رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

شاكر عبدالحميد .. العـالم الإنسان متنا وهامـــــشا

مصطفى عبادة;

لم يذهب أحد من الهامش إلى المتن، وعاد سليما، لكن شاكر عبدالحميد فعلها، انتقل من موقع الناقد الحانى والمثقف المقبل على صداقة الجميع، إلى موقع المسئولية، بل أكبر موقع فى المسئولية: موقع وزير ثقافة مصر.

ولم يتغير، عاد كما كان ببساطة، ربما عاد أكثر بساطة وتواضعا هو الرجل الذى عرف وتأكد من موقعه لدى الناس، حين فرح له الناس وهنأوا أنفسهم بتوليه المسئولية، عاد إليهم ولم يتغير فيه شىء،عاد سليما معافى، إنسانا كما كان، لم ينس معرفته وعلمه تحت وطأة المنصب، وتلك حالة نادرة، حيث يضفى المنصب الرسمى على شاغله هالة غامضة، وبخاصة إذا جاء ووراءه عمر طويل من الإقامة فى الهامش، الشرخ النفسى والإحساس المبالغ فيه بالذات، العزلة واحتقار العالم بعد مغادرة المنصب، أمراض عرفناها فى كل من تولى موقع مسئولية وغادره، إلا شاكر عبدالحميد، زاده الموقع رضا وقناعة وتواضعا، لقيته فى مكتبه فى الوزارة مع الصديق عزمى عبدالوهاب بعد شهر من استوزاره، فوجدناه راسخا يضع يده فى مشكلات الوزارة ببراءة وجسارة، هو نفسه الرجل الذى كنا نلقاه قبل ذلك، سيظل هو فيما يأتى من لقاءات أو ندوات وحوارات يتجاهل فترة توليه الوزارة، وكان يردد جملة واحدة: تحت أمر الثقافة فى أى موقع.




وقد كان: إذ كان عمله يخترق مجالين مهمين، فهو الذى اختار أن يرسم للمثقفين طريقهم، للمبدعين منهم بخاصة، حين ألف عن الإبداع ودوافعه، وحاول استكناه خبايا النفس الإنسانية ليعرف المبدعون كيف يبدعون ولماذا يبدعون، هو من شرح نفسية المبدعين: بالأسس النفسية للإبداع الأدبى، وعلم نفس الإبداع، حيث الدلائل على الإبداع فى علم النفس: أن يرى الفرد الأشياء المألوفة بطريقة غير مألوفة – أن يرى الفرد ما لا يراه الآخرون، ويعتبر الإبداع أيضاً وفق علم النفس أنه طاقة عقلية هائلة مجتمعية فى انتمائها، اجتماعية فى نمائها، فطرية فى أساسها، كما يعمل الإبداع على حل المشكلات بطريقة جديدة ومتطورة كما أن الإبداع فى علم النفس حالة عقلية بشرية تعمل على إيجاد طرق وأفكار ووسائل جديدة غاية فى الجدية والتفرد والتميز، ليشكل كل ذلك مجموعة من النتاج الإنسانى الجيد، كما أنه يشكل إضافة كبيرة على أرض الواقع وفائدة حقيقية إذا كان الموضوع ذا أسلوب جديد أو تعبير جديد، وذلك عن حالة اجتماعية أو ثقافية، وإذا اتجه الموضوع إلى أن يكون فلسفياً نقدياً يشكل ذلك أسلوباً جديداً لمزج كل من الإنسانية والعواطف، وذلك إذا كان يتعلق بالنتاج الأدبى وصوره.

ومن مكونات الإبداع فى علم النفس: العمل الإبداعى العملية الإبداعية الشخص المبدع الموقف الإبداعى، ويمكن معرفة العلاقة الوثيقة بين العقل والإبداع والاتصال الوثيق بينهما، ذلك أن العقل هو مركز الإبداع، ومركز التفكير لدى الإنسان والمصنع الذى يلتقط المواد الخام من خلال الحواس المسئولة عن ذلك من سمع، بصر، تذوق، شم.كما حاول أيضا فهم نفسية المبدع فى علم النفس العام، ثم فى كتابه اكتشاف وتنمية المواهب، والحلم والرمز والأسطورة، دراسات فى حب الاستطلاع والخيال والإبداع، وهو من ناحية أخرى اختار أن يفسر عمل المبدعين بعد الإبداع، وذلك فى حقل النقد الأدبى، وكان فى ذلك لا يتأخر على أحد أبدا، ويلبى نداء الثقافة فى أى مكان داخل مصر وخارجها، وكأنه موكل بنشر الوعى، فى تواضع العارف، وحنكة الرائى الخبير، وفى ذلك تروى عنه حكايات كثيرة، ومن يتأمل حال المثقفين منذ خبر وفاته يعرف مدى ما كان يمثله شاكر عبدالحميد، فى مجال النقد الأدبى، وله فى هذا المجال مئات الدراسات النقدية فى القصة والشعر والرواية، كالتفضيل الجمالى، والسهم والشهاب: دراسات فى القصة والرواية العربية والعملية الإبداعية فى التصوير، ومجال الفن التشكيلى تحديدا كان أحد اهتمامات الراحل شاكر عبدالحميد فى وقت كان فيه نقادنا يعجزون عن قراءة لوحة، وفى وقت توارت فيه كل مجالات الثقافة الأخرى غير القصة والرواية، وتم سجن العقل المصرى فى السرد وخيالاته، وصارت ضوضاء الروائيين أعلى من كل صوت وأولى بالنقاش من كل مشكلة أخرى، وصار الروائى هو اللامنتمى بالمفهوم الفلسفى الذى صاغه كولن ويلسون، فى هذا المناخ اختار شاكر عبدالحميد أن يذهب إلى مجالات أبعد وأن يوسع من مفهوم الثقافة، أو يعيده إلى سيرته الأولى بالأحرى، فآمن بالتنوع وحاول لفت النظر إلى أن ذلك التنوع هو الأصل وما هيمنة السرد إلا مرحلة وتنقضى مثل أى «موضة» سابقة، فجاءت كتبه عن الرعب والغرابة لبنة أولى فى مشروع ثقافى كبير مثل: الفن والغرابة، والغرابة.. المفهوم وتجلياته فى الأدب، الخيال من الكهف إلى الواقع الافتراضى، الدخان واللهب.. عن الإبداع والاضطراب النفسى.

إن جمال العمل الفنى لا يكمن فى جمال موضوعه، بل يكمن فى جمال التعبير عنه، هذه المقولة التى كان د. شاكر يرددها فى كتبه، وهى بنت التراث العربى، التراث الجاحظى بالتحديد، حيث قال الجاحظ: «إن المعانى معروضة فى الطريق»، أى أن الموضوعات الأدبية والثقافية معروفة للجميع، وإنما التعويل كل التعويل على الطريقة التى صيغت بها، هذه المقولة كانت الهادى فى كل ما كتب شاكر عبدالحميد نقدا، فقد كان يذهب إلى آليات الكاتب وكيف استخدمها، كيف نجح فى توظيفها لتعبر عن موضوعه الذى اختاره، وهذا ما ألجأه عموما إلى تطبيق منهج علم النفس فى تناول الأدب، ففى مقدمته لترجمة كتاب «العبقرية والإبداع والقيادة» لدين كيث سايمنتن يقول: إن النظرة المتزامنة التى تنظر إلى الإبداع والقيادة معا هى أمر غير مألوف وتظهر هذه المقارنة أنه عندما يوجد المبدعون والقادة عند المستوى الأعلى الذى هو مستوى العبقرية، فإنه توجد أشياء متشابهة بينهم، فمثلا: ما الأسباب التى جعلتهم يحتلون هذه المنزلة المتفوقة على سواهم من البشر، هل هى الخلفية الأسرية الخاصة بهم؟ هل هو التعليم، هل هو الذكاء؟ هل هى طبيعة الأزمنة التى عاشوا فيها وهل يوجد عمل خاص يصل عنده الإبداع إلى ذروته؟

لذلك تحولت العملية النقدية إلى رؤية متكاملة تربط الإبداع والمبدع بسياقهما الاجتماعى والنفسى والزمنى، فليس هناك إبداع يدور فى الفراغ، حتى لو كان هذيان مجنون، وذلك ما شرحه فى كتاب: الدخان واللهب.. عن الإبداع والاضطراب النفسى، وقد تقمص فيه شاكر عبدالحميد دور المبدع وحاول تفسير لماذا هو نفسه يريد أن يؤلف فى هذا الموضوع، فقد جاء على لسانه: فى مقدمته للكتاب أنه لا يعرف ما الذى دفعه تحديدًا لكتابة هذا الكتاب! ويسأل نفسه: «هل كآبة ما قد اعتملت فى أعماقى بسبب بعض الظروف العامة أو الخاصة فدفعتنى إلى محاولة فهم بعض تلك الأسرار الغامضة التى قضيت حياتى محاولًا أن أفهمها دون جدوى؟ أم رغبة فقط فى أن أكون موجودًا على الحافة، أو أن أبتعد عنها، أو أن أكتفى بالنظر دون أن يُنْظَر إليّ؟ ربما كنت أحاول أيضًا أن أنظر إلى تلك الأعماق المخيفة التى تواجهنا جميعًا على أنحاء شتى، وبدرجات مختلفة، فى هذه الدنيا، كما واجهها آخرون فى أماكن أخرى وعصور أخرى، وتراوحوا بين تلك القمم الشاهقة وهذه السفوح العميقة».

ثم يجيب عن حيرته بنفسه: «ليست لدى إجابة جاهزة عن أى شيء، فقد خرجت من هذا الكتاب وعقلى مزدحم بأسئلة أكثر من تلك التى كانت تدور بداخله قبل أن أبدأ فى كتابته، وربما بجهل يفوق ما اعتقدت أننى علمته». ولأن الحيرة مرض معد، فلقد خرجت أنا الآخر أكثر حيرة من ذى قبل، وكنت راغبًا فى وضع إبهامى على العلة التى تجعل أغلب المبدعين يصيبهم الاكتئاب، وأعرف سر نزعتهم إلى الانتحار فتبين لى أن الأمر شديد التعقيد بالغ التداخل والتشابك ويصيب بالاكتئاب!

يتناول هذا الكتاب الشغف والهوس والاكتئاب من منظور تاريخى من خلال قراءات متعمقة للميثولوجيا اليونانية والرومانية، ومن خلال أقوال حكماء وفلاسفة الإغريق، وكذلك من منظور علمى رصين فهو يشكل مع سيكولوجية الإبداع فى القصة القصيرة، الطفولة والإبداع، السهم والشهاب، الأدب والجنون، الفن والغرابة، الغرابة.. المفهوم وتجلياته فى الأدب، الحلم والكيمياء والكتابة» موسوعة علمية قيمة تضم دراسات نفسية وأدبية لا نظير لها فى تناول المعاناة والهوس والاكتئاب والحزن الأبدى والجنون والفصام، وعلاقة كل هذه الأمراض النفسية بالإبداع والمبدعين.!

إن منطقة الإبداع وعلم النفس ظلت مساحة عمياء فى الثقافة المصرية، فصحيح أن لدينا علماء نفس كبارا مثل مصطفى سويف، ومصطفى زيور، ومصطفى صفوان، ألفوا فى مجالهم وكانوا كبارا فيه، وترجموا كل أدبيات ذلك العلم أولا بأول، لكن ارتباط العمل الإبداعى بعلم النفس لم يلق الاهتمام اللائق به، حتى وضعه د. شاكر عبدالحميد على أولوية اهتماماته وأنجز فيه ما أنجز، بل إنه مد الحبل إلى آخره بتأليفه فى مجال الغرابة أو الرعب، وكثير منا كان ولا يزال يسأل نفسه لماذا يقبل الناس على أفلام الرعب والخيال العلمى كبارا وصغارا، بل إن الأمر وصل عند بعض الأطفال إلى حد الأدمان، ويأتى تفسير د. شاكر فى كتاب كامل بعنوان: «الغرابة.. المفهوم وتجلياته فى الأدب»، حيث جوهر الغرابة يكمن فى تلك العلاقة التى توجد بين الموت والحياة.. وهكذا تجسد الغرابة ذلك الموت الموجود فى الحياة، كذلك تلك الحياة التى فى الموت، ذلك التردد بين الموت والحياة كما تمثلها فكرة الأشباح مثلا.

بقى أن شاكر عبدالحميد، لم يغفل وهو دارس علم النفس والمقترب من النفس البشرية، لم يغفل الإرهاب والإرهابى، باعتبار الميل إلى العنف عملية نفسية، تنبع من شعور ناقص بالتحقق والإشباع فأسهم فى ذلك بدراستين مهمتين هما: بيولوجيا السلوك الدينى.. الجذور التطورية للإيمان والدين، والتفسير النفسى للتطرف والإرهاب وهو أيضا مجال يحجم الكثيرون عن الخوض فيه، فليس لدينا اهتمام بما يسمى علم الاجتماع السياسى، أو علم النفس السياسى، وهى علوم مفيدة وناجعة فى تحليل معضلات الدول التى تعانى شرور الإرهاب.

عمل شاكر عبدالحميد إذن تركز على ثلاثة محاور، المحور الوظيفى وصولا لموقع وزير الثقافة التى تولاها فى 7 ديسمبر 2011 فى حكومة كمال الجنزورى، ومحور العطاء الفكرى وإنتاج الأفكار والتصورات، جلب مجالات علمية تكاد تكون مجهولة وزرعها فى الثقافة العربية مثل دراسات الغرابة وعلم نفس الإبداع، وكذلك عطاؤه فى مجال النقد الأدبى، ثم المحور الثالث وهو العطاء الإنسانى والواجبات الاجتماعية، وهو فى ذلك من السباقين.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق