رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

قلب سقراط

محمد على;

خطى سقراط خطوتين من باب غرفته حتى الطرف الأيسر من فراشه وانهار هناك. مر كل شيء بسرعة أمام عينيه وكأنما يودع الجماد قبل الأحياء. المكتبة الغناء، وجهاز الراديو، والمكتب، والكمبيوتر، وخزانة الملابس، والثلاجة الصغيرة، مقعد صديقه عيروض المفضل، الجنى الطيب. أين هو الآن ؟. يجمع أطراف حكاية جديدة وسيأتى حتما ليلهج بها فى دقائق قبل أن يسردها صديقه وسيده بلغة يفهمها البشر، فلغتهما الخاصة خليط من الإشارات بالأصابع، والإيماءات بالرأس، والغمز بالعيون. ولكنهما لم يفقدا القدرة على التواصل أبدا برغم انتمائهما إلى عالمين متناقضين. وبمجرد دخول الزوجة، يفر صاحبنا قبل أن تبدأ موشحاتها المعتادة عن غلو الأسعار، وجشع التجار، وتضييع وقت الكاتب فيما لا يفيد. ليته يعمل سائق أوبر،أو يربى قطيعا من الماعز الدمياطى الذى يعشقه بدلا من الرطرطة، والطنطنة، ورص العبارات بلا عائد مادي، أو مجد معنوي. لطول مراقبته لها، وإشفاقه على رفيق الدرب منها، أطلق عليها اسم زوجة سقراط اللعينة. هل يسعفه الوقت بوداعه ؟. مرت من قبل، فماذا يمنع.

ولكنها النهاية هذه المرة بلا ريب، فليس منطقيا أن يمر بكل هذه النوبات ويبقى آمنا. سبع أزمات أو ثمانى بعضها استغرق دقيقتين وأطولها زمنا امتد لنحو عشرين دقيقة. توقيتها واحد وإن تباعدت زمنيا، من بعد أذان الفجر حتى السابعة صباحا. جسمه ثقيل هذه المرة أكثر من ذى قبل، ويتنفس بصعوبة محدثا صوت حشرجة، مع ألم فى الصدر مصدره عضلة القلب. أوثق أحدهم ذلك العضو العزيز إلى نفسه بحبال من حديد وبدأ فى الشد بقوة إلى أسفل. يعجز عن الكلام، ويحس بالبرد، مع تنميل مستمر فى الذراع الأيمن، بينما تتصبب جبهته وعنقه بالعرق. يشير فى كل اتجاه: مكيف الهواء، خزانة الملابس، زجاجة ماء الشرب، درج حفظ الأدوية. تقف على بعد مترين بالتقريب وتحدق فيه (ماذا عساه يريد يا ترى فى هذه الساعة ؟). أمر منطقى تماما، فقد عاد لتوه حافيا من رحلة شاقة بدأت عند منتصف الممر المؤدى من صالة الشقة إلى غرف النوم، مفضلا العودة إلى مهجعه بدلا من استكمال الرحلة،وقد أدرك كذب الإنذار. لا لم يكن كابوسا مفزعا عليه أن يستنقذ أمه منه.

يدخل ابن سقراط إلى الغرفة بمحض الصدفة ويندهش إزاء مفردات المشهد فى أول النهار. إنها السادسة والنصف صباحا ويجب ألا نزعج النائمين. جنتلمان منذ نشأته. يدرك جزئيا ويتجاوب بحذر عارضا تقديم العون بعد أن رأى أمه جامدة فى مكانها كالتمثال ولم يعد يرتجى منها شيء. تمثال إيزيس وقد انتصبت واقفة وهى تفكر بعمق فى إجراءات التحنيط، وأجر كاهن المعبد، وضيافة فريق الناحبات، وغداء المعزين القادمين من الأرياف. لم يصل راتب الزوج بعد، وتآكلت مدخرات الأسرة بالكامل تحت وطأة الدروس الخصوصية، واشتراك حصص الأون لاين، ومستحضرات التعقيم وأقنعة الوجه القميئة، وقسط السيارة. حيرة، سريعا ما تتحول إلى فضيحة اجتماعية ما لم يفلت من الموت كالمعتاد. يمسك سقراط بتلابيب ملابس ابنه وكأنما يستغيث به. زاد وقع السكاكين فى صدره من حدة الألم وكميات العرق. «لا تنس الفسيخ والرنجة فى طريق عودتك. أربعة كيلوجرامات من الفسيخ الممتاز، وثلاثة من الرنجة لدى الفسخانى المشهور فى بولاق. لدينا مناسبة عزيزة اليوم». أخيرا نطقت وحلت عقدة لسانها. تنبهت مرحليا، أما سقراط، فمازال عاجزا عن النطق.

> الابن: أوقفت المكيف يا أبي. ماذا تتعاطى فى الصباح الباكر ؟. أى علبة ؟. باللون البنى أم العلبة البيضاء ؟. إليك زجاجة الماء.

> الزوجة موجهة حديثها إلى الابن: «أحضر جهاز قياس الضغط بسرعة».

> الابن: أعطيته حبة الضغط الصباحية وسأقيس الضغط حالا.

بدأ الصبى فى قياس الضغط بمهارة وأصابته الدهشة وعليه أن يبلغ أبيه، فمستوى ضغط الدم قياسى (120/80) ولكن ضربات القلب فى الحضيض، أقل من خمسين. وأخيرا يبدأ سقرط فى الحديث ويكاد أن يستشيط غضبا ولكن قواه مازالت خائرة: «ذبحة شديدة هذه المرة لا تقلقوا. من فضلك يا بنى أعد لى كوبا من النسكافيه وأحضر علبة السجائر فقد نفد رصيدها عندى !». ابتسم الصبى وأراد أن يطمئن أبيه: «إنه الأدرنالين يا أبي. اندفعت كمية هائلة منه فى جسمك بسبب انتقالك من وضع السكون إلى وضع الحركة الفائقة فجأة لإفاقة جدتى كالمعتاد».

حمد سقراط الله حمد الصابرين، وطلب من نجله إعداد الحمام، فقد تملكته رغبة عارمة للاغتسال. سينعشه انسياب الماء وينسى ما مر به، ثم يخرج إلى العمل ليبدأ يوما جديدا. قبل الخروج وهو على باب البيت، سمع زوجته من الداخل: «ما تنساش الفسيخ والرنجة وانت راجع.. حفلة عيد ميلادى النهار ده !».

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق