رد على أم كلثوم تليفونياً «أنساك ده كلام» فأصبحت أغنية
فبركة محمود السعدني للحوادث استفزت مدير الأمن
رفض تعديل كلمة في «الربيع» فذهبت إلى فريد الأطرش
«حبيب العمر» الذى نسج بجدارة «حكاية غرامى» مناجياً «الربيع» بزهورة ورائحته متسائلاً «ياحبيبى طال غيابك ليه ياقاسي؟».
دارت الأيام، عشانك ياقمر، «حلفنى، بينى وبينك ايه غير صدفة، وفى يوم من الأيام تسأل ما أقولشى غير نعم ياحبيبى نعم.
خسارة أنك حلو وكداب لكن انا لك على طول، وإنت وعزولى وزماني، آه منك يا جارحني، من قد إيه كنا هنا ولسه بسألك كل ده كان ليه
أنساك ده كلام ده انا بعيد عنك حياتى عذاب، وإمتى حتعرف إمتى إنى بحبك إمتى بصراحة تهجرنى بحكاية طب ليه خلتنى أحبك.
كل ليلة وكل يوم أناجى روحى وأقول لو كنت يوم أنسااك، لكن بعد إيه سافر مع السلامة وخليها على الله أصل الدنيا ريشة فى هوا.
إنه الشاعر العنيد والعاشق بلاط صاحبة الجلالة عمنا الراحل مأمون الشناوى الذى نفتح خزائن أسراره نبحث فى أوراقه ونتأمل سطوره ونقف عند تفاصيل محطاته الإنسانية، نصمت لنصاب بالسكتة الكلامية عندما ننصت إلى ابنه ناجى الشناوى، خريج كلية الفنون الجميلة الذى لم يكن ولده فحسب بل صديقه الصدوق.
يصحبنا ناجى المسمى على اسم صديق والده الشاعر الراحل ابراهيم ناجى فى رحلة شيقة ممتعة ويعود بنا إلى الوراء، نجلس فى رحاب «الست» أم كلثوم ننصت إلى قفشاتها، وندخل إلى مطبخ الصحافة فى صالون الأربعاء نحاور الأخوين مصطفى وعلى أمين، نبكى مع فريد الأطرش ونحتسى القهوة مع اسمهان، ونعيش رومانسيتنا مع حليم، ونصاب بالسلطنة مع عبد الوهاب.
فى مقهى «زهرة البستان» بشارع سليمان باشا العتيق وعلى أحد مقاعدها البسيطة جلسنا مع ناجى مأمون الشناوى الرجل الذى لم تنل السنوات من ملامحه إلا القليل وبابتسامة ارتسمت على وجهه بدأ حديثه بالقول: مأمون ابن الشيخ سيد الشناوى رئيس المحكمة الشرعية العليا وأزهرى حتى ان كامل الشناوى عمى من خريجى الأزهر ايضاً، رجل دائم التنقل بين محافظات مصر ولذا أماكن ميلاد اولاده كانت مختلفة. كامل مثلا وُلد فى المنصورة بينما مأمون والدى فى الإسكندرية، وكان جدى يمتلك مكتبة عظيمة تضم امهات الكتب، مثل إصدارات المطابع الأميرية بالكامل، ودواوين الشعر لكل الشعراء فى تلك الفترة، وكان أحد المهتمين بعوالم الشعر، ومن هنا انطلق مأمون فى عشق الشعر وبدأ حياته شاعر فصحى وعندما بلغ من العمر 18 عاماً انضم إلى جماعة «أبوللو» للشعر ليصبح عضواً من أعضائها، وله أكثر من 12 قصيدة.
كلمة ونص
وينتقل ناجى إلى محطة صاحبة الجلالة عندما يقول: بدأت علاقة والدى بالصحافة عندما كان طالباً فى مدرسة الخديوى اسماعيل، وكان مصطفى وعلى أمين زميليه فى الفصل، وعمل الثلاثة فى تصميم مجلات الحائط التى كانت تنال أعجاب الجميع، ولمحمد التابعى دور حيوى فى تلك المحطة لأنه خال كامل ومأمون فعمل الثلاثة أصدقاء فى مجلة روزاليوسف، فكانت البداية ثم انطلق إلى مؤسسة اخبار اليوم التى كان واحداً من مؤسسيها، بعدها قرر مأمون أن يصدر مجلة وحده على حسابه الشخصى فكانت «كلمة ونص» التى استمرت 3 سنوات والتى استكتب فيها كل مثقفى وشعراء وأدباء تلك الفترة، وكان من شروط المجلة ان لا يكتبوا أسماءهم لحكمة لم أعرفها والحقيقة أن تلك المجلة كان لها فضل فى اكتشاف عدد من المواهب الصحفية الذين أصبحوا فيما بعد أسماء لامعة مثل صلاح حافظ ومحمود السعدنى وابراهيم الورداني، ومن الموقف الطريفة التى لا تُنسى ما حدث مع محمود السعدنى الذى كان مسؤولاً عن قسم الحوادث، وتميزت أخباره بالغرابة والطرافة إلى جانب أنها كانت مفزعة ولكنها خفيفة الدم، وفى يوم فوجئ مأمون بتليفون من مدير أمن القاهرة يقوم بتكذيب كل الأخبار المنشورة فما كان منه إلا ان قال لمحمود» إما تنشر حوادث صحيحة او تغادر المجلة تماماً» وبالفعل فعلها السعدنى واصبح لا يضع لمساته التى كانت تتميز بخفة الدم فانخفض توزيع المجلة فقال الشناوى له « لا كده مش هينفع ياعم محمود ارجع اعمل اللى كنت بتعمله.
خطأ محمود
مازال ناجى يصحبنا فى رحلة والده فى عوالم صاحبة الجلالة فيحكى عن مغادرته أخبار اليوم عندما خرجت دار التحرير إلى النور، فعمل فى جريدة الجمهورية، ونجح فى فترة وجيزة أن يكون له مقال ثابت صغير بعنوان «سبع أيام»، وهنا أتذكر جيداً تعليقين للراحل العظيم طه حسين على مأمون والذى كان أهم من أثر فى حياة والدي، الأول انه كان يكتب عنوان مقاله بشكل غريب «سبع تيام» فقال احد مهاجميه لطه حسين أن هذا انحدار فى اللغة العربية، فرد العظيم قائلاً: هذا خطأ محمود وليس خطأ مرفوضاً، وكان التعليق الثانى له عندما حاورته آمال فهمى واتهمته بأنه متحامل على شعراء العامية فقال بالحرف: «بالأمس سمعت السيدة أم كلثوم تشدو وتقول كل نار تصبح رماد مهما تقيد إلا نار الشوق يوم عن يوم تزيد» وهذا شعر خالص للشاعر الغنائى مأمون الشناوى ومن هنا انطلقت عبارة الشاعر الغنائى التى نسمعها حتى اليوم .
رجلى وجعتني
يستعيد ناجى علاقة والده بجماعة «أبولو» للشعر ويجيب عن سؤالنا لماذا ترك الفصحى واتجه للعامية : فى لقاء بين والدى مع قناة «بى بى سى» سُئل هذا السؤال فأجاب بالحرف: «رجلى وجعتنى لما اتكعبلت فقلت آه يارجلى مش آواه ياساقي» فمن المنطقى أن أختار التعبير عن نفسى بتلك اللغة العفوية التى تصل إلى قلوب الناس.
وننصت إلى مسيرة مأمون على لسان ولده ناجي: توقف تماما عن الصحافة فى أواخر الستينيات عندما خرجت شائعةمن شخص مهم جدا اُتهم فيها بأنه من يكتب النكات التى كانت تقال على جمال عبد الناصر، رغم ان ناصر لم تكن تزعجه تلك النكات إلا انها كانت تغضب من حوله، وأتذكر أن النكتة الوحيدة التى كانت تؤلم ناصر هى أن واحد نصب على واحد والراجل جاله حالة نفسية وبقى يكلم نفسه فى الشارع وبيشتم الله يخرب بيتك ياعبد السلام زى ما خربت بيتى مسكه الامن وقاله وكمان بتغلط فى اسمه».
جراح قلب
فى تلك الفترة وجد مأمون نفسه خارج نطاق عمله، مع وجود اسرة مكونة من 7 أطفال فى مستوى معيشة مرتفع، فما كان من عمى كامل الشناوى إلا أنه وقف بجانب اسرتنا وقال له مفيش حاجة هتتغير وقد حدث بالفعل، والحقيقة أن تلك الأزمة لم تكن الأولى بل سبقتها مشكلة بعد حرب 48 عندما كتب قصيدة بالعامية «ياتبلشفونا ياترسملونا .. موتونا وريحونا وان كلنا دقة تكون بلقمة ونص شقة وان قلنا لأ بتحبسونا ملعون ابوكم على ابونا « وتعرض لبعض المضايقات من رجال الملك لكنها لم تؤثر على عمله.
يصمت ناجى وكأنه يستعيد الذكريات ثم يعاود الحديث : بعد توقف عن الصحافة دام منذ الستينيات إلا انه قد عاد للعمل فى بلاط صاحبة الجلالة فى أواخر الثمانينيات عندما توفى عبد المنعم السباعى وكان يكتب بابًا فى جريدة الجمهورية حل مشاكل القراء العاطفية فتحدث معه محسن محمد رئيس التحرير فى ذلك الوقت، وقال له إن وصية السباعى تتلخص فى أن تتولى مسئولية الباب من بعده وهو ما حدث ولكنه أطلق عليه باب «جراح قلب» واستمر فيه لمدة 4 سنوات ولكنه فى النهاية تركه قائلاً» قلبى اتوجع « خاصة وقد كانت تصله رسائل من بنات فى مدينة اسيوط يتعرضن لأساليب صعبة من الجماعات الاسلامية المتطرفة التى ظهرت فى ذلك الوقت فتألم كثيرا.
قفشات سوما
ومن مأمون الشناوى الصحفى إلى الشاعر الذى تألق فى عالم الأغانى الراقية التى تعد علامة بارزة امتدت لتصبح قيثارة الأجيال ينتقل بنا ناجى الى اللقاء الأول الذى كان سبب علاقة وطيدة بين والده وأم كلثوم عندما كان صحفيا صغيرا فى بداية حياته فى روزاليوسف ودخل عليه عمدة من عمد أسيوط حاملاً بين يديه ورقة من محكمة تقول انه كسب قضية بضم السيدة أم كلثوم ابراهيم البلتاجى الى بيت الطاعة، فما كان من مأمون إلا ونشر الخبر مرفقة به صورة الحكم، فغضبت الست ورفعت قضية على روزاليوسف وفى أول جلسة ذهب مأمون إلى المحكمة بحكم أنه المحرر الذى نشر الخبر وشهدت غرفة المحامين اللقاء الأول عندما اختارته سوما والتى لم تكن تعرفه وسألته» هى الجلسة هتبدأ امتى وكانت متوترة جداً، فرد عليها عندما نظر إلى يديه وكأنه ينظر إلى ساعته التى لم يرتدها طوال حياته: تقريباً الساعة 9 فردت لا اعتقد 10، ومن تلك القفشة تعرفا وأصبحا أصدقاء.
وعن حكاية حكم الطاعة يقول ناجى القصة فيها جزء حقيقى وآخر ليس حقيقياً، الست فعلا اسمها ام كلثوم لكن ليست هى خاصة أن سوما اسمها الحقيقى فاطمة.
نستنا ولا إيه يامأمون
ويبدو أن علاقة سوما بمأمون كانت علاقة شديدة الرقى والإنسانية فيتحدث ناجى عن الفترة التى أُبعد فيها والده عن معشوقته الصحافة فى الستينيات: الجميع ابتعد عنه لم نكن نسمع رنين هاتف منزلنا إلا من اشخاص محددين على رأسهم عمى كامل ومنهم السيدة أم كلثوم التى كانت تتصل دوماً وفى إحدى المرات قالت له فور سماع صوته»انت نستنا ولا إيه يا مأمون» فرد عيها قائلاً: أنساك ده كلام، فقالت له أنا عاوزة دى فما كان منه إلا وعدها بأنه سيجهزها خلال ساعة وقد حدث بالفعل، والغريب أنها لم تغير فيها حرفاً كما كانت تفعل مع آخرين، ولهذه الأغنية قصة طريفة عندما رشح لها الراحل محمد فوزى فكانت النهاية على يد بليغ حمدي، والحكاية أن فوزى بالفعل لحن الكوبليه الثانى منها «كان لك معايا أجمل حكاية فى العمر كله» وكان هو وبليغ عندها فى المنزل وبينما كان فوزى يتحدث لسوما أكمل بليغ اللحن فنال أعجاب فوزى الذى بدوره صمم على أن يلحنها بليغ قائلاً للست: لحنها أحسن مني»، واستمر التعاون بينهما حتى إن آخر أغنية غنتها الست على المسرح كانت ودارت الأيام من تأليف والدى وبعد عامين توفيت.
غضب الربيع
ولكن لم تخل العلاقة بين سوما ومأمون من الخلاف هكذا سألت فرد ناجى دون تردد: لم يقبل ان يغير احد من كلماته وسوما كانت مشهورة بهذا التدخل وكانت لها بصمتها وتعديلاتها وهو أمر لم يقبله مطلقاً، وأغنية الربيع خير مثال عندما عرضها عليها فقررت تعديل كلمات فيها فرفض، ومن عمارة الايموبيليا البحرية حيث تسكن إلى الايموبيليا القبلية حيث كان يسكن فريد الأطرش اتجه مأمون فوافق الأطرش على غنائها دون التدخل فيها.
ومن سوما إلى فريد ينتقل ناجى الذى عاتب الراحل محفوظ عبد الرحمن مؤلف مسلسل أم كلثوم عندما قابله فى سهرة عند محمد مستجير ليصحح له ماذكره فى المسلسل من ان قصة تعرف والده على فريد كانت عن طريق الميكانيكي، بينما يقول ناجي: لا يمكن ان تكون قصة التعارف حقيقية لأن مامون كان صحفياً مشهوراً وربطته علاقة وطيدة بفريد منذ زمن بل انه ايضاً تعامل مع أسمهان عندما كتب لها امتى هتعرف وقهوة.
أصدقاء باختيار
الأخ قوة وسند فما بالك عندما يكون كامل الشناوى هكذا يتحدث ناجى عن عمه قائلاً: كانا صديقين باختيار، علاقة قوية ووطيدة ومحبة بل وعاشقة. مرتان رأيت والدى فيها يبكى الأولى عندما مات ناصر وسألته وقتها عن سر بكائه رغم المضايقات التى تعرض لها فى عهده فقال: «اللى شبكنا يخلصنا، هو الوحيد اللى كان ممكن يخلصنا من اللى شفناه واللى هنشوفه لسه» والمرة الثانية يوم وفاة عمى كامل وكنت ابلغ 13 عاماً ، كان بمنزلة الأخ والصديق والسند لوالدي، والعكس صحيح تماماً.
مقلب مصطفى أمين
صمت ناجى وبدأت ثمة دموع تبدو فى عينيه فأسرعت بالسؤال عن وقوف مأمون بجانب أخيه فى بعض من محنه، وبدهاء شديد أجابنى ضاحكاً: أنت تقصدين حكاية نجاة الصغيرة وقبل ان أجيب كان يحكى ويسرد ويقول: ليست حقيقية بالمرة والحقيقة أنها مقلب من مصطفى أمين وقد كان رجل مقالب كبير، وهذا الجيل كان يتميز فى تلك الفترة بحكاية المقالب والشائعات، ومن يقول إن لا تكذبى كتبها كامل الشناوى لنجاة فقد أخطأ خطاً فادحاً لأن تلك القصيدة كتبها كامل فى الاربعينيات عندما كانت نجاة طفلة أساساً، ثم إنها لعبت دور المذيعة فى أحد البرامج الإذاعية واختارت كامل لتحاوره وسألته ماذا تحب أن تسمع فقال لها لا تكذبى بصوت عبد الوهاب.
أب كاريزمى
مأمون الشناوى فنان عبقرى وفريد ولكنه أب لن يتكرر كاريزما خفيفة الدم ، ديمقراطى لم يتدخل فى اختياراتنا أو حياتنا، منحنا الحرية المرهونة بالمسئولية.
هكذا ينتقل ناجى من محطة الفن إلى تفاصيل انسانية يتذكر فيها فقدان والده البصر قبل وفاته بعامين ، ويقول: كان يتعامل مع الأمر بشكل شديد الرضا والسلاسة، كان يقول «كويس عشان تفضل صورة الناس اللى اعرفها زى ما هى مش عاوز اشوفهم وهم معجزين».
سماح ابنه اختى هى من كانت ترافقه طوال فترة مرضه، التى انتهت بنزيف حاد فى الصدر انتقل على أثره الى مستشفى قصر العينى الفرنساوى وهناك فاضت روحه وكنت ارافقه قبلها بساعات، لا استطيع نسيان تلك اللحظة التى أحسست فيها باليتم رغم أن عمرى كان قد تجاوز الأربعين، افتقده كثيراً لا بل طوال حياتي، مأمون كان أباً ليس عادياً أو تقليدياً، فكرت فى فترة من الفترات ان اجمع كل انتاجه الغنائى فى مجموعة كتب مثل دواوين فرفض وقال لي: ديوانى هو الاصوات اللى بتغنى اشعارى والناس بتسمعها لا يمكن خروجه عن الصوت واللحن».
يختتم ناجى حديثه بشجن: أحببت كل أعماله لكن تظل «انساك» عبقرية والدنيا ريشة فى هوا» أسطورية وبنادى عليك تحمل اهم مقدمة موسيقية فى تاريخ الغناء العربى ولن انسى ماقاله عن تلك الأغنية بخفة دم « انا اتزنقت فى القافية بتاعتها فكتبت والحب من غير امل اسمى معانى الغرام ، إزاى بس حب ايه ده الى من غير أمل.
رابط دائم: