-
د. أحمد سليمان: «الآخر» ليس موضع تجاهل .. والشريعة تقر الاختلاف
-
د. مجدى عاشور: الأحكام الشرعية تتغير بناء على المستجدات الطبية .. وختان الإناث أصبح «مُحرَّما» دون خلاف
-
د. مختار مرزوق: «العبادات» وحدها لا تكفى.. و«المعاملات» باب للنجاة من النار
من حقك أن تفعل ما تريد، ولكن، فضلا، لا تُلبسه ثوب الدين، ولا تضعه تحت عنوان «الواجب» الذى نأثم إذا تركناه، أو «الحرام» الذى نصبح عصاة لو فعلناه، صحيح أن هناك حلالا وحراما فى الإسلام ولكنه ليس دائما كما يفهمه العوام، فلماذا لا نراجع أقوال أهل الذكرــ سواء كانوا أطباء أو شيوخا وعلماء ــ ولماذا نرفع لافتة: «ممنوع الاقتراب» من أفكار وممارسات، أحطناها بقدسية وهمية، ــ نمت واستفحلت عبر الزمان ــ فأصبحت تهدد حياتنا وتؤذى مجتمعنا، ولو سألنا لعلمنا أن أحكام الشريعة تتغير مع مصلحة الإنسان، وأنها أكثر تطورا بكثير من عقول تصر لعقود على ختان الإناث، وتُحرم التدخل فى إنجاب البنين والبنات، وترفض قبول «الآخر»، وتظن بعد ذلك كله أن الدين فقط هو «التوسل» على سجادة الصلاة.. ولأن الأمر لم يعد يحتمل ألا نقترب، فقد قررنا أن نبدأ مع أهل العلم خطوات فى مشوار التصحيح.
«العلاقة طردية بين التدين والالتزام، وبين النفور ممن يختلف عنا أو يعتنق عقيدة تغاير ما نحن عليه» .. هكذا رسخ هذا المفهوم الساذج فى أذهان البعض، بل وطبقوه فى كلامهم وأفعالهم، فأظهروا العداء أو التجاهل وربما الازدراء للآخر، ظنا منهم أنهم يخلصون بذلك لدينهم، والحقيقة أنهم أساءوا له أيما إساءة، جعلت هذا الآخر يظن أن ما يفعلوه هو جزء من تعاليم الإسلام!
والتوضيح يستلزم أن نذكر بإيجاز كيف أرسى الإسلام قواعد علاقة المسلم بغيره، سواء كان من أهل الأديان السماوية، أو كان غير ذلك، يقول الدكتور أحمد على سليمان عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية: إن الله تعالى بعث رسوله (صلى الله عليه وسلم)، رحمة للعالمين، بل رحمة لكل مفردات الطبيعة والكون، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، فكيف يمكن أن تستقيم الرحمة مع وجود عداء للآخر، أومع كراهيته والإساءة إليه!!
ويضيف أن الرسول عندما دعا بدوره إلى تطبيق الرحمة، جاءت دعوته عامة: (ارْحَمُوا مَنْ فِى الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ)، وكلمة «مَنْ» تشمل كلَّ مَن فى الأرض، بل تتجاوز حدود الإنسان بمختلف أجناسه وأديانه وألوانه ولغاته إلى الحيوان الأعجم.. إلى الدواب والأنعام.. وإلى الطيور والحشرات.. والنبات
ويستطرد أن الإسلام علمنا أننا جئنا إلى الدنيا لكى يُكمل بعضنا بعضًا، ويساعد بعضنا بعضًا، ويحترم بعضنا بعضًا وليس لنتقاتل أو نتناحر أو نتهاجر أو نتدابر، فإن فى ذلك خسارة للجميع، فاحترامنا لأنفسنا ولغيرنا هو احترام لصنعة الله، الذى خلقنا قاصدا اختلافنا: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين)، ويقصد بالآية الكريمة أن القرآن أكد الاختلاف، وأن الله قادر على جعل الناس كلهم أمة واحدة من إيمان أو كفر لكن حكمته اقتضت أن يجعلهم مختلفين فى العقيدة والمذاهب والآراء.
ويوضح من ناحية أخرى أن النبى الكريم شدد فى الوصية بأهل الكتاب، وتوعد كلَّ مخالفٍ لهذه الوصايا بسخط الله وعذابه، فقال صلى الله عليه وسلم: (مَن آذى ذميًّا فقد آذانى، ومَن آذانى فقد آذى الله)،!! بل إنه صلى الله عليه وسلم اعتبر نفسه طرفا فى الخصومة والعداء لمن يفعل ذلك: (مَن آذى ذميًّا فأنا خصمه، ومَن كنت خصمه، خصمته يوم القيامة)، كما قال: (مَن ظلم معاهدًا، أو انتقصه حقًّا، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفسٍ منه، فأنا حجيجه يوم القيامة).
يضيف د. سليمان: «لم تكن تلك النصوص النبوية مجرد تعاليم نظرية، بل كانت تجارب عملية طبقها بنفسه صلى الله عليه وسلم، حيث سمح لوفد نصارى نجران بالصلاة فى مسجده، كما أباح مؤاكلة أهل الكتاب، والزواج منهم، والكل يعلم واقعة وقوفه فى أثناء مرور جنازة يهودى احترامًا لهذه النفس الإنسانية التى خلقها الله، كما أنه لم يكن يجد غضاضة فى التعامل مع غير المسلمين فى البيع والشراء، والأخذ والعطاء، وعن السيدة عائشة قالت: (توفى النبى صلى الله عليه وسلم، ودرعه مرهونة عند يهودى بثلاثين)، أى ثلاثين صاعًا من شعير.
وكذلك شدد القرآن الكريم على حقوق غير المسلمين، فى الآية الكريمة: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ»، نجد أن الله أمرنا أن نُؤمِّن المشركين،، فما بالنا بإخواننا من أهل الكتاب؟
لذلك قال الفقيه الكبير ابن حزم الظاهرى: «إنَّ من كان فى الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك صونًا لمن هو فى ذمة الله تعالى، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم».
ولقد أنزل الله تعالى ثمانى آيات فى سورة النساء (105ـ 112) تؤكد رفض الإسلام الظلم لغير المسلم كما رفضه للمسلم، إذ جاءت الآيات منتصرة ليهودى، لأنه اُتهم ظلما، رغم أن المذنب كان من المسلمين.
ولذلك فأى مسلم يرفع شعار رفض الآخر أو يطبقه فى معاملاته، إنما هو يفعل بالكلية خلاف ما جاء به الاسلام قرآنا وسنة. >
قبل سن البلوغ تكون الفتاة الصغيرة على موعد مرتب مسبقا، لانتزاع جزء من جسدها، تلك العملية التى تجرى منذ عشرات السنين، مغلفة ـ وفقا لتفكير المصُرين عليها ـ بغلاف من الدين، مما يضفى عليها قدسية تفشل معها محاولات التوعية، فما هو القول الفصل فى تلك القضية؟
الدكتور مجدى عاشور المستشار العلمى لمفتى الجمهورية أوضح، أن كبار علماء الأزهر الشريف قد عكفوا منذ بدايات القرن الماضى على دراسة هذه القضية من الجهة الشرعيَّة، وتوصلوا بعد دراسات وتحقيقات عميقة، إلى أنها ليست دينية تعبدية من حيث الأصل، وإنما هى من قبيل العادات التى يُرجع فيها إلى المعارف الطبية اليقينية.
ورغم وضوح هذه الآراء التى توصل لها هؤلاء المحققون –الذين نثق فى دينهم وإخلاصهم فى نصح الأمة- يستنكر د. عاشور تشبث البعض بهذا الأمر والإصرر على سرد أقوال الفقهاء، من خلال الطرح والتناول الأحادى الذى يرسخ ثقافة الجمود، والتسفيه من الآخر وإطلاق الأحكام بتخطئة الرأى المخالف!
أما بالنسبة لآراء أصحاب المذاهب الفقهية، يوضح مستشار المفتى، أن هناك أيضا اختلاف فيما بينهم حول حكم ختان الإناث، وفى الوقت الذى ذهب فيه الجمهور إلى أنه «مباح» أى لك الاختيار فى فعله أو عدم فعله، ومكرمة، أى: من باب التكريم، وليس واجبًا، ذهب البعض الآخر إلى كونه «سنة» ومستحبا، والمستحب هو المستحسن فعله شرعا، بينما ذهب البعض منهم ــ الشافعيَّة والحنابلة فى رواية ــ إلى أنه «واجب» كالذكور.
ومن الأمور المعلومة فى الشريعة الإسلامية ـ كما يقول د. عاشور، إن هناك أثرًا لتطور المعارف وتحديثها فى تغير الأحكام، بل وأحيانًا نعطيها حكمًا جديدًا، بناء على مستجدات طبية أو غيرها، مؤكدا أن مسألة الختان من الأمور التى تخضع للمعارف الطبية، ولذا لما كانت المعارف الطبية السائدة فى العصور الأولى تقرر منفعة أو فائدة معتبرة، لذلك بنى الفقهاء على تلك المعارف أقوالهم التراثية المنقولة والمتداولة.
وهذا هو نفس ماحدث مع تناول هذا الموضوع فى ضوء المعارف الطبية المستقرة حديثًا، والتى أثبتت أن هذه العملية ضارّةً على الجسم البشرى للأنثى، وتسبب لها مشاكل نفسية وبدنية بصورة مؤكدة، بل قد تُكون سببا فى أن تفقد حياتها، ومن ثَمَّ جرت قرارات المجامع العلمية والمؤسسات الإفتائية المختلفة على القول بحرمة ذلك من حيث الأصل.
أما بالنسبة للأحاديث الواردة فى ذلك والتى يتداولها العوام، مصرين على استنباط حكم شرعى منها، والتى منها قوله صلى الله عليه وسلم لأم عطية رضى الله عنها وكانت طبيبة: «أشمى ولا تنهكى»، فالحقيقة - كما يؤكد الدكتور مجدى عاشور- أنه ليس فيها دلالة مباشرة على هذا الأمر فضلا عن عدم صحتها، علاوة على ذلك فان هذا الحديث يفيد أن هذا الأمر كان أشبه بعملية تجميل لهذا الموضع من جسد الأنثى فى هذه الأزمان.
ومن ناحية أخرى، لا يصح الاستدلال على مشروعية إجراء الختان باستمرار هذه العادة لعقود متأخرة، لأن الظاهر كان نتيجة مباشرة لعدم ظهور ضرر هذه الممارسة، أما وقد ظهر ذلك وقرر أهل الطب فى المعارف الطبية المستقرة حديثًا أنها ضارّةً على الجسم البشرى للأنثى قطعًا، مما يستوجب معه القولَ بحرمته، والاتفاق على ذلك، دون تفرق للكلمة واختلافٍ لا مبرر له، ونوجه رسالة للأسر والمجتمعات التى تُمارس فيها هذه العادة الخطيرة بضرورة تصحيح الفهم الخاطئ، والالتزام بالرأى الشرعى المعلن بناء على ما قرره أهل العلم والأطباء، وهم أهل الذكر الذين أمرنا القرآن الكريم أن نرجع إليهم فى هذا الأمر. >
من الرائع أن تحافظ على صلواتك، وتؤدى زكاتك، وتتلو يوميا أورادك.. لكن هذا كله على أهميته لا يمثل وحده الدين، فلن تعتبر من الفائزين، إذا لم تنجح فى اختبار المعاملات كما تنجح فى اختبار العبادات، الدكتور مختار مرزوق عبدالرحيم العميد الأسبق لكلية أصول الدين بأسيوط يوضح، أن من المفاهيم المغلوطة عند كثير من الناس أنهم يهتمون بجانب العبادات، ويهملون جانب المعاملات، على حين أن أكثر ما يُدخل الجنة أو النار يتعلق بالمعاملات، فعندما سُئل الرسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، قال: «تقوى الله وحسن الخلق» وعن أكثر ما يُدخل الناس النار، فقال : «الفم والفرج»
وهناك نص نبوى صريح قال فيه النبى صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم لمن تحرم عليه النار، قالوا : بلى يا رسول الله، قال : «على كل هين لّين قريب سهل»
بينما نجد فى نص نبوى آخر مقابلا سخيا جدا لأعمال مساعدة المكروبين والمعسرين: «من نفث عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفث الله عنه كربة من كرب يوم القيامة .. ومن يسر على معسر يسر الله عليه فى الدنيا والآخرة .. ومن ستر مسلما ستره الله فى الدنيا والآخرة»
ومن شدة تعظيم الإسلام لأهمية المعاملات جعلها سببا لجبرالتقصير فى العبادات، عن أبى هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم» وأغلبنا يعلم قصة الرجل الذى عاود نزول البئر ليحضر ماء يروى به عطش » كلب» كما ارتوى هو قبله »..فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له» وكانت إجابة النبى عندما سُئل عن ذلك : يا رسول الله إنا لنا فى البهائم أجرا ؟ قال: «فى كل ذات كبد رطبة اجر»، بينما لم يجعل التقصير فى المعاملات جابرا لنقص العبادات، ودليل ذلك، قصة المرأة التى تصلى وتصوم ولكنها تؤذى جيرانها، فكان حكم النبى صلى الله عليه وسلم عليها قاطعا: «هى فى النار»
ويوضح د. مختار، أنه ليس معنى ذلك أن يترك الإنسان ما فرضه الله عليه من العبادات، خاصة المفروضة الواجب تأديتها على كل مسلم ومسلمة، ولكن الهدف أن نعلم أن الأصل فى المسلم أنه ينفع الناس بكل السبل ما استطاع إلى ذلك سبيلا: «خير الناس انفعهم للناس» وليس الأصل أيضا أن ينكفئ على سجادته، متجاهلا كل أعمال الخير، وجبر الخواطر وصلة الرحم، وحسن الخلق مع أهله وجيرانه وزملاء العمل وكل الناس من حوله، فكل هذا يكمل التزامه الدينى ويرقيه، فلا فصل بين العبادة وبين المعاملة،كما بين القرآن الكريم: (يا أيها الذين امنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون)، وبين كذلك الحديث الشريف «أن إماطة الأذى عن الطريق هى إحدى درجات أو شعب الإيمان».
ختاما: ليس عيبا أن نصحح رأيا أو اعتقادا، أو نتراجع عن سلوك إذا ماتبين لنا شططه وابتعاده عن روح الدين، وإنما العيب أن نواصل الخطأ ونرفض التصحيح.
----------------------------------------------------
الشيخ عمر الديب: تقليل الإنجاب من باب الأخذ بالأسباب..ولا يتعارض مع قدر الله
عقود طويلة مضت، ولا تزال أغلب معتقدات شهوة إنجاب البنين والبنات ملتصقة بنصوص دينية ــ صح وجودها ولكن لم يصح أبدا فهمها وتطبيقها ــ فالبيت يعانى ضيق الحال وكثرة العيال، ومع ذلك فلا تفكير فى المباعدة بين الولادات، بزعم أن القرآن الكريم نهى عن قتل الأولاد!! أو أن استخدام وسائل التنظيم لا يستقيم مع معنى التوكل على الله، ولا مع الثقة فى الرزق المضمون لكل مولود! أو أن «كثرة» الإنجاب تتسق مع تعاليم الرسول عليه الصلاة والسلام.
الشيخ عمر الديب
ذهبنا مع الشيخ عمر الديب وكيل الأزهر سابقا فى إطلالة سريعة لفك شفرة تلك المفاهيم، فقال لنا: بالنسبة للنهى الوارد بالآية الكريمة: «ولا تقتلوا أولادكم من إملاق» و«الإملاق» هوالفقر، فهذا سياق قرآنى متعلق بمن يقتلون أولادهم بعد ولادتهم، سواء خشية الفقر، «من إملاق» أو الفقر المتوقع فى آية أخرى: «خشية إملاق»، مؤكدا أن الإسلام يرفض الاعتداء على حياة الأولاد بعد وجودهم ـ ولدوا أو لم يولدوا بعد ـ لذا فالإجهاض حرام قطعا مالم يكن الأمر متعلقا بحياة الأم، أما استخدام وسائل تنظيم الأسرة فهو يعتمد على التعامل فقط مع نطفة الزوج، إما بإبعادها عن رحم المرأة كما فى «العزل» الذى فعله الصحابة قديما وعلم به الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم ينكره على أصحابه، ولم يرد بشأنه كذلك نص قرآنى، ومما قاله الإمام القرطبى: «إن النطفة ليست بشىء يقينى، ولا يتعلق بها حكم إذا ألقتها المرأة قبل أن تستقر فى الرحم، فهى كما لو كانت فى صلب الرجل»، وإما باستخدام وسائل المنع المؤقت، والتى تحول دون تخصيب البويضة
أما الكثرة التى يريدها الإسلام وذكرها الحديث الشريف:»..تكاثروا فإنى مباه بكم الأمم يوم القيامة» - يوضح الشيخ عمر - فهى نوعية النسل الجيدة التى يتحقق بها معنى زينة الحياة الدنيا، فالولد الجاهل أو المنحرف لا يقر عينى والديه بل يشقيان به، وهنا تكون القلة الجيدة الصالحة والجيدة صحيا وتعليميا وماديا أنفع للأسرة والمجتمع من الكثرة بلا طائل، فينقلب الولد من نعمة إلى فتنة كما ذكر القرآن الكريم: «إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم»، وإلا ما كان النبى صلى الله عليه وسلم حذر من «الكثرة» فى حديث آخر يتحدث فيه عن كثرة المسلمين غير المجدية، واصفا إياها بأنها كغثاء السيل، أى ما يسوقه أمامه السيل من أوراق الشجر والنفايات والأشياء التافهة، وعليه فالمسلم يجب أن يوازن بين دخله وبين نفقات أسرته، حتى لا يعيش فى فقر وشدة، ولربما ضاق صدره بأولاده لعجزه عن تلبية احتياجاتهم، وكثيرا ما نرى حوادث منها التخلى عن الأطفال لدور رعاية.
ويشدد على أهمية أن يوازن الرجل بين قدرته على الرعاية والتوجيه والتربية وبين العدد الذى يستطيع القيام نحوه بهذه المهام، فكل من الرجل والمرأة راعيان لأبنائهما ويسألان عن التقصير تجاههم،
وحسب الشيخ عمر، قد يستغرب البعض أن من البواعث المعتبرة فى المنع المؤقت، كما قال الإمام الغزالى هو: «استبقاء جمال المرأة ونضرتها، والخوف من الحرج بسبب كثرة الأولاد»، ومن ناحية أخرى لا يمكن لهذا المنع أو التنظيم أن يتنافى مع حقيقة التوكل على الله، أو الثقة فى الرزق الذى بينته الآية الكريمة: «وما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها».
ويوضح أن الإسلام أمرنا بالأخذ بالأسباب فى كل أمور حياتنا، وكما أن طلب العلاج للعقيم لا يتناقض مع مشيئة الله: «..ويجعل من يشاء عقيما»، فكذلك التنظيم ماهو إلا من قبيل أخذ بالأسباب لتحقيق الصالح حسب ظروف الأسرة، ولنعلم أنه إذا كان الولد من قدر الله، فإن تنظيم إنجابه من قدر الله أيضا، وعقيدة المسلم تؤمن بأن الله متكفل بجميع خلقه، وذلك لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب لتحصيل الرزق، وكما أن الرزق بيد الله فإن الشفاء بيده أيضا، ومع ذلك لم يقل أحد بتحريم العلاج، ولو كان الفهم بهذا الشكل لقضية الرزق لقعد الناس عن الخروج لعملهم، ولامتنعوا عن الطاعة والاجتهاد فى العبادة واعتبروا ذلك من قدر الله، ورب الأسرة مطالب بتأمين احتياجات أسرته قدر المستطاع: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس». ومما ذكره أيضا الإمام الغزالى فى هذا الصدد: أن منع الولد مباح ولا كراهة فيه، لأن النهى إنما يكون بنص أو قياس على منصوص، ولا نص فى الموضوع ولا أصل يُقاس عليه بل فى الإباحة أصل يقاس عليه، وهو ترك الزواج عند عدم المقدرة: «وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا..» >
رابط دائم: