أحد العوامل التى تقف خلف ازدهار التدين الشعبى بمفرداته وممارساته، هو غياب الثقافة عن الدين، والاكتفاء بنظرة أصولية ثيوقراطية جامدة للنصوص الدينية، مما يدفع بمن يصطدم معها إلى اتجاهات أخرى، بحثا عن ملاذ روحانى مؤقت أو يقين وهمى، ولا تقتصر الثقافة هنا على الصدام التقليدى بين العلمانية والإسلام، بقدر ما تتسع لأفق أكثر رحابة تدور فى دوائر التجديد والوسطية والاندماج الاجتماعى والفهم الصحيح للدين، لمواكبة المستجدات والتحولات المختلفة، والموازنة بين العبادات الروحية والالتزامات الاجتماعية المدنية، وغيرها الكثير من القضايا الأخرى .
خطورة الانفصال بين الثقافة والدين يحللها أوليفييه روا، أحد أبرز محللى الإسلام السياسى بالعالم، فى كتابه «الجهل المقدس: زمن دين بلا ثقافة»، الصادر عن دار الساقي. يجد صاحب «عولمة الإسلام» أن الانفصال الحديث بين المجتمعات الدينية والهويات الاجتماعية والثقافية، قد أوجد مساحة خصبة لنمو الأصولية والتطرف، وأن العلمنة شجعت على تجذر نوع من الجهل المقدس. دفعت الدين إلى أن يصبح «منزوع الثقافة»، ومنفصلا عن الثقافة. بالنسبة لروا، فإن العلمنة والتطرف يدوران معا فى حلقة مفرغة. عندما يدرك الدين أنه لا يتفق مع الثقافة المحيطة ويتحرك لتعريف نفسه بشكل مستقل. يتم رسم خطوط حمراء تعزز المذاهب الأصولية وتنكر التساهل والاعتدال.
وبحسب روا، فإن العلمنة لا تلغى الأديان، لكنها على العكس من ذلك تساهم فى إنتاجها حتى لو كانت بملامح جديدة. يكتب: «هناك ارتباط وثيق بين العلمنة والنهضة الدينية، وهى ليست رد فعل ضد العلمنة، بل ناتجة عنها. العلمانية تولد نهضة الدين «. هو يرى أن طرد الدينى من الفضاء العام وفصله عن الثقافة سيعزله فى شكل «نقي». يولد الطلاق بين الدين والثقافة، ما يعرفه روا بأنه «الجهل المقدس» برفض المتدين التعبير ثقافيا عن أنه، إذا تم دفعه إلى التطرف، فإنه يتحول إلى فقدان الثقة بالمعرفة الدينية نفسها، عن طريق فكرة أن المعرفة ليست ضرورة تصل بمالكها إلى الخلاص، ويمكن أن تضر بالإيمان. ويقترح أن الأصولية هى عرض من أعراض العلمنة المتزايدة للمجتمع، وليست رد فعل ضدها. سواء كانت تتخذ شكل اليمين المسيحى فى الولايات المتحدة، أو النقاء السلفى فى العالم الإسلامى، فإن الأصولية لا تتعلق باستعادة تجربة دينية روحية أكثر أصالة. ولكن تعد مظهرا من مظاهر ذلك الجهل المقدس .
ويشير إلى أن الدين لا يطرح بصفته دينا، إلا عندما ينفصل انفصالا بينا عن الثقافة، وإن كان ذلك مؤقتا، ونتيجة لذلك لا يسرى مفهوم الدين فى أنظمة يدرك فيها ما يقرن بالدين ( تقوى، مقدس) على أنه ثقافى كليا ( دين مدني) . إن الدين الذى يثبت أنه «دين حقيقي» هو الذى يطرح بوضوح الثقافة بوصفها غيرية، مضيفا أن الإسلام قد سعى إلى غزو العالم فى عصره الذهبى، بهدف اتساع وجوده لكنه كان مرتبطا ارتباطا وثيقا بالثقافة العربية التى ولد فيها، الآن أصبحت الأديان تسعى إلى أن تكون «نقية» من أجل سهولة تصديرها وتوسيع نفوذها، ودخولها إلى مجتمعات غير مجتمعاتها. فيبدو عزل الدين عن الثقافة شرطا أوليا، ليصبح قابلا للتعولم، أى للتصدير وعبور الحدود.
يحلل صاحب « تجربة الإسلام السياسي» العلاقة بين الثقافة والدين التى اهتزت نتيجة ثورات الإعلام وسرعة التنقل من مكان لآخر. يعتبر أن الدين والثقافة يتناقضان حاليا مع بعضهما البعض، ولذلك يسعى الشباب المسلم إلى الحصول على شكل أساسى من الإسلام منفصل عن أسس وقيم الثقافة ونظرتها للعالم. كما أنه ينتقد التعددية الثقافية، التى يراها تسطيحا للثقافات التى يتم اختزالها إلى أدنى قاسم مشترك للتملك، مشيرا إلى انسحاب «المجتمعات الدينية» المختلفة بشكل متزايد من الثقافة الأوسع، مدافعة عن نقائها العقائدى ضد هجوم الاتجاهات العلمانية، ويحذر من خطورة هذا الانسحاب بقوله «الإيمان بدون ثقافة هو تعبير عن التعصب». فالدين «النقي»، من وجهة نظر روا، لا يميل فقط إلى التعصب، ولكنه يفتقر إلى أى أساس للتوافق فى عالم مشترك. ويقول إن مثل هذا الدين يفقد اتصاله بـ «المعرفة الدينية نفسها». كما يفشل فى الاعتراف باعتماده على تقليد ثقافى ديناميكي.
رابط دائم: