رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الزيادة السكانية من زاوية المحددات.. عمل المرأة والأمان الاقتصادى

حسين سليمان

إن إسهام المرأة فى سوق العمل قد أخذ فى التراجع سريعا منذ عام 2016، بالتزامن مع تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي. فقد تراجع عدد النساء فى قوة العمل من 7 ملايين فى عام 2016، وصولا إلى 5.1 مليون فقط بنهاية عام 2019

تمثل القوى البشرية، خاصة الشابة فى سن العمل، مقوما أساسيا للتنمية والتحديث. لكن فى الوقت نفسه، فإن محدودية الموارد، خاصة الطبيعية، تجعل من الزيادة السكانية المستمرة إشكالية رئيسية تواجه العديد من بلدان العالم النامى إلى اليوم، وبصورة خاصة البلدان محدودة المياه والأرض الصالحة للزراعة، كما هو الحال فى مصر وبلدان الشرق الأوسط بصورة عامة. وفى حين كانت مصر من أولى البلدان النامية التى أطلقت برامج لتنظيم الأسرة والسيطرة على الزيادة السكانية، فى أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، إلا أن هذه الجهود قد واجهت تذبذباً فى نتائجها منذ ذلك الحين، فى صورة تحولات متواترة ما بين تراجع وصعود فى معدلات الخصوبة ونمو السكان.

وفى الوقت الحالي، فإن معدل نمو السكان السنوى المصرى هو ضعف المعدل العالمي، وكذلك معدل بلدان الدخل المتوسط التى تنتمى مصر إليها، وذلك نظرا لمعاودته الصعود بدءا من عقد الألفينيات، بعد تراجع مستمر منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي. وبالتالي، قد يدفع هذا النمو السريع إجمالى عدد السكان فى مصر إلى 160 مليون نسمة، أو أكثر، بحلول عام 2050، وفقا لتقديرات الأمم المتحدة. وفى حين تولى أجهزة الدولة اهتماما واضحا بقضية الزيادة السكانية، فإن استمرار معدلات النمو السكانى المرتفعة، قد يستدعى تحولا فى السياسات العامة الموجهة صوب هذه القضية، من خلال الاسترشاد بالمنهجية العلمية المكرسة، لتفسير دوافع النمو السكانى السريع، على مستوى الفرد والأسرة، عوضا عن تطبيق برامج أو تمرير قوانين لا تخاطب محددات الخصوبة المرتفعة والزيادة السكنية فى مصر.

وتشير النظريات والدراسات التطبيقية، إلى وجود عدد من المحددات التى قد صار أغلبها معروفا لصناع القرار والمهتمين حول العالم، وفى مقدمتها دور التعليم ونشر الوعي، ومدى توافر وسائل تنظيم الأسرة وإتاحتها، خاصة للشرائح الأكثر فقرا، وكذلك عوامل ثقافية، تضم شيوع وتأثير الأفكار والتفسيرات الدينية الرافضة لتحديد الإنجاب. وبالإضافة لهذه المحددات المألوفة وغيرها، فإن هنالك محددات أخرى قد تكون أكثر أهمية وتأثيرا على معدلات الخصوبة والنمو السكاني، خاصة فى مصر، وإن كانت لا تحظى بالتغطية الملائمة، وبالتالى قد لا تحظى بأولوية ضمن حزمة السياسات الموجهة لقضية الزيادة السكانية. وفى مقدمة هذه المحددات يأتى عمل المرأة، خاصة لما طرأ عليه فى مصر من تحولات خلال الأعوام الأخيرة، بالإضافة إلى الأمان الاقتصادي، خاصة لدى شرائح الدخل المحدود.

عمل المرأة

من الناحية النظرية، فإن واحدا من العوامل البارزة المؤثرة فى معدل الخصوبة، أى عدد الأطفال للمرأة الواحدة، هو عمل المرأة. يتبلور ذلك فى صورة تأثير عمل المرأة على قرارات الإنجاب، من خلال ميل المرأة العاملة لإنجاب عدد أقل من الأطفال، مقارنة بالمرأة غير العاملة. ويرجع ذلك إلى أن المرأة العاملة غالبا ما تؤخر سن الزواج والإنجاب، بالمقارنة بالمرأة غير العاملة، بسبب سعيها للحصول على عمل وبدء حياتها المهنية، بما يقلل من عدد سنوات الخصوبة المتاحة وبالتالى عدد الأطفال المحتمل. كذلك تنجب المرأة العاملة عددا أقل من الأطفال فى المتوسط، بسبب تكلفة الفرصة البديلة للإنجاب فى حالة العمل، فى صورة خسارة الدخل وفرص الترقى المهني، فى أثناء فترات الحمل ورعاية الأطفال؛ وبالإضافة لذلك، فإن عمل المرأة وحصولها على دخل مستقل يعزز من قرارها داخل الأسرة، وبالتالى من قدرتها على اختيار عدد الأطفال المناسب بالمشاركة مع الرجل.

وبالتالي، قد تُسهم العلاقة بين عمل المرأة ومعدلات الخصوبة فى تفسير النمو السكانى السريع فى مصر. وتعد نسبة إسهام المرأة فى قوة العمل فى مصر، أى نسبة من يعملن أو يبحثن عن عمل إلى إجمالى نسبة من هن فى سن العمل، من النسب المتدنية عالميا، والتى بلغت 24.2% فقط فى عام 2016، مقارنة بمتوسط عالمى بلغ 47.5% فى ذلك الوقت. وما يثير القلق فى هذا الشأن، أن إسهام المرأة فى سوق العمل قد أخذ فى التراجع سريعا منذ عام 2016، بالتزامن مع تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي. فقد تراجع عدد النساء فى قوة العمل من 7 ملايين فى عام 2016، وصولا إلى 5.1 مليون فقط بنهاية عام 2019، أى أن مليونى امرأة تقريبا قد خرجن من قوة العمل خلال هذه الفترة القصيرة، بما خفّض من نسبة إسهام المرأة فى قوة العمل إلى 17.2% فقط بنهاية عام 2019. وتزامن ذلك مع تراجع إجمالى عدد المشتغلات من 5.3 مليون امرأة فى عام 2016، إلى 4 ملايين امرأة فقط مع نهاية عام 2019، أى أن 1.3 مليون امرأة تقريبا قد خسرن عملهن فى هذه الفترة، وذلك رغم التراجع فى معدل البطالة خلال هذه السنوات، والذى كان احد أسبابه خروج من خسرن عملهن من قوة العمل تماما، أى توقفهن عن البحث عن عمل، وهو ما يخرجهن من حسابات معدل البطالة، دون أن يعكس زيادة فى التشغيل، وذلك وفقا للحسابات من بيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، والبنك المركزي.

وبالإضافة إلى تأثير عمل المرأة على النمو السكاني، هنالك أدلة على تأثيره الإيجابى كذلك على إنفاق الأسر على تعليم وصحة وتغذية الأطفال، وكذلك على معدلات الادخار، والتنافسية والإنتاجية فى سوق العمل المحلية، وهى جميعها تداعيات تستلزم تفسير ومعالجة هذا التراجع المقلق فى عمل المرأة فى مصر. ويشير واحد من التفسيرات البارزة فى هذا السياق، المبنية على دراسات سوق العمل، إلى دور تراجع التوظيف الحكومى فى مصر بصورة حادة خلال برنامج الإصلاح الاقتصادي، وخلال العقود الأخيرة كذلك، وإن كان بوتيرة أبطأ. ويلعب التوظيف الحكومى دورا قويا فى عمل المرأة بالذات، فى مصر والشرق الأوسط بصفة عامة، نظرا لتفضيل المرأة فى المنطقة له، لما يوفره من مميزات فى عدد ساعات العمل والرواتب مقارنة بالقطاع الخاص، والأمان الوظيفى من خلال عقود طويلة الأجل، بالإضافة إلى التأمينات وإجازات الأمومة المدفوعة، وظروف العمل الآمنة نسبيا. ولهذا تفضل المرأة فى مصر والمنطقة القطاع الحكومى على القطاع الخاص الرسمي، فى حين تتجنب القطاع غير الرسمى بصورة قوية، نظرا لظروف العمل به التى تعدها غير ملائمة. ويسهم هذا التحليل فى تفسير كون التحسن فى مؤشرات تعليم الفتيات فى مصر خلال العقود الأخيرة، لم يؤد إلى تراجع النمو السكانى على عكس المتوقع، وذلك لأن زيادة تعليم الفتيات لم تُترجم إلى زيادة انخراطهن فى قوة العمل.

وكان عدد الموظفين فى القطاع الحكومى قد انخفض بـمقدار 750 ألف موظف بين عامى 2015/2016، و2016/2017 أى بنسبة 13% تقريبا خلال عام واحد من تطبيق برنامج الإصلاح، وهى أحدث بيانات رسمية. ومن المرجح أن يكون الانخفاض قد استمر خلال الأعوام التالية أيضاً. وتزامن ذلك الانخفاض مع عجز القطاع الخاص الرسمي، عن خلق عدد كافٍ من الوظائف الملائمة، كى تحل محل التوظيف الحكومي، فى حين تصاعد العمل غير الرسمى كبديل أساسى فى سوق العمل، وهى العوامل التى أسهمت فى الغالب فى التراجع السريع فى عمل المرأة فى مصر خلال الأعوام الأخيرة، والتى تضطر للتوقف عن البحث عن عمل بسبب قلة الفرص الملائمة.

وكان التراجع المستمر لدور التوظيف الحكومى خلال العقود الأخيرة، قد أسهم فى المشاركة المنخفضة للمرأة فى قوة العمل فى مصر، حتى قبل برنامج الإصلاح. فقد كانت القطاعات الحكومية توظف 15% من إجمالى الأفراد فى سن العمل فى عام 2004، وقت تطبيق حزمة إصلاحات اقتصادية أيضا، وهى النسبة التى انخفضت تدريجيا إلى 13% فى عام 2010، وصولا إلى أقل من 10% فى عام 2017.

وفى حين قد يستنتج البعض أن سبيل معالجة هذا التراجع فى عمل المرأة فى مصر، ضمن جهود السيطرة على الزيادة السكانية، هو زيادة التوظيف الحكومى مرة أخرى، فإن هذا الخيار قد لا يكون مناسبا، نظرا للإنتاجية والكفاءة المحدودة للتوظيف الحكومى فى المتوسط، خاصة فى الجهاز الإدارى المتضخم. ولكن قد يكون الحل هو السعى لتحفيز القطاع الخاص الرسمى على النمو لخلق المزيد من الوظائف، من خلال سياسات تضم الإصلاحات المؤسسية، وتحسين بيئة ممارسة الأعمال، وضمان المنافسة الحرة، خاصة فى مواجهة الكيانات الاقتصادية التابعة للدولة، وذلك بالتزامن مع تدخل الدولة لتحسين ظروف العمل فى القطاع الخاص من ناحية أخرى، كى يكون أكثر جذبا للمرأة فى مصر، وذلك من خلال إقرار حد أدنى للأجور فى القطاع الخاص، وتنظيم عدد ساعات العمل، والتشديد على اشتراطات التعاقدات الرسمية والتأمينات وامتيازات الأمومة، وغيرها من ظروف العمل التى تجذب المرأة للعمل الحكومي.

الأمان الاقتصادي

يرتبط الفقر كذلك بشكل قوى بمعدلات الخصوبة المرتفعة، من خلال ميل الأسر الفقيرة لأن تضم عددا أكبر من الأطفال فى المتوسط. وفى حين توجد مساحة للسببية العكسية، أى كون عدد الأطفال الكبير قد يعزز من فقر الأسرة، إلا أن الجانب الآخر من العلاقة حاضر بقوة، من خلال اختيار الأسر الفقيرة، بشكل واعٍ، إنجاب عدد أكبر من الأطفال. وفى مصر، تشير بيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، إلى العلاقة بين الفقر وعدد أفراد الأسرة بوضوح. ففى عام 2017/2018، كان 7% فقط من الأفراد الذين يعيشون فى أسر بها أقل من 4 أفراد فقراء، بينما ترتفع هذه النسبة إلى 49.3% من الأفراد فى أسر عدد أفرادها بين 6 و7، وتصل إلى نسبة فقر 75.8% ممن يعيشون فى أسرة بها أكثر من 10 أفراد.

وتكتسب العلاقة بين الفقر والنمو السكانى أهمية خاصة فى مصر، نظرا للزيادة المستمرة لمعدل الفقر فى مصر على مدى العقدين الماضيين، من16.7% من إجمالى السكان فى عام 1999/2000، وصولا إلى 27.8% فى عام 2015، قبل أن يقفز إلى 32.5% فى عام 2017/2018، ثم يتراجع إلى 29.7% فى عام 2019، وفقا للجهاز المركزى للتعبئة العامة، مع توقعات بمعاودته الارتفاع خلال عام 2020 بسبب التأثير الاقتصادى لأزمة كوفيد-19. وبالتالي، ووفقا لهذا التفسير، فإن زيادة الفقر فى مصر خلال العقدين الماضيين، قد أسهم بدوره فى زيادة النمو السكانى خلال الفترة نفسها، عنه فى التسعينيات وأواخر الثمانينيات من القرن الماضي.

وتقليديا، كان التفسير النظرى لهذه العلاقة بين الفقر ومعدلات الخصوبة المرتفعة، هو رغبة الأبوين فى الأسر الفقيرة فى إنجاب عدد كبير من الأطفال، كى يساعدوهم فى تدبير نفقات الحياة، من خلال دفعهم إلى العمل منذ سن صغيرة، وبالتالى فإن سبيل السيطرة على النمو السكانى هنا، هو توفير فرص عمل وزيادة دخل هذه الأسر ومستوى معيشتهم، أى التنمية. لكن تكمن الأزمة هنا فى الحلقة المفرغة التى تنشأ عن هذا التفسير. فمن ناحية، تقف الزيادة السكانية عقبة أمام التنمية. ومن ناحية أخرى، فإن التنمية هى الحل للسيطرة على الزيادة السكانية.

ولكن مؤخرا، واعتمادا على دراسات ميدانية لسنوات طويلة فى عدد من البلدان النامية، خرج تفسير آخر محتمل للعلاقة بين الفقر ومعدلات الخصوبة المرتفعة. ووفقا لذلك، يرغب الأبوان فى الأسر الفقيرة فى إنجاب عدد كبير من الأطفال، كى يزيدوا من احتمالية أن يساعدهم أو يعولهم أحدهم، عند تقدمهم فى السن وتوقفهم عن العمل. وفى حين قد يبدو التفسيران متشابهين لأول وهلة، إلا أن الاختلاف البسيط بينهما يؤدى إلى نتائج مختلفة، ويطرح بالتالى سياسات مختلفة أيضا. فإذا كان القرار الواعى لدى الأبوين من الفقراء فى إنجاب عدد كبير من الأطفال، هو رغبة فى تحقيق قدر من الأمان الاقتصادى عند التوقف عن العمل، وليس فى أثنائه، فإن المخرج من الحلقة المفرغة بين الفقر والزيادة السكانية والتنمية، قد يكون فى أن تضمن الدولة هذا الأمان الاقتصادى لكل مواطن يبلغ سن التقاعد، بما يقلل من حاجة الأسرة الفقيرة لرهن الأمان الاقتصادى عند التقاعد بعدد أكبر من الأبناء.

ومن الضرورى اختبار هذه الفرضية بشكل منهجى داخل مصر، اعتمادا على قواعد البيانات الحكومية التى تضم عدد الأطفال لدى الأسر، وربطها بوجود معاشات أو دخل ثابت عند التقاعد من عدمه. وقد ينتج عن هذه الفرضية إذا أثبتت واقعيتها داخل مصر، أن تدرس الدولة كجزء من سياساتها لمواجهة الزيادة السكانية، ضمان معاش ملائم وثابت لكل المواطنين عند بلوغهم سن التقاعد، بما يشمل الفئات غير المُؤمَّن عليها، والتى لا تستوفى شروط الاشتراك فى منظومة المعاشات القائمة، مع ربط هذا المعاش بمعدل التضخم دون حد أقصى، لضمان ألا يفقد قيمته الشرائية، وبالتالى دوره فى القضية السكانية. وفى الوقت الحالي، قد لا يمثل ضمان هذا المعاش لغير المُؤمَّن عليهم حاليا، عبئا إضافيا كبيرا، خاصة مع الهيكل الشاب للسكان فى مصر، بوجود 4% فقط من السكان فوق سن التقاعد. والأهم من ذلك، أن التكلفة الإضافية لمثل هذا الإجراء قد تتضاءل مقارنة بإسهامه المحتمل فى معالجة إشكالية الزيادة السكانية فى مصر، إذا ثبتت صحة الفرضية المشار إليها.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق