رغم أن الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة جو بايدن، تخلت رسميا وفعليا عن الخطة الأمريكية للسلام التى تبناها الرئيس السابق دونالد ترامب، للتسوية فى الشرق الأوسط، إلا أن شبح هذه الخطة المنحازة كليا للإسرائيليين، مازال يلقى بظلاله على كل مناحى الحياة للفلسطينيين. وأبرز مثال على ذلك العملية الانتخابية المقرر أن تبدأ بالانتخابات التشريعية فى 22 مايو المقبل، حيث بات من المحتمل أن تتعرض للتأجيل او حتى الإلغاء، بسبب تمسك حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نيتانياهو، بالغنائم التى حصلت عليها طبقا للخطة، وعلى رأسها القدس المحتلة والتى باتت رسميا فى سجلات الإدارة الأمريكية عاصمة لإسرائيل وبها تقع السفارة الأمريكية.
وطبقا للإجماع الفلسطينى فإنه لا انتخابات بدون مشاركة القدس الشرقية التى تضم المقدسات الإسلامية والمسيحية، ويعد وجودها كعاصمة للدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967، شرطا لايمكن التنازل عنه لأى تسوية مستقبلية، طبقا لمبدأ حل الدولتين، وهو المبدأ الذى تؤيده كل دول العالم تقريبا بما فى ذلك الإدارة الديمقراطية الأمريكية الحالية، ولكن الحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة بنيامين نيتانياهو، تتجاهل كل الطلبات الفلسطينية المدعومة دوليا من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى وبقية المؤسسات العالمية والإقليمية، للسماح بإجراء الانتخابات التشريعية الفلسطينية فى القدس الشرقية الخاضعة للاحتلال الإسرائيلى منذ الخامس من يونيو 1967، والتى تتعرض لعملية تهويد لا تتوقف ليل نهار.
11 دولة تعترف بالقدس
ولأن نيتانياهو يعتبر أن أكبر إنجاز قام به فى حياته السياسية، هو دفع ترامب لطرح مشروع خطة السلام، مما نتج عنه اعتراف واشنطن ومعها عشر دول أخرى، هى أستراليا وصربيا وجمهورية التشيك ورومانيا والمجر وهندوراس والبرازيل وباراجواى وجواتيمالا وأخيرا غينيا، بالقدس عاصمة لإسرائيل وقيام بعضها بنقل سفاراتها إليها بالفعل، فإنه يعتبر أن مجرد التفكير فى السماح للسلطة الوطنية الفلسطينية برئاسة محمود عباس (أبومازن)، بإجراء انتخابات، سواء تشريعية أو رئاسية أو مجلس وطنى فى القدس، هى خيانة للحلم الصهيوني، حيث ينص القانون الأساسى الإسرائيلى على أن القدس هى العاصمة الأبدية الموحدة للكيان الإسرائيلي. ومما يزيد من موقف رئيس الوزراء الليكودى الإسرائيلى تشددا، هو عجز إدارة بايدن عن إلغاء قرار اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها رغم تخليها عن خطة السلام الأمريكية بشكل عام .
تأثير أزمة السياسة الإسرائيلية
ويزداد تعقيد الموقف حول مبدأ مشاركة القدس المحتلة فى الانتخابات الفلسطينية، بسبب الأزمة السياسية التى تعيشها إسرائيل نتيجة الفشل فى تشكيل حكومة مستقرة رغم الذهاب إلى صناديق الاقتراع أربع مرات خلال عامين فقط، مع تنامى قوة اليمين الصهيونى واليمين الدينى معا، وهيمنتهما على الساحة السياسية. ويخشى نيتانياهو من إبداء أى مرونة فى مسألة تصويت الفلسطينيين فى القدس المحتلة خوفا من مزايدات بقية منافسيه اليمينيين بهذا الملف، خاصة أن بعض هؤلاء اليمينيين مثل سموتريتش زعيم «الصهيونية الدينية» ونفتالى بينيت زعيم «يمينا» وجدعون ساعر زعيم «أمل جديد» وقبلهم افيجدور ليبرمان زعيم «إسرائيل بيتنا»، يرفضون مجرد الوجود الفلسطينى فى القدس وغيرها من الأراضى المحتلة ويدعون لما يسمى بفكرة يهودية الدولة .
عجز المجتمع الدولى
وعلى المستوى الدولي، يبدو المجتمع الدولى عاجزا عن مجرد توبيخ إسرائيل على رفض السماح للمقدسيين بالاشتراك فى الانتخابات الفلسطينية، وربما كان سبب ذلك هو انشغاله بعودة أجواء الحرب الباردة بين أمريكا من ناحية وروسيا والصين من ناحية أخرى. وكذلك معاناة أوروبا من تبعات الخروج البريطانى من الاتحاد الأوروبى وانتشار جائحة كورونا، وإقليميا فقد نجحت التدخلات الإيرانية والتركية فى المنطقة فى إشغال العرب عن قضيتهم المركزية وهى قضية فلسطين، ومنح الأولوية للملفات الداخلية، خاصة مع الوضع المأساوى الذى تعيشه دول عربية مؤثرة مثل سوريا والعراق واليمن ولبنان، أضف إلى ذلك استمرار الانقسام الداخلى الفلسطينى .
وإزاء الرفض الإسرائيلى لإشراك القدس الشرقية المحتلة فى الانتخابات الفلسطينية، خاصة بعد خطة السلام الأمريكية، ومانتج عنها من تغيير فى مواقف بعض الدول من شرعية الاحتلال الإسرائيلى للمدينة، فقد أصبح الفلسطينيون فى وضع لايحسدون عليه، فلو ساروا قدما فى إجراء الانتخابات بدون مشاركة كاملة للقدس. بمعنى أن يقوم المقدسيون بالترشح والإدلاء بأصواتهم فى لجان اقتراع داخل المدينة، فأن إسرائيل ستعتبر هذا الأمر دليلا على التسليم بسيطرتها على المدينة بشقيها الغربى والشرقي، وبالتالى إخراجها من أى مفاوضات مستقبلية لإقامة دولة فلسطينية، وسقوط شرط أن تكون القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967، وهو ما من شأنه تعميق الانقسام الداخلى الفلسطينى وقيام البعض باتهام منظمة التحرير الفلسطينية، بوصفها الممثل الشرعى والوحيد للفلسطينيين بالتخلى عن القدس، وهو أمر يصعب تحمله من الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني، الذى عانى كثيرا على أمل إقامة الدولة وعاصمتها القدس، ويمكن أن يؤدى إلى اقتتال داخلى فلسطينى واسع النطاق يشمل الضفة الغربية بشكل خاص، حيث تتوافر أسلحة العائلات والعشائر .
تصويت إلكترونى وبريدى
وفى المقابل يرى فريق آخر من السياسيين الفلسطينيين، خاصة من الذين انضموا إلى القوائم الانتخابية الـ 36 المترشحة، أنه يمكن الالتفاف على المنع الإسرائيلى لمشاركة القدس فى الانتخابات، من خلال قيام المقدسيين بالتصويت الإلكترونى أو عبر البريد، بدون الحاجة لوجود لجان اقتراع فى المدينة أو حتى يمكن أن تكون هناك لجان خاصة بالقدس، ولكن فى المناطق المجاورة لها، مثل الرام أو رام الله. ويعتقد هذا الفريق أن مجرد إجراء الانتخابات، ولو بدون لجان داخل القدس الشرقية، سيمثل انتصارا كبيرا للفلسطينيين، لأنه سيمكنهم من تجديد شرعياتهم وانتخاب ممثلين جدد لهم لأن آخر انتخابات تشريعية جرت عام 2006 وقبلها بعام الانتخابات الرئاسية التى أتت بالرئيس محمود عباس.
ويعتقد الفريق المؤيد لإجراء الانتخابات ولو بدون القدس، أن حركة فتح متمسكة بعدم إجراء انتخابات بدون القدس لأنها تخشى الهزيمة بسبب انشقاق بعض قياداتها وخوضهم الانتخابات بقائمتين منافستين، إحداهما تتبع القيادى البارز محمد دحلان والأخرى تتبع الدكتور ناصر القدوة وزير الخارجية السابق وابن شقيقة الزعيم الراحل ياسر عرفات، وتلقى دعما كبيرا من القيادى البارز مروان البرغوثي، أحد أهم رموز الحركة، وبين هذا وذاك تنشط حركة حماس فى الضفة الغربية، لاستغلال مشكلات فتح وتحقيق الفوز، ولكن آخر استطلاعات الرأى أكدت، أنه حتى وفى ظل هذه الأجواء، فإن فتح تتصدر المشهد الانتخابى وستحصل على أكبر عدد من مقاعد المجلس التشريعى البالغ عددها 132 مقعدا، خاصة فى ظل القانون الانتخابى الذى يجعل من كل الأراضى الفلسطينية دائرة انتخابية واحدة، والانتخابات تتم بنظام القائمة النسبية.
مفترق طرق
والحقيقة أن الفلسطينيين يقفون حاليا أمام مفترق طرق تاريخي، وأى خطأ يحدث الآن سيدفع الجميع ثمنه، وعليهم أن يتوافقوا حول قرار إجراء الانتخابات فى موعدها أو تأجيلها، لأن إسرائيل تعمل على الاستفادة من الموقف فى كلتا الحالتين لتعزيز الانقسام الفلسطينى وجره إلى الضفة الغربية أيضا. وبإمكانها فى النهاية منع إجراء الانتخابات تماما بمنع وصول المراقبين الدوليين، وكذلك منع تدفق الأموال المطلوبة للإنفاق على العملية الانتخابية، كما أن فكرة توقع القوائم الانتخابية الفائزة، سواء كانت محسوبة على فتح أو حماس غير موثوق فيها، حيث كانت الاستطلاعات فى عام 2006 تتوقع فوز فتح، أما الآن فقد بات الأمر أكثر صعوبة حتى وإن أخفى أنصار حماس نواياهم التصويتية كما تفعل جميع الأحزاب ذات المرجعية الدينية فى عالمنا العربي، لأن تجربة المواطن العربى فى فلسطين وغيرها مع الأحزاب الدينية لا تسر عدوا ولا حبيبا، وأخطاؤهم لا تختلف عن أخطاء الآخرين، وإن كان يتم تبريرها بمبررات واهية لاتسمن ولا تغنى من جوع .
وفى نهاية الأمر فان الشارع الفلسطينى لم يعد أمامه إلا أيام أو ساعات ليعرف ما إذا كانت الانتخابات التشريعية ستتم فى موعدها أم لا، خاصة وأن الجدول الزمنى ينص على بدء الحملات الدعائية فى الأول من مايو المقبل.
رابط دائم: