رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

مقعد في السحاب

زيزيت سالم;

ما إن شبَبْت عن الطوْق حتى غادرَت الأطياف منامى لتحاصرنى فى اليقظة، فحين تكون السماء ملبدة بالغيوم ويتجه إليها بصري، تنجذب السحب المتناثرة لبعضها وتتشكل على هيئة مقعد أرى من خلاله ما سيحدث فى أيامى المقبلة، المرة الأولى التى رأيت الغيمات تتجسد فى السماء وأنا فى العاشرة من عمري، جاءتنى فى الحلم على هيئة جدتى لأمى وهى تجلس على مقعد مُطأطأة الرأس وملفوفة بالأبيض، حكيت لأمى عن رؤياى فبكت ولم تُفسّر، وبعد يومين ماتت جدتي.

ـ ـ ـ ـ

امتلأ بهو المنزل الواسع عن آخره بالضيوف، وتراصت أصناف الطعام الشهية بطريقة مبهجة على الموائد، توسطت باقات الزهور العريضة الموائد، والباقات ذات الأفرع الطويلة تصدرت الحافة، صوت الموسيقى يرج المكان ويدق معه قلبى خشية حدوث مفاجآت كما حدث فى الحفل السابق، أرتدى تاييرا جديدا أهدته لى سيدة الحفل الدكتورة وفاء باعتبارى مديرة المنزل التى لابد أن تبدو بشكل لائق يتناسب مع مكانة صاحبة البيت ويتناسب مع ملامحى الجادة ومظهرى الوقور.

لم أجلس دقيقة واحدة منذ بداية الحفل حيث أسندت لى الدكتورة مهمة الإشراف على أطقم الخدمة باعتبارى أكبرهم سنا وأكثرهم خبرة، فى الثانية صباحا بعد انتهاء الحفل والتأكد من قيامهم بأداء مهامهم على أكمل وجه، أُوزِّع ما تبقى من المأكولات ــ وقد تبقى منها كميات كبيرة ــ على كافة العاملين ثم أحمل نصيبى وأركب الميكروباص مع عم محمود جارنا والذى أتفق معه مسبقا قبل كل حفلة ليقلنى لبيتى فى شبرا حيث لا تتوافر مواصلات فى هذا الوقت المتأخرمن الليل، ورغم ذلك فإننى أجد زوجى وأولادى فى انتظارى على لحم بطونهم ليأكلوا مما لذ وطاب من أكياس الطعام الممتلئة.

ـ ـ ـ ـ ـ

هذا الصباح منذ عشرين عاما، نظرت للسماء فرأيت السحب تقترب من بعضها كعادتها لتجسد مقعدى الذى يتنبأ لى بأحداث حياتي، جسدت الغيمات هذه المرة طيفا لشابٍ وسيم يحمل علبة قطيفية، ظلت ملامحه عالقة بذهنى وأنا فى طريقى إلى سنترال شركة الاستيراد والتصدير التى أعمل بها منذ حصولى على دبلوم التجارة، فقد احتضنتنى خالتى منذ وفاة أبى وأمى فى حادثة طريق حيث كنت ابنتهم الوحيدة، فعشت مع ولديها كأننى أختهما الثالثة، حاولت أن أساهم فى مصاريف البيت فرفضت خالتى بشدة، فقررت أن أدخر نصف راتبى ليكتمل ثمن السلسلة الذهبية التى تمنيت شراءها بمجرد تعيينى بالوظيفة، فى هذا اليوم وبعد عودتى من عملى أخبرتنى عن أسطى فايز سائق الحافلات الذى رآنى فى الشركة منذ عدة أيام وهو ينقل لهم طلبية من الجمارك وسألهم عني، ثم أرسل من يطلبنى للزواج، يكبرنى بخمس سنوات ولديه استعداد أن يؤجر لى شقة بجوار خالتى ويفرشها بمستلزماتها ولن يكلفنا شيئا، لكنه لم يكمل تعليمه بعد الابتدائية، أعطتنى صورته التى تركتها لنا السيدة التى توسطت بالموضوع، تطابقت ملامحه إلى حد كبير مع الشاب الوسيم الذى رأيته على مقعد السماء، فانشرح صدرى ووافقت على الفور .

تزوجنا ورزقنا بأربعة أطفال، ولدين وبنتين، اشترط فايز قبل الزواج أن أترك عملى مجرد حملى بطفلى الأول وقد وافقته على ذلك، فقد كان حنونا ويحبنى ولا يرفض لى طلبا، مرت بنا الأحوال بين الضيق واليسر حتى اجتمع الأولاد الأربعة فى المدارس وصارت تلبية طلباتهم هما ثقيلا، تزامن ذلك مع عدم استقرار ظروف عمله حيث ضاق بنا الرزق ووصل الأمر للاستدانة من الأقارب والأصدقاء، فاضطررت لبيع الشبكة وكانت كل ما أمتلكه من ذهب فى حياتى مع أنها لم تفِ بسداد الديون.

كانت خالتى تعمل لدى دكتورة كبيرة وتساعدها فى شئون المنزل، وعندما ساءت صحتها اقترحت أن أحل محلها، فقد أكدت عليها الدكتورة أن يكون الشخص البديل موثوقا به وعلى ضمانتها، أدهشتنى موافقة فايز على اقتراحها لكى أرفع عنه عبء الأقساط المتراكمة مما أغضبنى منه كثيرا.

لم يمر سوى شهرين من العمل لدى دكتورة وفاء حتى تكاسل زوجى عن العمل بعد أن تنقل بين عدة وظائف ولم يستقر فى أى منها سوى شهر على الأكثر ثم يمكث بالبيت شهورا حتى أتشاجر معه فيبحث عن عمل غيره ويتركه بعد عدة أسابيع وهكذا حتى وجدت نفسى المسئولة الوحيدة عن مصاريف البيت والأولاد وكل مستلزمات الحياة .

كبر الأولاد وكبرت معهم مشاكلهم رغم انتعاش الدخل قليلا، فكلما ادخرت جزءا من راتبى لأشترى سلسلتى الذهبية تحدث كارثة فى البيت تلتهم ما ادخرته، قسط المدارس الذى يحل دائما، حادثة ابنى الذى صدمه توك توك وأدى الى تغيير مفصل قدمه اليسري، تجهيز ابنتى الكبرى للزواج، عملية استئصال المرارة التى أجراها زوجى.. إلخ إلخ ...

ـ ـ ـ ـ ـ

هذا الصباح جسدت السحب طيف مدام وفاء وهى تجلس على مقعد السماء، تحمل حقيبتها وتبتسم لي، تذكرت ثناءها على حُسن تصرفى حين تعرضت إحدى العاملات فى حفلتها السابقة لتحرش أحد كبار المدعوين وهى ترص المشهيات على المائدة، إذ مد يده يتحسس ظهرها فانتفضت الفتاة وتسمرت فى مكانها ولم تجرؤ على التذمر، فما كان منى سوى أننى قبضت على يده بشدة من الخلف ونزعتها بحزم من فوق ظهر الفتاة التى انسابت دموعها فى صمت، فاستدار بغضب وهو على وشك توبيخى فرمقته بنظرة صارمة دون أن يرمش لى جفن ثم رحبت به وأمرت الفتاة بالانصراف، فغادر المكان دون أن يحدث جلبة، لم أدرِ وقتها أن دكتورة وفاء تتابع المشهد من بعيد، لذا فقد توقعت أن تخبرنى أننى سأنتقل معها الى فيلتها الجديدة بالتجمع الخامس، لكن ما لم أتوقعه عندما التقطت علبة من حقيبتها وقالت لى افتحيها، فتحتها لأجد سلسلة ذهبية بدلاية جميلة، شهقت من الفرحة ثم أجهشت بالبكاء وانحنيت أقبل يدها، فسحبتها سريعا وربتت على كتفى قائلة: لم أجد مثل أمانتك ومهارتك يا فاطمة، أنتِ قدمك خير ووشك وش السعد وسأزود راتبك بدءا من الشهر المقبل.لم تسعنِ الفرحة وأنا أريها لأولادى وزوجى وأفتخر بقدرى ومكانتى لدى دكتورة وفاء، لكن زوجى فايز علق قائلا: فرصة والله لو تعسرنا فى زواج البنت تسترنا، انقبص قلبى وخلعتها من صدرى ووضعتها فى علبتها وأنا أرد عليه باستنكار: لن أبيع ذهبى هذه المرة مهما حدث .

ـ ـ ـ ـ ـ

هذا الصباح تشكلت الغيمات على هيئة صبى ينظر لى بعينٍ ماكرة، ترى من يكون هذا الصبي؟ لم أرَ هذه الملامح من قبل، أمعنت التفكير ولم أهتدِ لشىء، كان قد تقدم لابنتى شاب مناسب للزواج وبدأنا التجهيز لليلة زفافها، حجزنا لها فى قاعة أفراح بجوار شقتها فى شبرا ووزعت المهام على زوجى وأولادي، استعنت بعم محمود للذهاب الى محل الحلويات لأستلم منه العلب الكرتونية التى تحتوى على بعض قطع الساليزون الحادق وبعض قطع الجاتوه بالاضافة إلى تورتة العروس بطوابقها الثلاث، ثم أوصلنى لابنتى فى الكوافير وسبقنا بالمشتروات إلى قاعة الأفراح، دخلت على ابنتى وأنا أُطلِق الزغرودة تلو الأخرى ودموع الفرح تزغرد معى من جمالها وحسنها، حضر العريس واصطحب عروسه فى سيارة مزينة بالزهور وركبا فى المقعد الخلفى وركبت بجوار السائق، وعند كل اشارة مرور تنطلق الزغاريد من السيارات المجاورة لتشاركنا التهنئة، اقتربنا من مكان الحفل التى تسبقه اشارة مرور أخيرة، حين اندفع صبى يعرض علينا أطواقا من الفل والياسمين ويلح علينا أن نشترى منه تيمنا بالزفاف، اقترب الصبى من السيارة وأدخل رأسه من نافذتي، فحدقت فى ملامحه، ووجدته يشبه الصبى الذى رأيته على مقعد السحاب هذا الصباح، وفى لمح البصر قبل أن أصحو من دهشتي، جذب السلسلة وفر هاربا، صرخت من ألم ضغطة يده على صدرى ثم أفقت من الصدمة وفتحت باب السيارة بعنف وأخذت أركض خلفه وأصيح بجنون: امسكوه، سرق شقا عمرى ...

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق