كانت سويسرا مجتمعًا أبويًا تقليديا لم تحصل فيه النساء على حقوقهن السياسية فى التصويت والترشح للانتخابات حتى استفتاء فبراير عام 1971، أى قبل خمسة عقود، مقارنة بجيرانها الذين منحوا ذلك الحق لنسائهن قبل قرن ويزيد، إذ طغت شهرة الاتحاد السويسرى الذى تكون دون ثورات أو حروب فى قلب أوروبا بكونه البلد المحايد الأشهر فى تاريخ القارة التى شهدت حربين عالميتين مأساويتين راح ضحيتهما الملايين، فضلًا عن ارتباط ذلك البلد الصغير الذى لا يتجاوز عدد سكانه ثمانية ملايين ونصف المليون طبقًا لإحصاء عام 2019 بصور نمطية لجبال الألب تكسوها الثلوج قبلة الأثرياء، وقلعة البنوك وريادة صناعات الساعات والجبن والشيكولاتة.
تلك الصور الخلابة ظلت تخفى تشابهًا يربط البلاد بأثينا القديمة، حيث كانت المشورة والمداولات واتخاذ القرارات أمورًا تخص الذكور حصرًا بعيدًا عن العبيد والنساء والأطفال، إذ حتى يومنًا هذا يحتفظ الاتحاد السويسرى بشهرته كواحد من أعرق الديمقراطيات فى العالم بتطبيقه الديمقراطية المباشرة التى عرفتها روما مع مقاومته المستميتة لضم النساء، وهو ما انطبق على المجتمع السويسرى الذى ظل وفيًا لتلك الفكرة لقرون والتى اتفقت مع تدينه المسيحى التاريخى وتقاليده الجبلية الصارمة ومزاجه المحافظ المقاوم لعواصف التغير التى اجتاحت الدول المجاورة مع ثورة الشباب فى عام 1968. وما زال الوفاء جزئيًا قائمًا حتى يومنًا هذا، إذ يستلزم تعديل أو إضافة تشريع جديد جمع توقيعات نحو خمسة فى المائة من السكان أو مائة ألف توقيع لإدراج الموضوع الذى يدور الجدل حوله فى واحد من الاستفتاءات الأربعة التى تشهدها البلاد حول موضوعات محلية تخص المقاطعات التى تتمتع باستقلاليتها أو موضوعات وطنية فى إطار الاتحاد الفيدرالى. وهكذا كان الأمر نفسه بالنسبة لمنح السويسريات حق التصويت، إذ احتاج الأمر إلى عقود من الرفض، حتى تم الأمر بموافقة الرجال، وهو ما يتسق مع معاناة السويسريات التاريخية، حيث لم يكن يسمح لهن بالعمل إلا بعد الحصول على إذن أزواجهن، أو حتى فتح حساب مصرفى حتى عام 1985، وحتى عام 2005 لم يكن يحق للمرأة السويسرية العاملة الحصول على إجازة أمومة رسمية مدفوعة الأجر، ولذا تأتى فى المراكز الأخيرة فى استطلاعات الرأى حول عمل المرأة تحديدًا، بينما تحتل المراكز الأولى من حيث الرفاهية وارتفاع الدخول والمدن الباهظة التكاليف.
تاريخيا بدأ طرح الأمر للنقاش عام 1868على يد مجموعة من نساء زيوريخ، وهو ما تم تجاهله من جانب السياسيين المستخفين بالنساء حتى شهد عام 1957 خروج اقتراحات حكومية بتطبيق الخدمة الإلزامية على الجنسين، وهو ما رفضته المنظمات النسائية بسبب حقوق النساء المنقوصة ومنها حق التصويت، وهو ما دفع الحكومة لتقديم مشروع رفضه 67 % من الناخبين فى تصويت وطنى عام 1959، بينما حصلت عليه محليًا نساء مقاطعتى فو ونيو شاتل. عام 1963، وبعد انضمام سويسرا إلى مجلس أوروبا، تعثر توقيعها على المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان بسبب عدم حصول نسائها على ذلك الحق، واستمر الجدل سنوات قبل الموافقة بنسبة 66% فى استفتاء فبراير عام 1971، بينما احتاج الأمر فى مقاطعة أبنزل رودس الداخلية لتدخل المحكمة الاتحادية لإجبارها على منح نسائها الحق فى التصويت على مستوى المقاطعة عام 1991.
الجدير بالذكر أن نهايات القرن التاسع عشر شهدت حصول النساء على حقوق تصويت بعضها محدودة فى فنلندا، وأيسلندا، والسويد، وبعض المستعمرات فى استراليا (مع استثناء السكان الأصليين حتى عام 1962)، كما انتخبت الإمبراطورية الروسية أول امرأة فى العالم كعضو برلمانى عام 1907، وأعقبتها النرويج عام 1913. ونتيجة للمساهمة الفعالة للنساء فى المجهود الحربى، شهدت فترة ما بين الحربين منح الحق نفسه لنساء بريطانيا وبولندا (1918)، والولايات المتحدة (1920)، وتوالت بعد ذلك الدول فى الإقرار بحق نسائها كما فى إسبانيا (1933)، وفرنسا (1944)، وإيطاليا (1946)، واليونان (1952)، ومنحت الأغلبية العظمى من دول أمريكا اللاتينية حق الانتخاب للمرأة فى الأربعينات، وكان آخرها باراجواى عام 1961.
و منح الاتحاد السوفيتى السابق نساء جمهورياته الإسلامية مثل أذربيجان وقيرغيزيا وطاجيكستان وكازاخستان وتركمانستان حق التصويت تباعًا بداية من عام 1917، وحصلت عليه نساء تركيا محليًا عام 1930، ثم وطنيًا عام 1934. وتعد لبنان أولى الدول العربية التى منحت النساء هذا الحق عام 1952، بينما احتفظت مصر بحق الريادة بانتخاب راوية عطية أول برلمانية عربية بعد حصول المصريات على حقهن عام 1956، وجاءت السعوديات فى ذيل القائمة عام 2015.
وفى فبراير من كل عام، تستعيد السويسريات ذكريات نضالهن المستمر منذ 50 عامًا تم تتويجها بعضوية إليزابيث كوب أول أنثى فى المجلس الاتحادى ذى الأعضاء السبعة منذ عام 1984حتى عام 1989، وفى سبتمبر 2010، تم انتخاب سيمونيتا سوماروجا وتكوين حكومة اتحادية بأغلبية نسائية للمرة الأولى فى تاريخ البلاد بلغت 4 نساء من بين سبعة أعضاء، إذ حتى عام 1991 لم يكن بالحكومة أى امرأة تتولى أى حقيبة وزارية. ومن المتوقع أن يشهد يوم المرأة العالمى الموافق الثامن من مارس حوارات مطولة حول الكفاح الذى لم ينته بعد لمعضلة تقاضى السويسريات لأجور أقل من الرجال بمتوسط 20%، بينما تقل المعاشات بنسبة 38% عنهم ، وهو الأمر الذى استدعى قبل عامين القيام بإضراب فى عموم البلاد للضغط على الحكومة للتدخل من أجل مساواة ما زالت مفتقدة فى البلاد فى القرن الحادى والعشرين، وهو ما يتنافى بالطبع مع الصورة الوردية لبلاد جميلة ساحرة وخلابة وغنية، ولكنها ما زالت تتعامل مع النساء بعقلية قرون مضت.
رابط دائم: