قال باحث المصريات الدكتور محمد رأفت عباس، إن مئات الملوك حكموا مصر عبر تاريخها القديم، لكن من خلدوا فى الذاكرة فقط، هم من خلدوا مصر فى عهدهم، فخلدتهم ذاكرة الأمة بعد رحيلهم، ومنهم الملك رمسيس الثانى الذى كان دائما يستعيد تكريم شعبه وإجلاله له حتى بعد آلاف السنين على رحيله.
وقال عباس - لوكالة أنباء الشرق الأوسط بمناسبة موكب نقل المومياوات الملكية من المتحف المصرى بالتحرير لعرضها بمقرها الدائم داخل متحف الحضارة أمس - إن تلك هى المرة الثالثة لنقل مومياء الملك رمسيس الثانى ويشهدها المصريون والعالم بعد وفاته.
وأوضح أنه تم استخراج توابيت المومياوات الملكية من خبيئة الدير البحرى بالبر الغربى بطيبة (الأقصر) فى 11 سبتمبر عام 1881، وكان من بينها مومياء الملك رمسيس الثانى التى تم العثور عليها، وبعد مرور ثلاثة أيام وصلت السفينة المبعوثة من جانب السلطات المصرية، وبأمر من عالم المصريات الفرنسى الشهير جاستون ماسبيرو لنقل هذه المومياوات إلى القاهرة.
وتابع أنه حين كانت السفينة تمر عبر نهر النيل بين الأقصر وقفط، شاهد الفلاحون المصريون الموكب مثلهم كمثل أسلافهم فى الماضى البعيد، والذين كانوا يشاهدون مواكب الجنازات الملكية المهيبة الجليلة، فإذ هم يعبرون عن إجلالهم وتوقيرهم لمومياء ملك مصر، بل ويعبرون عن حزنهم أيضا، فقامت النساء الفلاحات على ضفاف النيل بإطلاق نحيبهن وعويلهن ويهلن الأتربة فوق شعورهن، أما الرجال فراحوا يطلقون الأعيرة النارية احتفاء بهذه المناسبة العظيمة، وذلك كما تحدثت عالمة المصريات الفرنسية كريستيان ديروش نوبلكور عن تلك اللحظة فى كتابها الشهير عن رمسيس الثانى.
وأكد أن المرة الثانية لنقل مومياء الملك رمسيس الثانى كانت فى عام 1976، عندما تقرر سفر مومياء الملك رمسيس إلى باريس لعلاجها من بعض الأضرار التى لحقت بها ولإقامة معرض "رمسيس العظيم" فى العاصمة الفرنسية باريس، واستقلت المومياء طائرة عسكرية فرنسية من طراز بروجيه ذات الطابقين، بعد أن غادرت المتحف المصرى فى حراسة نخبة من خير جنود مصر تحت حراسة ضابط مصرى يدعى (رمسيس) هو الآخر.
وأضاف أنه تم استقبال المومياء فى فرنسا استقبال الملوك والرؤساء الرسميين من قبل الحرس الجمهورى الفرنسى، ووقف فى مقدمة استقبال مومياء الملك مبعوثة الرئيس الفرنسى وقائد القوات المسلحة الفرنسية وسفير مصر بفرنسا، وعزف النشيد الوطنى المصرى، تحية للفرعون المحارب، وأطلقت المدفعية الفرنسية تحيتها للضيف الكبير.
وكشف الدكتور محمد رأفت عن دوران العربة التى كانت تحمل مومياء الملك رمسيس الثانى وهى فى طريقها إلى متحف "الإنسان" بباريس – مقر علاج مومياء الملك – دورة كاملة حول مسلة الملك العظيمة بميدان الكونكورد، والتى قد أهداها محمد على باشا والى مصر إلى فرنسا، وكأنه إعلان عظيم عن وصول مصر وحضارتها إلى قلب أوروبا، وأن تاريخ مصر وذكرى الملك رمسيس الثانى باقية أبد الدهر.
وعن حياة الملك رمسيس الثانى، قال الدكتور محمد رأفت عباس إن فترة حكمه تجاوزت 67 عاما (1279 – 1213 ق. م)، وتكاد لا تخلو أى منطقة أثرية فى مصر – من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها – من آثار تحمل اسمه؛ حيث كان واحدا من أعظم الملوك البنائين على الإطلاق، مشيرا إلى آثاره العظيمة فى معبدى الكرنك والأقصر بطيبة، ومعبده الجنائزى المعروف بـ"الرمسيوم" بغرب طيبة، وفى منف، ومعبده فى أبيدوس، ومعابده النوبية العظيمة فى أبوسمبل وبيت الوالى وعكشا وجرف حسين ووادى السبوع.
وأضاف أن الملك رمسيس الثانى قام بتشييد عاصمة عظيمة لمصر فى شرق الدلتا، والتى حملت اسم "بر رعمسيس مرى آمون" أى "بيت رمسيس محبوب آمون" فى موقع قنتير الحالية، وكان والده الملك العظيم سيتى الأول هو أول من بدأ فى بناء هذه العاصمة الجديدة ، لكن رمسيس الثانى هو من أكملها وجعلها واحدة من أعظم وأكبر مدن مصر والشرق القديم؛ حيث كانت شاهدة على أحداث وأمجاد عهده الطويل.
وأكد أن رمسيس الثانى كان واحدا من أعظم الملوك المحاربين على الإطلاق فى تاريخ مصر القديمة؛ حيث خاض القتال أمام أكبر قوة عسكرية فى عصره على الإطلاق، والتى تمثلت فى الإمبراطورية الحيثية القابعة فى آسيا الصغرى، والتى امتد نفوذها السياسى والعسكرى إلى سوريا الشمالية، واصطدم معهم فى أكبر معركة فى تاريخ العالم القديم المتمثلة فى معركة "قادش" التى وقعت فى العام الخامس من عهده فى مدينة قادش بشمال سوريا، وتمكن فيها من تحويل الهزيمة المحققة فى بداية القتال إلى نصر ميدانى فى أرض المعركة بفضل شجاعته الأسطورية.
وتابع أنه فى أعقاب معركة "قادش"، واصل الملك رمسيس الثانى حملاته الحربية وانتصاراته فى سوريا وكنعان (فلسطين)، ونجح فى مجابهة النفوذ الحيثى فى المنطقة، وتمكن من استعادة النفوذ السياسى والحربى لمصر فى منطقة الشرق الأدنى القديم، بعد أن تعرض هذا النفوذ لهزة عنيفة منذ عهد العمارنة؛ حيث قام بإعادة غزو بلاد كنعان ( فلسطين ) ومناطق الساحل الفينيقى، وبلغ قمة مجده الحربى بغزو مدن دابور وتونيب فى شمال سوريا، واللتان كانتا تحت سيطرة النفوذ الحيثى منذ فترة طويلة، لافتا فى الوقت نفسه إلى أن نقوش الفرعون فى معابد الكرنك الرمسيوم والأقصر، تدل على فتوحاته العسكرية وبطولاته الخالدة التى أعقبت ملحمة "قادش".
وأشار عباس إلى أنه فى نهاية الصراع السياسى والحربى العنيف مع الحيثيين، وافق على طلب الحيثيين بعقد معاهدة السلام والتحالف معهم، منهيا 50 عاما من الصراع السياسى والحربى العنيف بين القوتين الكبريين فى منطقة الشرق الأدنى القديم، وعقد فى العام ال 21 من عهده معاهدة السلام مع الملك الحيثى خاتوسيل الثالث، والتى توجها بزواجه من ابنة الملك الحيثى فى العام ال ـ34 من عهده، والتى أطلق عليها الاسم المصرى (مات حر نفرو رع) تكريما لها… مؤكدا أن الملك رمسيس الثانى كان عظيما فى سلمه كما كان عظيما فى حربه.
رابط دائم: