منحة ربانية لتجديد الإيمان والعمل بالأركان والفوز بالجنان
أيام قليلة، ويستقبل المسلمون خير ضيف يحل بديارهم، شهر رمضان المبارك، الذى هو شهر خير وبركة ومغفرة ورحمة، وفيه ليلة خير من ألف شهر، فهنيئًا لمن هيأ نفسه له، وقرر فيه فتح صفحة جديدة مع الله، عمادها التقوى والعبادة والخلق الحسن، والامتناع عن الغيبة والنميمة، وسائر الصفات السيئة.
هذا ما يؤكده عدد من علماء الدين، واصفين «رمضان» بأنه فرصة ومنحة ربانية للإقبال على الله، وتجديد التوبة إليه، وتأكيد العمل بالأركان، داعين إلى الالتزام بضوابط وزارتى الأوقاف والصحة فى هذا الصدد، من حيث تخصيص كل مصل سجادة خاصة به للصلاة، وارتداء الكمامة، والحفاظ على التباعد، باعتبارها من العبادات.
فى البداية، يفسر الشيخ عبد الحميد الأطرش، رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقًا، تسمية شهر «رمضان» بهذا الاسم بأنه يرمض الذنوب أى يحرقها، إذ إن الكلمة مأخوذة من الرمضاء، وهى الحجارة المحماة، فسُمى رمضان بهذا الاسم ربما لأنه يحرق الذنوب.
ويتابع: ما هى إلا أيام قلائل، ويهل على المسلمين، فى مشارق الأرض ومغاربها، هلاله، فهو ضيف من الله سبحانه وتعالى، وقد جرت العادة أن الإنسان إذا علم بنزول ضيف يتأهب ويستعد ويرتب بيته لاستقباله، وهذا الضيف مهما ترتفع درجته يكون من مجرى أبيه وأمه، فما بالنا بضيف من عند الله سبحانه وتعالى، فهو أولى أن نستعد لاستقباله أتم استعداد، بتهيئة النفس، وتأديبها بالتوبة والرجوع إلى الله، وبدء عهد جديد معه سبحانه وتعالى.
ويضيف: روى البخارى فى «الأدب المفرد»، قال: عن أبى هريرة، رضى الله عنه، أن النبى، صلى الله عليه وسلم، رقى المنبر، فقال: آمين آمين آمين.. قيل له: يا رسول الله، ما كنت تصنع هذا؟ فقال: قال لى جبريل: رغم أنف عبد أدرك أبويه أو أحدهما لم يدخله الجنة قلت آمين، ثم قال: رغم أنف عبد دخل عليه رمضان لم يغفر له فقلت: آمين. ثم قال: رغم أنف امرئ ذُكرت عنده فلم يصل عليك فقلت: آمين».
ويتابع الشيخ الأطرش: رمضان منحة من الله سبحانه وتعالى لأمة محمد، فالمسلم حين يصوم يرتقى إلى درجة الملائكة، إذ إن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا يتناكحون، وكذلك الصائم، والملائكة ليس لديها شهوة والإنسان لديه شهوة، فحينما يتغلب على شهواته فلا يأكل ولا يشرب ولا يجامع فبذلك يكون قد ارتفع درجة عالية كدرجة الملائكة، أو أكثر.
ويواصل: هذا الشهر عندما يصعد إلى ربه يكون شاهدًا لنا أو علينا ، فهو شهر خير وبركة، وليس شهر موائد الطعام الكثيرة، أو الإفراط فى تناوله، بل هو للامتناع عن شهوتى البطن والفرج من طلوع الشمس حتى مغربها.
ويضيف: لقد اختص الله، تعالى، العشر الأواخر من هذا الشهر الكريم، بليلة فضلها، سبحانه، على سائر الليالى، وأنزل فيها القرآن الكريم، علمًا بأنه نزل منجمًا على 23 سنة؛ لتثبيت الإيمان فى النفوس، وانتزاع الشرائع الباطلة، وبالتالى هو فرصة لكل مسلم ومسلمة أن يخرج منه كيوم ولدته أمه.
التجديد.. والتباعد
فى سياق متصل، يقول الدكتور مختار مرزوق عميد كلية أصول الدين سابقًا بجامعة أسيوط: شرع الله للمسلمين أن يستقبلوا شهر رمضان، وأن يفرحوا به قبل قدومه، لاسيما أنه هو الشهر الذى خصه سبحانه وتعالى، بنزول القرآن، ويشير إلى أن من الأمور التى نستقبل بها الشهر المبارك تجديد التوبة، وأداء واجباته وسننه من أوله لآخره؛ ليغفر الله تعالى لنا الذنوب. قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما لم تُغش الكبائر»، فالتوبة واجبة على الفور، وعلى الدوام.
يقول ابن خزامة: يجب على العبد أن يجدد التوبة علي الدوام لأن المعاصى مهلكة، ولا يدرى العبد متى يأتيه الموت فربما جاءه بغتة فلا يستطيع توبة فيهلك نفسه، ولأن الانسان لا يخلو من معصية، ولو خلا منها أو من معصية الجوارح أو من الهم بالذنب، أو من وساوس الشيطان، فلن يخلو من غفلة وقصور فى العلم بالله تعالى، فى ذاته وأفعاله.
وفى ظل الظروف الراهنة، وجائحة «كورونا»، يؤكد أنه من الضرورى أن يحترس كل مسلم عند أداء الصلاة والعبادة، وأن يلتزم بما أرشدت إليه وزارتا الصحة والأوقاف من تعليمات لسلامة الجميع، فمثلا يصطحب كل مصل سجادة الصلاة الخاصة به، ويرتدى الكمامة، ويحافظ على التباعد، ومن كان به مرض أو شعر بأعراضه فعليه أن يصلى فى بيته؛ حتى لا يؤذى غيره.
أما عن صلاة القيام (التراويح) فقد حث النبى، صلى الله عليه وسلم، عليها، وفيها قال: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»، كما ورد فى صحيح البخارى عن عائشة، رضى الله عنها، أن النبى، صلى الله عليه وسلم، كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفى، لكن الاعتكاف فى هذا العام محظور، تجنبًا لجائحة «كورونا»، وبالتالى يمكن أن يخصص المسلم مكانًا فى بيته يخلو فيه بنفسه لطاعة الله.
ويختتم حديثه: «العبادات السابقة كلها يستفيد بها المسلم وحده، لكن هناك فائدة تعود على الناس جميعًا، كل بحسب قدرته، من خلق كريم، هى الجود والكرم، والعمل على إفطار صائم، بإمداده بالطعام أو المال أو غير ذلك، وفى ذلك ورد حديث عبدالله بن عباس، رضى الله عنهما، عند البخاري: «كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أجودَ الناسِ بالخيرِ، وكان أجودَ ما يكون فى شهرِ رمضانَ حتى ينسلِخَ، فيأتيه جبريلُ فيعرضُ عليه القرآنَ، فإذا لقِيَه جبريلُ كان رسولُ اللهِ أجودَ بالخيرِ من الرِّيحِ الْمُرسَلَةِ».
منافسة فى الخير
من جهته، يقول الدكتور مصطفى مراد الأستاذ فى كلية الدعوة الإسلامية بجامعة الأزهر: دعانا الله تعالى فى هذا الشهر الكريم إلى منافسة عالمية، للذكر والأنثى، والغنى والفقير، والعالم والجاهل، والصائم والمفطر، ذلك أن من أفطر فى رمضان لعذر يُعذر، وله أبواب أخرى يساعد فيها، ويقف بجوار الناس حيالها، كمساعدة الفقراء، وإطعام المساكين.
ويوضح: حتى الحائض والنفساء شريكتان فى ذلك، فكل منهما، وإن كان لها العذر فى الفطر، إلا أن الله سبحانه وتعالى جعل لهما أبواب الخيرات مفتوحة على مصاريعها، وكلها راجعة إلى الجود والكرم والإنفاق وتفطير الصائمين، والتصدق، والبعد عن الخصومة والسب والشتم واللعن وإيذاء الناس سواء باليد أو القول أو الفعل.
ويتابع: كان النبى، صلى الله عليه وسلم، يقول لأصحابه: «أتاكُم رَمضانُ شَهرٌ مبارَك، فرَضَ اللَّهُ عزَّ وجَلَّ عليكُم صيامَه، تُفَتَّحُ فيهِ أبوابُ السَّماءِ، وتغَلَّقُ فيهِ أبوابُ الجحيمِ، وتُغَلُّ فيهِ مَرَدَةُ الشَّياطينِ».
ويواصل الدكتور مصطفى: من العوامل المساعدة للفوز أنه يقول لهم: إذا جاء رمضان «فالجو صاف، وشياطين الجن لا تعمل، وأبواب السماء مفتوحة للدعاء، وأبواب النيران مغلقة، فما بقى على العبد إلا أن يجاهد نفسه فقط فلا يردها موارد المهالك، ولا يوقعها فى المعاصى والآثام، ولذلك فإن الصيام ليس فقط عن الحرام فإنه يُصام عنه فى رمضان وغيره، لكنه يبتعد عن ظلم الناس وغيره، فهو بعيد عن الحرام وبعيد عن بعض الحلال، وهو مصلح لنفسه، ومصلح لغيره. قال النبى، صلى الله عليه وسلم : «فإن امرؤ سابه أو شاتمه أو قاتله، فليقل إنى صائم إنى صائم»، وقال، صلوات الله وسلامه عليه: «من لم يدع قول الزور والعمل به ، فليس له حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه».
ويتابع الأستاذ بكلية الدعوة الإسلامية: من إشارات القرآن البديعة التى تدلنا على استعانة العبد بربه إذا قصر فى الصيام أو القيام أو أعمال البر فى رمضان، وغيره|، أنه سبحانه، دعانا أن ندعوه فقال :»وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ»، وهذا معناه أن المسلم إذا قصر فى عبادة، أو ثقلت عليه؛ يسأل ربه، ويدعوه أن يعينه على أداء ما عليه.
ويشير إلى أن الله، سبحانه وتعالى، اختص من صام هذا الشهر حق الصيام، وقامه حق القيام، بأن جعل له بابًا فى الجنة اسمه «الريان» يدخل منه الصائمون فقط، وأنه، تعالى، قد زين الجنة للصائمين، وأنه كذلك يعتق فيه كثيرين من النار، إذ قال النبى، صلى الله عليه وسلم: «ولله عتقاء فى هذا الشهر من النار».
رابط دائم: