رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

مبنيان متلاصقان

فؤاد مرسى;

الرجل الذى طوَّح سيجارة مشتعلة بطرف أصبعه ببلادة شديدة، لم يكن يتصور أن السيجارة يمكن أن تبقى مشتعلة وهى تتراقص فى الهواء قبل أن تستقر على سطح المبنى الواطئ الملاصق، وتشتبك بأكوام من الملفات المهملة وبقايا أثاث قديم وتشعل النيران فيها.

الغرفة التى يقف فيها الرجل لم تكن بأحسن حالا من سطح المبنى الذى اشتعل.

ملفات المرضى النفسيين تفترش الأرض بطريقة لا تسمح له بالتجول فى الغرفة إلا متقافزا، أحيانا يضطر للمشى فوق بعضها حتى يستطيع أن يخرج أو يدخل، حتى الأريكة المعدنية الموجودة فى الغرفة احتلتها الملفات ولم تترك له إلا شبرين تقريبا يحشر فيهما جسده، منتظرا أن يلجأ إليه باحثٌا عن ملف مريض كان محجوزا بالمستشفى ويريد أن يثبت فترة إقامته بها رسميا.

لم تكن ثمة مساحة فارغة حقيقية يتحرك فيها الرجل سوى مدخل الشرفة، التى وضع على حافتها سجادة للصلاة لم يستخدمها أبدا، حيث تعود أن يصلى بعينيه واقفا أو قاعدا فى مكانه.

هذه هى المساحة التى يتردد عليها بانتظام ليدخن سجائره ويطفئها فى طبق مملوء بالمياه، موضوع بجوار السجادة.

تعوَّد فى هذا الوقت من كل يوم أن يتأمل المبنى الواطئ الملاصق، الذى لم يعرف كنيته. يُظهر المشهد من أعلى مجموعة من الغرف الخشبية المتراصة على خط مستقيم، تواجهها خشبة مسرح كالحة وستائر ممزقة ومقاعد نُزعت من مواضعها واستخدمها الموظفون، وحوَّل أفراد الأمن بعضها الآخر إلى أرائك وأسرة يتمددون عليها فى أثناء نوبتجياتهم الليلية، بينما موظفو المبنى يتنقلون بين الغرف نهارا وبين أياديهم ملفات ضخمة، يدخلون ويخرجون بها دون أن يدرى من أين يأتون ولا إلى أين يذهبون، أحيانا كان ينتهى إليه صوت شجار بعضهم، وأحيانا يتحول إلى اشتباك بالأيدى. وبعد العصر يمسى المبنى مقبرة كبيرة، يفوح منها صمت لا يقطعه ولا يبدده إلا صوت مروحة سقف غرفته وهى تئِّز أزيزا مزعجا اضطر بسببه اللجوء لتناول المهدئات التى أدمنها بعد ذلك.. هذه المروحة لا يعلم لماذا لم يُخصص لها مفتاح منفرد، وربطوها بمفتاح اللمبة الوحيدة فى الغرفة، حيث يعملان وينطفئان معا. حاول كثيرا أن ينظم الغرفة ويفصل بين اللمبة والمروحة، غير أن كل محاولاته تُوِّجت بالفشل، استسلم للوضع، مكتفياً بخبرته فى الوصول إلى الملفات المطلوبة بسرعة.

الرجل هذه المرة ألقى السيجارة دون أن يطفئها فى الطبق المملوء بالمياه، فامتدت ألسنة اللهب لأعلى بسرعة مجنونة، كأن هناك من ينفخ فى أوارها، دون أن يقاومها أحد، حتى نوبتجى الأمن الذى لمحه ممددا كالعادة على الأريكة المصنوعة من كراسى المسرح المهمل، لم ينتبه للنار المشتعلة أعلى المبنى الذى يحرسه، كان مشغولا بشيء ما يعرض على شاشة تليفزيون قديم أمامه، بينما ألسنة اللهب تقترب من رجل واقف فى شرفة غرفة مخصصة لحفظ ملفات مستشفى للعلاج النفسى، كئيب وكالح.

النار تتجاوز الشبابيك المسيَّجة بالحديد المتقاطع فى الدور الأول المخصص للمرضى الرجال وتقترب من شبابيك الدور الثانى المخصص للنساء، وهو غير مصدق أن سيجارته فعلت كل هذا. تقافز فوق أكوام الملفات سريعا، غير آبه لإمكانية أن تقترب منها النيران المجنونة، اجتاز الطرقة المظلمة. هبط السلالم وهو يستحث الممرضين النوبتجية لفتح الأبواب ووضع المرضى الرجال فى مكان آمن.. صعد بنفس السرعة نحو قسم الحريم، خبط الباب الحديدى بهستيرية، تناهى إليه من الداخل أصوات غناء ممتزجة وزغاريد وتصفيق، تشبث بعوارض الباب ليطالع ما يجرى فى الداخل من كوة صغيرة فى أعلاه، كانت المريضات قد ضممن الأسرة إلى بعضها وحولنها إلى خشبة مسرح أكبر من المسرح المهجور فى المبنى المجاور، فوق الخشبة مريضة تؤدى دورا يشبه دور هنومة فى فيلم باب الحديد، بينما باقى المريضات افترشن الأرض، يطالعن ما يجرى أمامهن على خشبة المسرح وهن يصفقن ويزغردن بحماس، ووجوههن تشع فرحة لم يرها من قبل.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق