فى الدراسة السوسيولوجية للدين يتم التمييز ما بين «دين شعبي» يتمثل فى الممارسات والتصورات الدينية الراجعة إلى فئات اجتماعية اُعتبرت ممثلة للشعب، والمتأثرة بأوضاع هذه الفئات الثقافية والاجتماعية، و«دين رسمى» أو «دين عالِم» يتمثل فى جملة من العقائد والطقوس والشعائر المنظمة والمقننة من قبل مؤسسة دينية رسمية.
تحلل الباحثة والأكاديمية التونسية د. زهية جويرو. مفردات تلك الظاهرة، فى كتابها «الإسلام الشعبي» الصادر عن دار الطليعة ورابطة العقلانيين العرب، ضمن سلسلة «الإسلام واحدا ومتعددا» وهى إشارة إلى وجود نسخ متعددة من الإسلام، ربما إسقاطا على تعدد أنماط التدين الشعبى وممارساته، التى قد تبتعد عن الإسلام الواحد الصحيح والرسمي. وهو ما توضحة جويرو فى كتابها، عندما تصف الإنسان الدينى أو المتدين الذى يبدو واحدا، ولكنه فى نفس الوقت متعدد، من حيث هو كائن اجتماعى وثقافى قد خضع عبر مساره التاريخى لثوابت وتحولات عديدة، وهذا الإنسان هو أيضا الذى ينشئ فى اجتماعيته الظواهر الدينية وهو الذى يستهلكها، ويصنع المعرفة الدينية التى تظل عبر مسارها التاريخى مرتبطة ارتباطا صميما بالاجتماعى فى تجلياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية.
تدرس جويرو الإسلام الشعبى فى سيرورته التاريخية المحكومة بجدلية الثبات والتحول، وتحلل معتقداته وممارساته من طقوس وشعائر ذات المرجعيات المختلفة، كالسحر والأسطورة والدين وحتى التاريخ، والأسباب المؤدية إلى انتعاش الدين بمختلف تجلياته الشعبية والمؤدلجة فى المجال الإسلامي. تصوغ زهية جويرو ثلاث فرضيات رئيسة توجه بحثها، الفرضية الأولى هى أن الإسلام شهد منذ مراحل تاريخه الأولى ظهور التمايز بين مستويات مختلفة من التمثلات الدينية، تجلت فى طبيعة العقائد وأشكال ممارسة الشعائر الدينية عامة، وأن هذه المستويات قد تأثرت بأوضاع المسلمين وأطرهم الثقافية؛ فكانت «عقائد العوام» أو»إسلام العامة»، و»إسلام الخاصة»، من جملة المستويات المذكورة. أما الفرضية الثانية، فترى أنه بقدر ما حافظت منظومة العقائد الإسلامية على ثباتها خلال حقب طويلة نسبيا، دون أن يكون ذلك دليلا على لا تاريخيتها، فإنها سرعان ما اهتزت بفعل التحولات التى بدأت تعصف بالمجتمعات الإسلامية منذ مطلع القرن التاسع عشر. وترى فى الفرضية الثالثة، أن التدين الشعبى مرتبط بـ«المقدس» أكثر من ارتباطه بالدين الذى ما هو إلا بنية ضمن بنى المقدس نفسه.
وتشير إلى أن الإسلام الشعبى فى سيرورته التاريخية، محكوم بجدلية الثابت والمتحول فهو منظومة من المعتقدات والطقوس والممارسات التى قد تثبت فى المجتمعات الإسلامية التقليدية على المدى الطويل، إلا أنه ثبات مقصور فى الغالب على الأشكال، أما الدلالات والوظائف فإنها شهدت تحولات تابعة للتحولات الاجتماعية والثقافية والمادية. تلك المنظومة تأثرت بشدة بالاختراق الاستعمارى والثقافى، الذى أحدثه فكر النهضة وما تسرب من روافد ثقافية جديدة، أثرت على التصورات التقليدية حول موقع الدين فى التنظيم الاجتماعى من جهة، كما تأثر الإسلام نفسه وبرزت المطالبات بتجديد الفكر والخطاب الديني.
ترى المؤلفة أن التدين الشعبى نجح بالتكيف مع التغيرات التى طرأت على الواقع واكتسب وظائف جديدة تضمن استمراره، حيث استفاد من التناقض بين الثقافة الحديثة والتقليدية بدعوات الدفاع عن الهوية ومقاومة الانسلاخ الثقافى، الذى تهدد به العولمة، كما استفاد من تراجع الظروف الاقتصادية والاجتماعية، لاستقطاب الأفراد والجماعات التى لم تجد غير التدين الشعبى ملاذا يحقق توازنا مفقودا واستقرارا، حتى لو كان وهميا، لذا برز استغلال الدين فى السياسة، كأداة للصراع على الحكم. وتشير إلى أن التدين الشعبى تحول، منذ الثمانينيات من القرن الماضى، إلى موضوع رهان «سياسي- إيديولوجي»، حيث اتجهت السلطات الرسمية لتوظيفه فى مقاومة الإسلام الأصولى المؤدلج، كما وظفه التيار الدينى السياسى والأصولى لتجييش الشعور الدينى العام وتعبئته لخدمة أهدافه السياسية، فكان هذا الواقع مناسبا ليعاود الإسلام الشعبى الانتشار، ولكن ضمن رؤية مختلفة ووظائف جديدة.
تبرز زهية جويرو تنوع مضامين التمثلات الدينية الشعبية واختلاف مراجعها وانفتاحها على حقل واسع من الممارسات، هى عوامل تجعل علاقة الإسلام الشعبى بالإسلام الرسمى والعالم علاقة متعددة الأبعاد، وكذلك علاقته بالمقدس المتجذر بالنسيج الاجتماعى والثقافى، مما يجعله قابلا لاتخاذ أشكال مختلفة، ونظرا لارتباطه بالتحولات والتغيرات الاجتماعية، فإن هذا النوع من التدين له طبيعة اجتماعية أكثر منها دينية، لذا يمكنه أن يعكس قدرا كبيرا من التنوع فى أشكال التعبير والممارسات الدينية، وهو ما يعيدنا مرة أخرى إلى مضمون «الإسلام واحدا ومتعددا».
رابط دائم: