رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

بيت الرعب

فكرى عمر

من الدهشة تجمد فى مكانه.. بعد عشرين عامًا من تلك الليلة رآه أمامه، على جانب الطريق وفى شمس أغسطس الجهنمية. انكسر سرُّ الساحر، وألقى العملاق ذو العيون الحمراء كل أسلحته. على الأرض تهاوى فى هدوء كعجوز بلا قوة ولا حيلة. عظام جمجمته تناثرت أسفل قدميه، وتمزقت أكتافه من أثر الارتطام. بانت الدعامات الصلبة خلف جسده. سقطت أنيابه، وأظلافه، وقرونه. لم يعد ثمَّ تهديد بهدير مرعب، ولا ضربات خفيه بأيادٍ كالمطارق، ولا نظرة متوعدة تسحب الدم من العروق، وتقفز بالليل إلى الأحلام فتحيلها إلى كوابيس.

كان رفاق العملاق أيضًا مكومين وراء السور الحديدي، وبين الأشجار المشذبة. البقية مكدسون داخل قفص معدني، يرمون نظرة كسيرة إلى المارة دون اعتداد بماضيهم المجيد.

أهكذا ينكسر كل شيء فى وضح النهار؟!

سأل نفسه وهو يهبط من سيارة الأجرة. قدماه مثقلتان من التعب، وعيناه مصوبتان إلى صندوق النقل المكشوف. على جانب الإسفلت مجموعة من الكافتيريات التى تأكل واجهاتها حرم الطريق الزراعي، تمتد أمامها على الأرض المرصوفة بالأسمنت أرجل الكراسى البلاستيكية الملونة كدعوة جذابة للجلوس، وتمديد الأرجل لمداواة أثر الجلسة المُتعبة داخل السيارة. كانوا بمنتصف المسافة تقريبًا بين المنصورة والقاهرة. اختار السائق هذا المكان خصيصًا لألفته بصاحبته فيما بدا من تلك الابتسامات، والجمل القصيرة الموحية. جميع الركاب غرباء يجمعهم مكان غريب، يلتقون صدفة ويرحلون بعد ذلك فى اتجاهات شتي. حتى الذين أتوا أزواجًا لم يرهم يتحدثون كثيرًا. يجذبهم الطريق الطويل إلى الوقوع رغمًا عنهم بين براثن الذكري، أو فخاخ الأمل فيما هم مُقبلون عليه، فتنطلق خيالاتهم إلى أزمنة وأمكنة كثيرة.

تبقت ساعة ونصف للوصول إذا لم يكن هناك ما يعكر الصفو، ويهدئ السرعة كحادث عارض من الحوادث التى لا يخلو منها يوم. يرى ذلك أمامه أحيانًا، ويطالعه أحيانًا بنشرات الأخبار. انهيارات مفاجئة فى الطرق، انهمار ماء السماء بشكل كثيف وغير مألوف، أو فقدان رأس سائق مُخدَّر القدرة على تقدير مسافات العبور، أو مزاجه الذى ينقلب نتيجة عركة مع زبون يرفض الحجج التى يؤلفها السائقون، للحصول على أكثر من الأجرة المحددة.

على مسافة قليلة بوابات مفتوحة لحديقة النخيل. تعلو يافطتها الملونة فوق أعمدة برونزية. تعلن عن بدء موسم جديد من الحفلات المنوعة، والألعاب، ومفاجآت بيت الرعب. فى مساحة مفتوحة أخشاب، وكراكيب منثورة، وعربة النصف نقل، وبضعة عمال أتوا إلى الكافيتريا التى هبط عندها، ليشربوا شايًا، وسيجارة، وقليل من الاسترخاء.

انفكت قدماه بعد أن تلقى صدمة الرؤية الأولي. دار كالمجذوب حول وحوش الطفولة، وعفاريتها. ربما هم ذاهبون إلى حيث تُرمم جلودهم بالأسمنت، وعيونهم بالزجاج، وقرونهم بالعاج.

سأل السائق والعمال عنها بجرأة لم يعتدها فى الحديث مع من لا يعرفهم بعد. أخبره سائق النقل بوجهه الطفولى الضاحك أنها خرجت إلى المعاش المبكر. أحد العمال قال إنها فى الطريق إلى التكهين لصنع غيرها.

أَمَّن على كلامهم مُشجعًا على المواصلة. كانوا يناوشون بعضهم بعضًا قبل أن يحاورهم. قال العامل الآخر: «الدنيا تطورت، هناك النظارات ثلاثية الأبعاد، شاشات العرض، المجسمات. الأجانب العفاريت عملوا شغل جديد يجعل الواحد يتبول على نفسه، ويغمى عليه قبل أن يخرج من الباب الثاني».

ضحكوا مرة أخرى بمرح..

تذكر تلك الليلة حين أُغمى عليه. لم يتحمل تلك الجرعة من الرعب، الظلام لم يكن يبرق بالضوء فجأة إلا على فاجعة جديدة، ثم تنطفئ الإضاءة فى اللحظة التى يتلقى فيها صفعة خفيفة لكنها مريعة على رأسه أو قفاه، أو لمسة بالعصا على ظهره تجعله ينط من مكانه فى القاطرة الحديدية التى تنزلق إلى زوايا جانبية بها وحوش مختلفة الأحجام والأشكال.

أكان يمكن أن يغمض عينيه حتى ينجو؟ لم تكن تلك الطريقة صالحة فى ذلك الوقت، فلا يستطيع أن يفعل ذلك؛ كى لا يسقط من القطار، ويظل وحده فى غابة من وحوش، وأصوات تزلزل كيانه، ولا يدرى باللحظة التى واجه فيها هيكلًا عظميًا مقبلًا عليه. امتزجت صرخته بصرخة الوحش، فانفصل حينها عن الوجود من حوله. حين فتح عينيه وجد نفسه محاصرًا بوجوه كثيرة خائفة تهزه، وصوت أمه وأبيه يتوسلان إليه أن يعود إليهما.

يومها لم يستطعم المشروبات التى أتوا بها من أجله، ولا السندوتشات التى لم يكمل تناولها، وفى الليل حين تذكر كل شيء مرة واحدة تلاشت أسرته من أمامه، اعتمت الدنيا فى ناظريه. رُوِّعت أسرته، وأحاطوه بالعناية والمزاح طوال الليل، بينما جَسَّد إخوته على قدر ما يستطيعون كل الأدوار المضحكة التى كان يحبها ويضحك بكل قلبه معها.

طلب إلى أحدهم أن يلتقط له صورًا برفقتها. أخذ لها بنفسه أيضًا عدة صور، ومن زوايا مختلفة بكاميرا هاتفه المحمول. الوحوش الملقاة على الأرض، أحدها مقطوع الذراع مكسور القدم، وأحدها عينه الوحيدة مفقوءة وظهره مكسور، مسنود بخشبة كنائم فى قيلولة أبدية، هيكل عظمى ممزق الأطراف، وجه باهت نُزعت من فوقه قماشة ملونة مرسومة بهيئة جمجمة وعظمتين، رأس حمراء لخرتيت، وشيطان بقرنين مقطوع الذراعين، ومنكفئ على وجهه.

كان الركاب يلتهمون أكياس الشيبسي، والبسكويت، والشوكلاته، والمياه الغازية، والسائق انجذب إلى رجال النصف النقل. داروا حول العربة للحديث يتفحصونها بأيديهم. أى أن دقيقتين على الأكثر يمكن أن يظل بهما برفقتهم.

مرة أخرى اندفعت العربة على الطريق. راح كل واحد إلى عالمه. الآن فقط أحب عزلته. أدار أصابعه ليُكبِّر التفاصيل. يتذكر كل واحد منهم. ما تبقى فى رأسه من تلك الليلة يفوق الوصف.

انطلقت العربة على الطريق مرة أخري. عاد إلى عزلته التى صار يحبها ويحميها بكل ما استطاع من حيلة. أى شعور بالفرحة كان يتملكه الآن وهو يشاهد صور أجسادهم المحطمة، وانكسارهم المخزي! لكن ما إن أخذ يحدق إليهم طويلًا حتى فاجأته غمامة من الدموع وقفت فى عينيه. لم يملك القدرة على المقاومة. خبأ وجهه على مسند الكرسى الذى أمامه مدعيًا النوم. كانت دموعه تهطل على خديه. حاول ألا يخرج منه صوت النشيج الذى يجلب إليه الشفقة حالمًا أن ينطوى الزمن، ليعود الهارب من جحيم بيته ومن أناس كانوا حوله، ثم انكشف عنهم قناعهم إلى طفولة بعيدة كانت فيها عفاريت بيت الرعب ووحوشه فقط هم أقسى كوابيسه.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق