتحذره من شر الثعابين؟ أم لتعظه ألا يعتدى على مخلوق لم يؤذه حتى ولو كان ثعبانا؟)، وهو منهج وطريقة تفكير ستظل تلاحق محفوظ فى أعماله الأدبية لاحقا. وهكذا تكشف "الأعوام"، ولو بشكل غير مرئى عن جانب كبير من القواعد المؤسسة لعالم نجيب محفوظ الذى ستظهر ملامحه تدريجيا فى رواياته وكتبه القصصية، وصولا إلى نصه الآسر "أصداء السيرة الذاتية"، وكأن الأعوام كانت البذرة، التى توالى عليها الزمن والخبرات والمعرفة والريح والمطر، فأنبتت أشجارا كثيفة تشكل إبداع محفوظ.

انطلاقا من "الأعوام"، يبحر شعير فى عوالم محفوظ المتشابكة وطبقاتها المتعددة، ولايقف عند ثوابت المرويات عن محفوظ، وإنما يسعى لتفكيكها والتأكد من أصلها. فيفسر مثلا، سبب اختيار أديب نوبل لاسمه وحده (نجيب محفوظ) بعيدا عن اسم والده باعتباره "موقفا فلسفيا وأخلاقيا من السلطة الأبوية"، ودليله على ذلك ليس فقط غياب الأب بشكل ملحوظ فى "الأعوام"، وإنما لأنه حتى أول قصة نشرها محفوظ بعنوان "السفينة البيضاء"، فى مجلة مدرسة فؤاد الأول الثانوية التى كان طالبا فيها، نشر اسمه "نجيب محفوظ"، مستبعدا اسم والده عبد العزيز، وهو الأمر الذى تكرر لاحقا فى كل كتبه. يهدم شعير أيضا مقولة تدواولت كثيرا عن أن نجيب محفوظ سمى هذا الاسم تيمنا باسم طبيب التوليد الشهير الذى يحمل نفس الاسم وقام بتوليد والدته، إذ يقارن شعير بين تاريخ ميلاد محفوظ الأديب (ديسمبر 1911)، ورحلة قام بها محفوظ الطبيب خارج مصر لقضاء إجازة مع زوجته لمدة شهرين (نوفمبر 1911)، فهل قطع الطبيب شهر العسل من أجل توليد والدة الأديب؟ أم أن القصة غير دقيقة بالأساس؟

كتب محفوظ (أصداء السيرة الذاتية) فى عمر الثالثة والسبعين، أى بعد نحو 55 عاما، من (الأعوام)، ويصل شعير لتفسير مفاده أن الصبى فى "الأعوام" كان يعبر عن صوت نجيب محفوظ الطفل أو المراهق، وأن كمال عبد الجواد فى الثلاثية كان يعبر عن أزمة محفوظ الوجودية فى الشباب، أما عبد ربه التائه فى "أصداء السيرة الذاتية" فهو قناع فنى ارتداه محفوظ لينقل من خلاله خبرته وأفكار نهايات العمر، وهو تفسير يوضح ببساطة أهمية اكتشاف "الأعوام"، ودورها فى تتبع تطور صراعات الشك والقلق داخل نفس محفوظ وسعيه نحو الوصول لليقين ومحاربته المستمرة لعبث العالم بإرادة الحياة.

مرة أخرى، بعد تجربته فى كتاب "أولاد حارتنا، قصة الرواية المحرمة"، يعيد شعير الاعتبار لفضيلة التقصى والتحليل الصحفى، ولايجعلها حكرا على نوعية معينة من القضايا المعاصرة ذات الطابع الاجتماعى أو السياسى، وإنما يجعل من ذلك المنهج وسيلة لإعادة قراءة زمن بأكمله وليس منتجا أدبيا فحسب، ليهدم بذلك أسطورة أن عالما ثريا كعالم نجيب محفوظ قد انكشفت كل خباياه، بينما الحقيقة أن الكثير منها لايزال كامنا بانتظار مستكشف حفار محترف وشغوف.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق