رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

بريد الجمعة.. يكتبه: أحمد البرى
قلب العاصفة!

يكتبه أحـمــد البــــــرى

أنا رجل تعديت سن الخمسين، وأنتمى لأسرة بسيطة جدا تضم الأب والأم وستة أبناء، «ولدان وأربع بنات»، وترتيبى الثالث بينهم، ومنذ أن وعيت على الدنيا، وجدتنا نعيش الفقر والجهل والمرض، وكان كل همنا فى الحياة، الحصول على رغيف الخبز، وعانينا التفكك الأسرى، ولم يجمعنا لا حب ولا مودة، ولم يعرف الوفاق إلى والدينا طريقا، إذ كانا دائمى الخلاف والشجار بسبب مصروف البيت، ولم يستطع أبى توفير متطلباتنا الضرورية من عائد وظيفته الحكومية، واتسم بطباع غليظة، وقاسية، فلا أتذكر أنه احتضننى أو «طبطب» علىّ يوما، ولم أعرف عنه إلا الوجه العبوس، والأخلاق غير الحميدة، وتسبب برعونته واندفاعه فى كره العائلة لنا، وخاض مشكلات مع أخوته حول ميراثه عن جدى، ورحل عن الحياة دون أن يحصل على شىء، وبقيت العداوة مسيطرة على علاقتنا ببعضنا.    

أما الأم فهى سيدة بسيطة كافحت كثيرا من أجلنا، وشربت «المر» من قسوة أبى، وقد تحمّلنا شظف العيش، والإقامة فى غرفة واحدة بالإيجار، وحتى هذه الغرفة لم تكن متاحة لنا بشكل دائم، إذ سرعان ما كنا ننتقل إلى غرفة أخرى، وكنت وقتها صبيا صغيرا، ومرت الأيام، وانتقلنا عن طريق أحد أقاربنا إلى شقة صغيرة جدا بالدور الأخير فى عقار آخر بالمنطقة نفسها، وذقنا مرارة الحصول على مياه الشرب التى لم تكن متوافرة بها، وعملنا ونحن صغار فى جميع «الأشغال»، فكنا نبيع مع والدتنا الخضار والفاكهة و»السندويتشات» على قفص فى ناصية الشارع الذى نقطن به، وكان أبى يأتى إليها فجأة، وتنشب بينهما المشاجرات على مرأى ومسمع من المارة والمشترين، فيتدخلون لفضها، وهكذا واجهنا أهوالا ومتاعب لا حصر لها، وتأثرنا بهذا الجو الكئيب الذى خيّم على حياتنا، وأصابنا القلق والاكتئاب والخوف والوساوس، وكان لى النصيب الأكبر من عدم النوم والفزع فى عز الليل، فاضطربت حياتنا، وساد بيننا الكره، وعرفنا حياة الشارع والنوم خارج البيت فى سن صغيرة، وانزلقنا إلى السرقة من أجل رغيف «العيش»، ولم نعرف صوما ولا صلاة، ولم يكن هناك أى جانب إيجابى فى تربيتنا سوى إصرار أمى على تعليمنا، وتحمّلت متاعب المرض، وفى أيامها الأخيرة اقتربت منها كثيرا، وتحسنت علاقتى بها إلى حد كبير، بعد زواج أخوتى، ولم يمض وقت طويل حتى لقيت وجه ربها، بينما ظلت علاقتى بأبى سيئة.     

ومرت سنوات عديدة، وأنا عاجز عن توفير مسكن لى، ثمّ حصلت على شقة صغيرة بصعوبة بالغة، وتحسنت ظروفى بعض الشىء بعد تعيينى بالثانوية العامة فى إحدى الوظائف، وتقربت لوالدى داعيا الله أن ينزل عليه السكينة والهدوء، واستجاب سبحانه وتعالى لدعائى، وتغيرت طباعه بشكل ملحوظ، وأصبح يزورنا محملا بالفواكه، وحرصت على تكريمه، وقد رفض الزواج بعد رحيل أمى، قائلا إنه يفضل أن يعيش وحيدا، وفجأة مات فى شقته دون أن يكون أحد بجواره، وتعلمت دروسا كثيرة فى الحياة، وتوقفت عن السلوكيات السيئة التى كنت عليها.   

وفى سن الخامسة والثلاثين تزوّجت بفتاة ظننت أنها ستكون مبعثا للراحة والسكينة، وأنجبت منها ولدين، وعرفت معنى الأبوة، وركزت اهتمامى فى تربيتهما، ولكن للأسف الشديد ذقت الأمرين معها لاختلاف طباعنا، فأنا حساس جدا وعاطفى وكريم وأحب النظام والنظافة والأنوثة، أما هى فبخيلة ومادية وكشرية ونكدية.. ووجدتنى أبتعد عنها تدريجيا، وأتحاشى الحديث معها، بل وكنت أنام فى غرفة بمفردى، وتفاقمت الخلافات بيننا، فصارت تغضب كثيرا، ولذلك فكرت فى الزواج بأخرى، ولكن كلما أقدمت على هذه الخطوة أتراجع من أجل ابنىّ.   

وفكرت فى أن أشغل نفسى بأى شىء بعيدا عنها، ووجدت ضالتى فى «الإنترنت»، وصرت أقضى وقتا طويلا فى التعرف على الأصدقاء والدردشة معهم، وتعلقت بإحدى السيدات، وتبادلنا الحديث فى همومنا ومشكلاتنا، وعرفت زوجتى بذلك، فاشتعلت الغيرة فى قلبها، وزادت فى عدائها لى، ثم أخذت أبناءنا، وتركت البيت، واسترحت لعدم وجودها، وأصبحت أشعر أننى أقيم فى بيت هادئ، ولى سرير وتكييف وتلفزيون، إذ لم اكن أحس بهذه الاشياء فى وجودها، حيث لا حب، ولا تفاهم، وحياة قائمة على العناد.  

ومضت عدة شهور، ثمّ جاءنى أهلها، وناقشوا معى المشكلات التى تسببت فيها، وبدلا من أن يقروا بخطئها، تحدثوا فى مسألة «الطلاق» من باب جس التبض، فلم أمانع، وكان ذلك مفاجأة لهم، ووجدونى أتكلم فى التفاصيل، وأتناول الإجراءات التى ستترتب على الانفصال، وبعد يومين تراجعوا عن موقفهم، ودفعوا بوسيط بيننا، وطلبوا الصلح، وأن تعود المياه إلى مجاريها، لكنى رفضت، فمن أحالت حياتى إلى جحيم، لا يمكن أن يؤمن لها جانب، وكنت على حق فيما ذهبت، إذ ما هى إلا أسابيع قليلة حتى فوجئت بإعلان من المحكمة بدعوى «تبديد عفش وطلاق»، وقد حكمت لها بما أرادت، وعرفت عن طريق واحد من الأهل أنها نادمة وتريد العودة إلى المنزل، لكنى مهما تكلفت من أعباء الطلاق، فإن الأمر يهون أمام ما كنت ألاقيه من الإهمال وعدم الاهتمام بأبسط الأشياء، ومنها النظافة، وأحيانا أحدث نفسى بأنها لو أبدت الندم، وتعهدت بإصلاح نفسها، لعدنا إلى حياتنا الزوجية، ولكن لا شىء مضمون معها.  

إننى أعيش بمفردى، وقد فشلت فى الزواج من اخرى، كما فشلت أم أبنائى فى تربيتهم، ودفعت أحدهم إلى المجىء للمعيشة معى، ومازلت أعيش فى قلب العاصفة التى لم تهدأ بعد، وأجدنى فى حاجة إلى الإستقرار، فبماذا تشير علىّ؟، وكيف السبيل إلى حياة مستقرة فى هذه الظروف، خصوصا وأننى مازلت أعانى الأعراض التى أشرت إليها من قلق وخوف ووساوس؟.  

 

 ولكاتب هذه الرسالة أقول:   

اجتمعت الصفات السيئة فيك باعترافك نتيجة التربية الخاطئة والتنشئة غير السليمة، وتكررت هذه الصفات فى زوجتك التى اخترتها دون تفكير، والشىء المحيّر أنك استمررت معها برغم الخلافات التى نشبت بينكما منذ زواجكما، ولم تستفد من تجربة والديك المليئة بالمرارة، وفى الوقت نفسه لم تجد من تعوضك عنها، ولا من ترعى أبناءك وتتولى شئونهم، والحقيقة أن زوجتك برغم ما فيها من سوء، هى أحرص الناس عليهم، وأرحمهم وأعطفهم بهم، وأى امرأة أخرى قد يصعب عليها أن تعامل أبناءك برفق، فهذه هى طبيعة النساء والحياة، لأنها قد تُظهر أمامك حسن معاملتهم على عكس ما تفعله دون علمك. 

فإذا وجدت فى نفسك الرغبة على تجاوز ما مضى، فلا بأس من الاستجابة لنداء الصلح الذى وجهه أهل زوجتك إليك، وأن تناقشهم فيما تعانيه من سلبيات، ومتاعب معها، بحيث يتم وضع حد لها، فإذا كان لديها استعداد لأن تتخلى عن تصرفاتها المزعجة وعاداتها السيئة، فحبّاً وكرامة، وحينئذ تعطيها فرصة أخرى للعودة إلى بيتها، أما إذا لم تكن مستعدة للتنازل عن هذه الصفات أو بعضها، فلا تعيدها إليك، وليعوضك الله خيراً؛ فهذه هى قسمتك وهذا قدرك، ولك الخيار فى أن تواصل الرحلة معها مع صبر جميل، أو أن تتزوج بغيرها. 

أما عن تربية الأبناء، فقد أخطأ والداك فى أسلوب تربيتكم أنت وأخوتك، وانعكس ذلك على طريقة تربيتك لأبنائك وعلاقتك بزوجتك، فصارت حياة العائلة أمواجا من نار لن يطفئها إلا التصرف بحكمة، ووضع الأمور فى نصابها الصحيح، وتفادى أخطاء الماضى، وبالطبع فإن التربية السليمة تعتمد على عوامل عديدة منها الحزم والاحتواء والتوجيه، وتعد الشدة أسلوبا خطيرا إذا استخدمت بكثرة، فالحزم مطلوب فى المواقف التى تتطلب ذلك.. أما العنف والصرامة، فيزيدان أى مشكلة تعقيدا؛ حيث ينفعل الأب، ويفقد صوابه وينسى الحِلْم، وسعة الصدر، فينهال على إبنه معنفا، وربما يزداد الأمر سوءاً إذا اقترن العنف بالضرب، وقد يخاف الطفل من أبيه أو أمه وقت حدوث المشكلة فقط، أى أنه (خوف مؤقت) لا يمنعه من تكرار سلوكه السيئ فيما بعد، وكان ذلك واضحا فى لجوئكم إلى السرقة، وعدم الصلاة والصوم، ففاقد الشىء لا يعطيه. 

وقد يعلل الكبار قسوتهم على أطفالهم بأنهم يحاولون دفعهم إلى المثالية فى السلوك والمعاملة والدراسة، ولكن هذه القسوة قد تأتى برد فعل عكسى فيكره الطفل الدراسة أو يمتنع عن تحمل المسئوليات أو يصاب بنوع من البلادة، كما أنه قد يمتص قسوة انفعالات عصبية الكبار فيختزنها ثم تبدأ آثارها فى الظهور عليه مستقبلاً من خلال أعراض (العصاب) الذى ينتج عن صراع انفعالى داخل الطفل، وقد يؤدى هذا الصراع إلى الكبت والعدوانية تجاه الآخرين أو انفجارات الغضب الحادة التى قد تحدث لأسباب ظاهرها تافه.  

أيضا فإن المغالاة فى الرعاية والدلال تجعل الطفل غير قادر على تكوين علاقات اجتماعية ناجحة مع الآخرين، أو تحمل المسئولية ومواجهة الحياة، لأنه لم يمر بتجارب كافية ليتعلم منها كيف يواجه الأحداث التى قد يتعرض لها، ولا نقصد أن يفقد الوالدان التعاطف مع إبنهما ورحمته، وهذا لا يمكن أن يحدث لأن قلبيهما مفطوران على محبة أبنائهما، ومتأصلان بالعواطف الأبوية الفطرية لحماية الطفل، والرحمة به والشفقة عليه والاهتمام بأمره، ولكن هذه العاطفة تصبح أحيانا سببا فى تدميره، حيث يتعامل الوالدان معه بدلال زائد وتساهل بحجة رقة قلبيهما وحبهما له، مما يجعله يعتقد أن كل شىء مسموح به، وليس هناك شىء ممنوع، لأن هذا ما يجده فى بيئته الصغيرة (البيت) ولكن إذا كبر وخرج إلى بيئته الكبيرة ( المجتمع ) وواجه القوانين والأنظمة التى تمنعه من ارتكاب بعض التصرفات، ثار فى وجهها وقد يخالفها دون مبالاة، ضاربا بالنتائج السلبية لمخالفته عرض الحائط، ومن ذلك ما ارتكبته من سرقات بدعوى الحرمان، وشظف العيش!   والطفل يحتاج إلى أن يعرف ما هو متوقع منه، لذلك على الكبار أن يضعوا الأنظمة البسيطة واللوائح المنطقية ويشرحوها له، وعندما يقتنع بها يصبح من السهل عليه اتباعها، ويجب مراجعة الأنظمة معه كل فترة ومناقشتها، وينبغى عدم التساهل فى تطبيق قانون ما، لفترة ثم ترك الأمور بلا ضوابط، فهذا التصرف قد يسبب إرباكه، ويجعله غير قادر على تحديد ما هو مقبول منه، وما هو مرفوض، وفى بعض الحالات تكون الأم ثابتة فى جميع الأوقات، بينما يكون الأب عكس ذلك، وهذا التذبذب والاختلاف بين الأبوين يجعل الطفل واقعا تحت ضغط نفسى شديد، وقد يدفعه إلى ارتكاب التصرفات غير السليمة.

إن «النظرة الجامعة» لأسلوب التعامل بين الأزواج، هى الحل الواقعى لمشكلات الحياة الزوجية، فآفة أى زوجين هى أن ينظر كل منهما إلى العلاقة التى تربطهما من زاويته الخاصة، فيفكر الرجل فيما يريده من زوجته، وتحصر هى الأخرى نظرتها إليه فى مسئولياته تجاهها، دون السعى للوصول إلى أرضية مشتركة بينهما، تساعد على أن تسير سفينة الحياة بهما إلى بر الأمان. وإنى ألمس من سطور رسالتك أن كلا منكما لديه الاستعداد لبدء صفحة جديدة، لكن متاعب الماضى تطارده وتقض مضجعه، كما يتبين من سردك مشكلتك أنك متوجس من الإقدام على الارتباط بزوجة أخرى لا تدرى إن كانت ستتواءم مع ظروفك، وتقبل برغاية أبنائك الذين قد تتخلى عنهم أمهم للزواج بآخر بعد اتمام طلاقكما أم لا؟.. ولذلك فإننى أنصحك بـ «وقفة أخيرة» مع أم أبنائك، بحيث تضعان النقاط على الحروف بشأن حياتكما بعد تفنيد الأخطاء التى ارتكبها كلاكما، وذلك فى حضور حكماء من أهلكهما، فإذا وجدتما فى نفسيكما الإستعداد لاستئناف حياتكما معا، فلتضعا معا «ميثاقا» جديدا لما ستكون عليه أوضاعكما المستقبلية، وإذا ظل الخلاف محتدما، ولم تصلا إلى حل محدد ونهائى، فليكن الإنفصال، مع ترتيب أمور تربية أبنائكما، ووقتها تستطيع الزواج بأخرى، بنظرة فاحصة، مستفيدا من تجربتك، والله المستعان  

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق