أنا سيدة تعديت سن الأربعين، وقد بدأت حكايتى منذ اثنين وعشرين عاما، عندما كنت طالبة بالجامعة، حيث تقدم لى محام شاب، وتحرى أهلى عنه، وعرفوا أن به مميزات كثيرة، منها أنه حافظ لكتاب الله، وعلى خلق ويتمتع بسيرة طيبة هو وأهله، وحنون لأقصى درجة، ومعتدل الإنفاق إذا توافر معه المال، وتزوجنا، وأقمنا فى قريتنا الصغيرة، وعمل بشكل متقطع لأن بالقرية أكثر من محام، وكانت المشكلة التى تسببت فى متاعبنا الكبيرة أنه لم يسع إلى تطوير نفسه فى مجال عمله، أو يلتحق بعمل إضافى يساعدنا فى توفير متطلبات المعيشة، وكان يترك البيت بلا مصاريف لأيام عديدة.. نسيت أن أقول لك إنه قبل أن يعمل محاميا، ظل عاطلا لمدة عامين لم يستطع خلالهما توفير ثمن الخبز، وكان يتركنى من الصباح إلى المساء بلا طعام ولا شراب، ويذهب إلى أخته أو أمه، فيجلس عندها، لكى يهرب من تقصيره ناحيتي، وعندما تزوجنا لم يوفر لنا مسكنا آدميا، فعشنا فى غرفة وصالة ليس بهما دورة مياه، واستخدمنا حمام «بيت جده» المهدوم نصفه، ومع ذلك لم أثر عليه، ولم أغضب ولم أطالبه بشىء، وصبرت وتحمّلت، وأنجبت طفلا وراء آخر، وظللت على موقفى المساند له، وبرغم أنه يملك أرضا زراعية آلت إليه بالميراث، لم أطالبه ببيعها، بل شجعته على الاحتفاظ بها.
وبمرور الوقت حصلنا على قرض من أحد البنوك، وبنينا شقة من غرفتين وصالة ومطبخ وحمام بأبسط الإمكانيات، واكتفينا بأن تكون الحوائط أسمنتية والأرضية كذلك، وكانت هذه الشقة البسيطة جدا تبدو لى قصرا، ولكن للأسف أحاطتنا الديون من كل اتجاه، فحاولت بأقصى جهدى أن أعمل لمساعدته، وتخبطت فى أكثر من عمل، وتحمّلت المتاعب، ولكن مع كبر الأبناء، ومجيء الطفل الثالث زادت المصاريف، وساءت حالتنا المادية لدرجة أن كثيرين من باعة الخضار والبقالة رفضوا أن يعطونا ما نحتاجه لأننا نماطل فى السداد، وكان يرفض أن يذهب للشراء منهم برغم أنهم أقاربه، ويعلم أنهم سيعطوه ما يريد، لكنه أراد أن يبعد نفسه، ويتركنى أواجه الحرج وحدى، ولا يحفظ ماء وجهى، وعندما يحل موعد سداد الديون وفقا للمواعيد التى اتفقت معهم عليها، يرد علىّ بأنه لا شأن له بها، مما دفعنى إلى السرقة منه حتى أسدد ثمن الخضار الذى اشتريته بالأجل، وبلغ بى الأمر إلى حد سرقة بعض الأشياء من محال البقالة، كلما أتيحت لى الفرصة حتى أطعم أبنائى!.. كل هذا وأنا أتحمّل المعيشة الصعبة فى صمت، وأحاول التخفيف عنه والعيش فى هدوء لكى لا تتأثر نفسية أبنائى، وما أكثر الأوقات التى لم يستطع فيها توفير ثمن دروس أبنائنا وتعليمهم، وكان يقول لى: «أجيب منين.. يقعدوا ما يرحوش دروس».
ومنذ أربع سنوات وضعت ابنى الرابع، ولم أتحمّل أكثر من ذلك، فقررت السفر إلى الخارج، وذهبت لإجراء مقابلة مع مسئول من الجهة التى سأسافر إليها، ولم يأت زوجى معى فى أثناء المقابلة، وتركنى وحدى، ولا أعلم كيف سأسافر وأعيش هناك بمفردى.. والغريب أنه يقول دائما: «أنا بسيبك تواجهى الدنيا لوحدك علشان تتعلمى، ولمّا أموت تكونى على دراية بأمور الدنيا»!.. تخيّل ـ يا سيدى ـ أنه لم يذهب معى يوما إلى طبيب سواء لى أو لأبنائى، وحتى بعد حصولى على الموافقة على السفر لم يوفر ثمن تذكرة الطائرة، وتركنى أستند على غيره!..
وفكرت أن أشترك فى مشروع مع صديقتي، وعرضته عليه فرفض، وبالطبع فشل المشروع، وتعرضت للنصب من زوجها، لكنه تركنى أدافع عن حقى بمفردى، وأقسم يمينا بالطلاق أنه لن يتدخل.. ووجدتنى أطرح على نفسى سؤالا، ولم أجد له إجابة: هل يعقل أن يترك رجلا زوجته حتى لو أخطأت للأغراب يدوسون على أنفاسها، وهى تطالب بحقها؟.. إننى لم أره سندا لى فى أى يوم، ولا أى موقف.. أما عن النكد الذى يسببه فى البيت ليلا ونهارا، فحدث ولا حرج، وعندما تحدث معه أخى فى وضعى وظروفى، ردّ بإجابة غريبة بعيدة كل البعد عن حقيقته المرة، حيث قال له: «أختك أنا مش قادر عليها، ماشيه بدماغها»، مما جعل أخى الأصغر منى يضربنى أمامه، ولم يبال بذلك!.
منذ تلك اللحظة انفجر كل شىء بداخلى، وبحثت كثيرا عن موقف كان فيه سندا لى فلم أجده، فلقد تركنى أواجه الدنيا بمفردى، وأتعلم فيها كيف تمضى الحياة، حتى لو أخطأت أحيانا، ولم يدرك أنه بذلك يعلمنى أن أعتمد على نفسى، وأستغنى عنه، والأكثر غرابة أنه طالبنى بأن أشترى له سيارة، فمن أين لى بثمنها، وكل أثقال الحياة على عاتقى من تعليم وأقساط ومصاريف بيت، وغيرها؟.. لقد تعوّد على ذلك وإن لم أمتثل لما يطلبه يعطينى»الوش النكد»، فلا يفكر إلا فى نفسه، وأذكر أننى حكيت له أن مديرى فى العمل يراودنى عن نفسى، ويضغط علىّ فى «الشغل» وقلّل راتبى حتى أخضع له، فما كان منه إلا أن قال لى: «استحملى إنت كل شغلانة حتعملى فيها مشاكل وتسبيها».. هذا هو الرجل الذى كان من المفروض أن يتحمّل مسئولية بيته، وقد تركنى بمفردى أتجرع «أوجاع الغربة» ومرارتها، وسوف يظل بلا طموح، وهو من النوع الذى «يتكل» على غيره، فهو لا يتعب نفسه ولا يتنازل عن «برستيجه»، ولا يبذل جهدا فى توفير حياة كريمة متوسطة لأبنائه، وترك لى هذه المهمة الثقيلة، ولا أظنه سيتغيّر.. فهل قرار الانفصال عنه من حقى الآن، أم أن علىّ أن أتحمل هذا الوضع إلى ما لا نهاية؟.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
لو أنك وضعت النقاط على الحروف منذ تقدمه لخطبتك، ولو أن أهلك اتفقوا معه على الأسس التى سيبنى عليها حياته الزوجية، ونمط الحياة التى سيحياها، وعمله، ومصدر دخله، وكل ما يتعلق بالثوابت المعروفة عند الزواج.. أقول لو أنكم فعلتم ذلك، لما وصلت إلى هذا الوضع الغريب الذى أنت عليه الآن، فزوجك ليس لديه أى إحساس بالمسئولية، ولا يشعر بالغيرة، ويعيش حالة «لا مبالاة»، وكان طبيعيا أن يحس بالراحة لخروجك إلى العمل وقيامك بكل شئون المنزل، وعندما وجد المال بيده، تكاسل عن العمل، ولمّا وجدك تؤدين جميع المهام، وأنت راضية، صار «اتكاليا»، وهكذا صنعت «هذه الشخصية» بيدك دون أن تشعرى بذلك.
وساهم فى هذا الوضع المعكوس، ضعف شخصية زوجك وتراخيه أمامك، فمن الواضح أنه لم يتعود على اتخاذ أى قرار ربما بسبب نشأته السلبية، فالاتكالية صفة مكتسبة فيه، ويكمن الخطر فى استمرار قيام الزوجة بواجبات الزوج حتى وإن كانت كارهة، فبطريقتها تكتسب صفات الذكر فى التعامل وتتخلى عن صفات الأنوثة، وحتى تنضبط أمور الحياة الزوجية لابد أن يقوم الزوج بدوره، فى الإنفاق وإدارة المنزل وتولى كل شئونه .. أيضا تتجلى صور «الاتكالية» فى عدة ممارسات من أبرزها عدم الاهتمام بشئون المنزل، والاعتماد على راتب الزوجة، وعدم الصرف على مستلزمات الأسرة والأبناء وعدم المشاركة فى التربية، والأسوأ من هذا كله عندما تصل «الاتكالية» إلى حد ترك العمل والجلوس فى البيت والاعتماد على راتب الزوجة.
لقد تغاضيت عن عيوبه الظاهرة، وتجاهلت أن أفضل حل هو المصارحة، وتوزيع المسئوليات بينكما، وأن تخبريه بصراحة أنك لا تستطيعين القيام بكل المهام، ولا الجمع بين أعباء المنزل والعمل، وأخطأت فى مسألة الديون وسرقة البضاعة من المحلات، وكان الواجب عليك أن تضعيه أمام مسئوليته، حتى لو تركت المنزل، وذهبت إلى أهلك من باب التقاط الأنفاس.. إنك لو فعلت ذلك، لأدرك خطأه، لكنك واصلت الصمت، فتمادى فى أفعاله، و«اتكاله» عليك خصوصا عندما وجدك تتصرفين فى كل الأمور بعيدا عنه، غير مبال بما قد تتعرضين له من مخاطر، مثل المتاعب التى تواجهينها فى عملك، ومراودة رئيسك فى العمل لك عن نفسك، ومتجاهلا أن لكل إنسان طاقة قد تنفد وينهار فى أى لحظة.
لقد حان الوقت لأن ترسمى الحدود وتوزعى المسئوليات والمهام، وتكونى حازمة وجادة فى طلبك «تغيير» أسلوب حياته ومواقفه كزوج وأب ومسئول عن أسرة، وبالطبع لن يتحقق «التغيير المنشود» بسهولة ودون مقاومة أو أعذار منه وعليك أن تتحلى بالصبر والإرادة للوصول إلى هذه الغاية.
وليعلم زوجك أن القوامة ليست أن يزجرك أو يأمرك أو ينهاك، بل أن يقوم بشئونك، وعليك من الآن أن تطلبى منه القيام بواجباته نحو الأسرة، ولا تخشى خصامه، فالعلاقة الزوجية الصحيحة تقوم على الصدق والصراحة والوضوح، فهى شركة بين شخصين من المفترض أن تستمر مدى الحياة، وتهدف إلى تحقيق غايات ضرورية للإنسان كإنجاب الأطفال والعمل على تربيتهم تربية صالحة تعود بالنفع عليهم وعلى المجتمع، وكذلك السكينة والطمأنينة والإشباع العاطفى وتلبية الاحتياجات الجسمية والعقلية لكلا الزوجين، ومن ثم فإن أى خطر يطرأ على بناء الأسرة، يهدد هذه الغايات مجتمعة.
ولابد من وقفة جادة مع زوجك، بوجود أهلك وأهله لتتخذا قرارا بالنسبة لمستقبلكما معا، وعليه أن يعرف أن «اتكاليته» ستؤدى يوما ما إلى تخريب علاقتكما الزوجية، وإيصالها إلى طريق مسدود، فهى عدو للسعادة وتحقيق الذات، كما يجب أن يبنى ويعزز قيمته الذاتية وثقته بنفسه، وأن يبحث عن طرق لوقف الضغط والاعتماد الكامل عليك.
وينبغى أن تتوقفى عن الاستجابة لطلباته المغالى فيها، أو القيام بمهمة ما بدلا منه، فتكرار الرفض بأسلوب مهذب يجعله يعتمد على نفسه، والغريب أنه اعتمد هذا الأسلوب طريقا فى التعامل معك، وبالفعل تغيّرت شخصيتك، وأصبحت قادرة على إدارة دفة أمورك، وحان الوقت لكى يسلك هو الطريق نفسه، ولذلك تجنبى أن تتعاملى معه بعواطفك، فمسئولية الأسرة تقع على عاتقه فى المقام الأول، وتبقى ضرورة المواجهة الصريحة الكاشفة بحيث يتخلص من عيوبه.
إننى دائما من أنصار «كتمان أسرار البيوت» حتى الأهل عندما تكون الخلافات طفيفة وبسيطة باعتبار أن جميع البيوت فيها خلافات، ولكن حينما تكون الخلافات كبيرة وعميقة فلابد من التدخل بقوة وحكمة، حتى لا يتصرف أحد الزوجين تصرفا يندم عليه الأهل لاحقا ثم يقولون: «ليتنا عرفنا المشكلة من بداياتها ووضعنا حلولا لها».. إذن لابد من وجود الحكماء من الأسرتين ، وليس شرطا الوالدين، فربما كان والد الزوجة متوفى، وإخوتها أصغر منها، فهنا يتدخل عمها وأصحاب الحكمة، وكذلك الزوج فربما كان والده كبيرا ومريضا أو متوفيا فهنا يتدخل الأخ الأكبر أو الأصغر إذا كان حكيما، مع مراعاة أن الصدق والعدل فى التقريب بين الزوجين سبب للبركة فى الإصلاح، لقوله تعالى: «وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى» (الأنعام 152) بمعنى عدم التعاطف مع أى منهما بغير وجه حق.
هذه هى القاعدة العامة، ولكن إذا فشلت كل محاولات إصلاح زوجك بحيث يتحمّل مسئوليته كاملة، فلا مفر من الطلاق، ووقتها لابد أن يكون «طلاقا ناجحا» بمعنى أن ترافقه خطة مناسبة خاصة فيما يتعلق بتربية الأبناء، والله المستعان.
رابط دائم: