تحل غدا الذكرى الـ 139 لميلاد قيثارة السماء والصوت الملائكى الشيخ محمد رفعت، وكذلك الذكرى الـ 71 لوفاته. فمن عجائب الأقدار أن تتشارك ذكرى ميلاده ووفاته فى يوم واحد، وكأن التاسع من مايو أراد أن يتزين باسم الشيخ وينفرد به.
كان الشيخ محمد رفعت (1882 – 1950) ابن مأمور قسم الجمالية قد فَقَدَ بصره وهو بعمر السنتين، لكن أباه كان يرد دائما، حين يسأله « متى يأتى النهار؟» بأنه لن ترى النهار بعينيك لكنك ستراه بقلبك، فكان قيثارة السماء يرى بقلبه، ويسمع بقلبه، ويتلو القرآن بقلبه، يبكى حين يتلو فيبكى من خلفه، ومن يسمعه.
كان صاحب الصوت الملائكى مصداقا لقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ( حسِّنوا القرآنَ بأصواتِكم فإنَّ الصوتَ الحسنَ يزيدُ القرآنَ حُسْنًا) ومصداقا لقول الله تعالى ( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا ) وقوله تعالى (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) فما إن وصل إلى سن الرابعة عشرة حتى أفاض الله عليه من نعمه، فتعلم فنون التلاوة، واجتهد فى تعلم علوم القراءة والتفسير حتى يعرف معانى الكلمات والآيات، ثمّ درس الموسيقى والمقامات وأتقن قواعدها وأصولها، واقتنى مكتبة كبيرة من الأوبريت والسيمفونيات العالمية كموسيقى “بتهوفن”، و”موزارت”، و”فاجنر”، وحفظ مئات الأدوار والتواشيح والقصائد الدينية، وتعلم العزف على العود وحفظ الكثير من إبداعات كبار ملحنى عصره.
حين سئل الشيخ محمد متولى الشعراوى عن شيوخ التلاوة فى ذلك العصر قال: "محمود خليل الحصرى، وعبد الباسط عبد الصمد، ومصطفى إسماعيل، ومحمد رفعت، فأجاب بقوله: إذا أردنا أحكام التلاوة فهو الحصرى، وإن أردنا حلاوة الصوت فهو عبد الباسط عبد الصمد، وإذا أردنا النَّفَس الطويل مع العذوبة فهو مصطفى إسماعيل، وإذا أردنا هؤلاء جميعًا فهو الشيخ محمد رفعت".
كان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب من أقرب المقربين إلى الشيخ محمد رفعت يجلس تحت قدميه وهو يستمع إليه فى خشوع والدموع تنهمر من عينيه، وحين سئل: "ماذا تفعل تحت أقدام الشيخ فيجيب، أنى أستمع إلى القيثارة السماوية وأتعبد.. إن صوت الشيخ رفعت آلة ربانية لا مثيل لها فى هذا الكون، وعندما يقرأ الشيخ رفعت القرآن أتحول إلى خادم وأجلس تحت قدميه".
لكن ولع الشيخ محمد رفعت بالموسيقى وتأثره بها فى قراءته للقرآن والآذان، فتحت عليه باب الهجوم، فها هو أحد الأزهريين يعرف أن الشيخ رفعت يستمع إلى الموسيقى الغربية فيكتب فى المجلة الأزهرية مهاجما الشيخ فى مقال نارى بعنوان: ماذا حدث للشيخ رفعت؟: "لقد اكتشفت شيئا مذهلا ولم أكن أتصور أبدا أن يفعل الشيخ هذا، هل تصدقون يا سادة أن الشيخ محمد رفعت يسمع موسيقى غربية لغير المسلمين؟!.. إننى أنصح الشيخ أن يكف عن سماع هذه التفاهات حتى نظل نحبه ونظل نقدره".
لكن ما علاقة الشيخ بالموسيقى، وما علاقة الموسيقى بالقرآن، وبصوت محمد رفعت تحديدا، توضح دكتورة رانيا يحيى، رئيس قسم فلسفة الفن وعلومه بمعهد النقد الفنى بأكاديمية الفنون، بأن: "الشيخ محمد رفعت المعروف بالصوت الملائكى الذى يسبح بنا فى عالم الروحانيات، يضبط الأحكام برقة واقتدار، صوته يشبه آلة الكمان التى تتقارب مع الصوت البشرى للإنسان بما يتميز به من مرونة وسلاسة. أبدع دراما التلاوة القرآنية التى صورها فى عقل المستمع، فظهرت قدرته على التحكم فى سيكولوجية السامع عن طريق تغيير نبرة الصوت ارتفاعا وانخفاضا حسب معنى الآيات المحكمة من كتاب الله العزيز، كان يضىء المفردات بنطقها فى تأن يوضح مخارج الألفاظ، ثم يعود فيجمعها كلها فى جملة نغمية تتضمن جوهر المعنى الكلى للجملة القرآنية. وكان صوته الخاشع يغزو القلوب والوجدان فى قراءة عذبة خاشعة عبر مساحات صوتية متباينة ما بين القرارات والجوابات، فكان أسلوبا فريدا فى التلاوة التى تجمع بين الخشوع والتمعن.
الشيخ محمد رفعت
وترى دكتورة رانيا أن الشيخ رفعت يستخدم العديد من المقامات أثناء التلاوة، ولديه قدرة على استخدام "جنس المقام" فقط وهو نصف المقام. وذلك بالإضافة إلى أسلوبه غير المتكلف، وتتسم مدرسته بتجسيد المعانى مع إمكانية تجلى بواطن الأمور ليستشعرها المستمع بكل جوانحه دون الاقتصار على حاسة السمع فقط.
ونظراً لتمكنه الشديد من إجادة المقامات الموسيقية بتفصيلاتها وأجناسها، فقد تعمق فى الدراية الموسيقية بتكوين المقامات وأصولها مما أكسبه تميزاً، بجانب اهتمامه بالاستماع للأعمال الموسيقية العالمية مما أثرى وجدانه بخبرات متعددة وأثقل مهاراته. ثمّ تذهب دكتورة رانيا إلى أن تنغيم آيات القرآن الكريم عن طريق التلاوة التى تستخدم فيها المقامات الموسيقية بشكل دائم إنما تؤثر إيجابياً فى جموع المسلمين. وينتج عنها الرغبة لسماع الآيات الكريمة، فيزيد ذلك من خشوع المرء وقربه من دينه. كما أن المقامات الموسيقية تعمل على جذب انتباه السامع للتدبر وتفهم المعانى القرآنية، إذ يقوم المرتل باستعراض مهاراته الأدائية فى التلاوة من خلال استخدام المقامات الموسيقية التى تساعده على تطويع التنغيم لخدمة المعنى، مع الالتزام بحدود لا تتنافى مع جلال وعظمة القرآن.
وذلك عن طريق وضع زخارف لحنية دون إسراف كمد بعض الكلمات أو الأحرف والتشديد عليها لإيضاح معناها وتأكيد بعض الأحكام الإلهية الواردة المتضمنة. وهو ما نجده فى تلاوة الشيخ محمد رفعت وفى رفعه للآذان.
رابط دائم: