مات مؤذن المسجد؛ صعدت روحه، بعد خروج الكلمة الأخيرة من أحبال حنجرته إلى ماكينة تكبيرالصوت: «لا إله إلا اللـه»؛ يتولى الهواء نقل الأذان إلى الخلائق، فى البيوت والحقول البعيدة، فيقطع الحُجة على من سمعه، بدخول الوقت.. وقت الصلاة.
فيما مضى قبل سنوات من الموت المفاجئ، قبل سريان الكهرباء للمرة الأولى فى أسلاكها، كرعشة العاشق فى توحده مع المعشوق.. كنا نراقب أصابعه الطويلة النحيلة وهى تغلق المذياع؛ ذو العلبة الخشبية الكبيرة و«البطارية» المعبأة بماء النار، ذلك الرابض فى فراغ ما تحت المنبر.. فور انتهاء الشيخ محمـد رفعت من قراءة «سورة الرحمن»؛ التى حفظناها عنه فى رمضانات عدة.
كنا نرجوه أن يسمح لنا بلمس مفاتيح المذياع بأصابعنا، نغلقه نيابة عنه؛ كان يستجيب لتحقيق رغبتنا الممتعة.. فى كل صلاة واحد منا، لذا كنا نحرص على التواجد فى المسجد قبيل كل آذان.
عند مغرب أيام رمضان كنا نتابع خطوة الوئيد وهو يتجه نحو السلم الخشبى؛ ليصعد فى بطء محسوب فوق سطح المسجد، ثم شرفة المئذنة كى يرفع الآذان.
كان يغيظنا ضيق خطواته الذى يتعمده، فنجذبه من يده ليسرع الخطو، فلا يليق به ذلك، فليس عجوزًا واهن العظم!
كان يضحك فى حنو ورقة، قائلًا لينهانا عما نفعل: لاتفسدوا «فارق التوقيت» ياأولاد الناس الطيبين؟ يفصلنا عن القاهرة عاصمة الديار، خمس دقائق هى زمن خطواتى البطيئة.
نجرى إلى قدام المسجد حيث شرفة المئذنة التى سيطل علينا منها، نرقب ظهوره بشوق لايفتر، رافعين أبصارنا نحوه وكأنه هلال الشهر الجديد.
عندما يرفع يده اليمنى إلى أذنه ويُشْرِف بعنقه نحو السماء، نطير إلى بيوتنا نزف البشرى، ليفطر الصائمون.
...........
الآن، قبيل سماع الآذان عبر مكبر الصوت أو قناة التلفاز المحلية، ونحن جلوسًا فى بيوتنا؛ نذوب شوقًا لمشهد أطباق الطعام فى تجاورها المتناغم؛ تّصاعد منها غلالة دخان رقيق تسحر أنوفنا، كأنه قد نزل ساخنًا من جنة الفردوس.. كان الأكل المحرم علينا تذوقه، يفوح برائحة يسيل لها لعاب الكبير والصغير.. لكنه نهار رمضان.
كان الكبار يملأون باقى الوقت بالاستغفار، ونحن بتقليدهم حتى ننال الرضا والطبطبة ودعوات البركة، إذا مانظروا إلينا.
فور سماع «اللـه اكبر، اللـه اكبر» يصير كل محرم حلال؛ الماء، الطعام، النكات، الرفث ليلًا للرجال والنساء.
...........
عندما كنا نشرب التمر المبلول بالماء، وياللعجب؛ تغادرنا حماسة الرغبة التى كانت تجتاحنا؛ وكأننا كنا سنلتهم الأطباق بما فيها،عندما كان الأكل محرمًا!
كأن انطفاء الشهوة يكمن فى إتاحة إتيانها؛ لا انعدام الحاجة إليها!
أذكر، ولا أدرى لماذا؟! كلمات حُبلى بفقه العشق قالها مدرس التاريخ، وكان مشهورًا بقصة حب قديمة؛ لاينكرها بصمته، ولايذكرها بلسانه.. قال فيما قال: لاشىء يجعل المعشوق معشوقًا إلا الحرمان من وصله.
كان يبتسم لنفسه فى مرارة ويتمتم: العاشق لايشبع والمعشوق يتدلل!
ثم يحلو له أن يترنم ببيت شعر قديم:
وعذلت أهل العشق حتى ذقته: فعجبت كيف يموت من لايعشق.
عندما سأله بعض التلاميذ: هل هذا من أشعارك ياأستاذ؟ إذ كان المدرسون ينادونه: شاعرنا الكبير يضحك وهو مغمض العينين ويقول: أنا خادم صغير فى بلاط القوافى، هذا عمنا المتنبى.
كان الحديث أكبر شأنًا من أدمغة تلاميذ صغار، لذا كنا نغمز ونلمز ونكتم الضحكات الخجلى ونتهامس: استاذنا يحب النساء!.. وكأنه ارتكب فاحشة.
...........
كان المؤذن يرحمه الرحمن يمط رقبته ويشرئب لأعلى، يردد كلمات الآذان بلذة عجيبة؛ يستحلبها فى فيه قبل أن يخرجها، كأنه يود ملامسة السماء لتقبيلها أو احتضانها؛ يسبقه إليها صوته الشجى الحنون؛ الرطب مثل ندى الصباح على مزروعات الحقول.. عندما سألناه عن سر مايفعل؛ هل يشكو ألمًا فى فقرات عنقه؟ ابتسم فى فرح طفولى ولهفة عاشق ولهان، قال: «المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة».
تأخذنا الدهشة وكأننا نسأله: كيف عرفت ذلك وأنت لاتقرأ ولاتكتب؟ يزدرد ماء ريقه، يهمس وهو يمسح على صدره بفخر وثقة وكأنه يزف بشرى لنفسه: صدق حبيبى وسيدى ونورقلبى رسول اللـه صلى الله عليه وسلم.. ثم يمد يده فى «سيالة» جلبابه، يخرج لنا قطع الحلوى التى تعودناها منه.
فى ليلة الصعود، بعد أن أتم أذان العشاء مات؛ انحنى ليفصل تيار الكهرباء عن «ماكينة تكبير الصوت»، لتسكت بغتة؛ مثل مفارقة الروح الجسد.
انحنى، مد يده نحوها، وقع فوقها.. نقلت الماكينة صوت ارتطام جثته بها، فزع من بالمسجد، نظروا نحوه يتشوفون الأمر.. هرولوا إليه.
لم نشهد طوال سنوات طفولتنا وصبانا رجلًا غيره يرفع الآذان، تعودنا صوته الشجيّ الحنون.. كأن الصلاة بغير أذانه لاتجوز، والإفطار فى رمضان دون صوته لاطعم له.
...........
كان الناس، كلما أفزعهم المؤذن الشاب؛ حين يطلق غلظة صوته الخشن كأنها نفير حرب، دعوا بالرحمة والمغفرة لصاحب الصوت الحنون.. كان الشاب يقطب مابين حاجبيه وينفض جلبابه القصير، ويقول: التطريب مزمار الشيطان، استغفروا ربكم قبل أن تسلقكم النيران.
رابط دائم: