رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

فى الذكرى الخامسة لرحيل «الأستاذ»
هيكل والحكيم..وفن مواجهة المخلوق الفضائى العجيب!

أنور عبداللطيف

رغم اهتماماته الواسعة وعلاقاته الصحفية والسياسية المتشعبة والصراعات والحروب التى ظل بسببها يعيش على صفيح ساخن حتى آخر يوم فى حياته، فإن التراث الإنسانى لـ«الأستاذ» محمد حسنين هيكل، الذى تحل اليوم الذكرى الخامسة لرحيله، هو الذى اكتشفنا منه هيكل الأب والزوج والصديق والمربى والفنان.

تراث الراحل الكبير، الذى جنت عليه السياسة فى حياته وحتى بعد رحيله، نختار منه علاقة هيكل وتوفيق الحكيم على المستوى الإنساني، فقد ظلت المودة بينهما قاعدة راسخة تتكسر عليها الاختلافات الفكرية التى كانت تنتهى بالمودة واحترام الاختلاف.

قدر هيكل الظرف الذى كتب فيه الحكيم عن عودة الوعى بعد وفاة عبدالناصر، وكتب الحكيم فى «الأهرام» داعما هيكل ضد الموجة العاتية التى تعرض لها بعد صدور كتابه «خريف الغضب».

تعاقد هيكل مع توفيق الحكيم على أعلى مرتب فى «الأهرام»، مقابل أن يجلس مع محرريه وينهلوا من علمه وأدبه وتجاربه، وفى يوم عرض عليه خمسة آلاف أخرى نظير مقال عن فرقة موسيقية تقيم حفلا فى أحد النوادى الليلية، وهو يعرف أن إسماعيل ابن الحكيم بطل هذه الفرقة وانضم إليها متمردا على والده، ويعرف أن «الولد»على حق حين تمرد على والده ورفض دراسة الهندسة وأصر على دراسة الموسيقى التى يهواها ويعشقها، كما تمرد توفيق الحكيم فى صباه ورفض طلب والده بدراسة القانون وأصر على دراسة الأدب ليكون مثل أحمد لطفى السيد، وأمام الإغراء الموضوعى والمادى ذهب الحكيم ليلا رغم أنفه ـ فهو لا يسهر بعد المغرب ـ بصحبة صلاح طاهر ويوسف إدريس إلى حفل الفرقة الليلية، وكتب «الأب» بدموعه مقالا شهيرا ومؤثرا عن «تلاقى الأجيال» نشر بالأهرام عام 1969!

ومما طرحه الحكيم فى المقال، الذى دفعه هيكل إليه دفعا: «هل الانفصال بين الأجيال وضع حتمى لا أمل فى تغييره، أم أنه بالتفاهم والتعاون يمكن أن يصحح الوضع! نحن الآن فى عصر بدا فيه تصادم عنيف بين جيل الشباب والجيل السابق على نحو لم يسبق له مثيل. وجوهر الخلاف دائما كان اعتقاد كل جيل سابق أنه صاحب الحكم الأصوب فى شئون العصر وأنه هو المنوط به وحده تكييف الحاضر وتشكيل المستقبل..» ولو أن توفيق الحكيم ـ يرحمه الله ـ قد تدارك هذا الأمر قبل ذلك بـ 13 سنة ربما كان جنب نفسه صراع الأجيال!

وهى حكاية كشفت عنها فضفضة بين «الأبوين» ـ هيكل والحكيم ـ فى عام 1956، وجديرة بأن تروى، لنستلهم منها الدرس. فوقتها جلس هيكل مع الحكيم.. وتحدث كل منهما عن «الأبوة» التى جاءتهما على آخر الزمان.. حرصت على تقديمها ـ بتصرف محدود ـ كما سجلها الأستاذ محمد حسنين هيكل فى «يوميات» آخر ساعة وقال:

سألنی توفيق الحكيم - ماذا تصنع مع ابنك؟

قلت: قد يدهشك أن هذا «الشيء» الذى لا يزيد عمره على شهرين يرهبنی.. ويثير الذعر فى قلبي.. (وأظنه يقصد «الطفل» على هيكل وهو الطبيب الناجح الذى توارى عن الأضواء).

مرة واحدة تجرأت فيها، والكلام للأستاذ هيكل، واقتربت من فراشه، وإذا هو يصرخ ويرفس بيديه ورجليه فى الهواء..ثم يهبش خديه بأظافره وتتحول حمرى وجهه إلى زرقة.. ويرتعش لسانه داخل فمه المفتوح للصراخ. وأحسست أمامه بعجز يائس. فهربت من غرفته حائرا مستسلما.. واكتفى اليوم بأن ألقى عليه نظرة من بعيد، ولا أحاول أن أقترب منه أبدا!

إنه فى خيالى الآن مخلوق غريب غامض..هبط على من أحد الكواكب العابرة فى الفضاء.. واقتحم دنیای مزودا بأسلحة لا قبل لى بمقاومتها.. والذنب ذنبى إذا لم افهم لغة الصراخ الآمرة المتحكمة والتى لا يستعمل غيرها.

وقال توفيق الحكيم، وهو يثبت عصاه الشهيرة على الأرض ويصنع لها من سبابته وإبهامه حلقة يدفعها إلى الدوران فيها، بينما رأسه يهتز على عادته عندما يتحفز للكلام:

- تلك مشكلة بسيطة.. إن مخلوق الفضاء الذى تتخيله فى طفلك الوليد شيء سهل إذا ما قورن بما سوف تلقاه منه عندما يحبو مع الأيام ويصبح طفلا فى السادسة أو فى السابعة.

وزادت سرعة دوران العصا بين إصبعى توفيق الحكيم.. وقال راهب الفكر الشهير: إن العلم الحديث ومظاهر المدنية المحيطة بنا - وأبرزها الراديو والسينما - تعطی لأولادنا من وسائل التفكير ما لم يكن متیسرا لجيلنا.

واستطرد توفيق الحكيم:

تصور.. جلست مع ابنتى منذ أيام، وإذا هى تطلب منى أن أقول لها فوازير، وتذكرت الفوازير الساذجة التى كنا نسمعها من أمهاتنا وجداتنا، وقلتها لابنتي..

قلت لها: عدى البحر ولا اتبلش!.

قالت على الفور: « الطيارة »!

قلت وفى ذهنى الإجابة القديمة التاريخية على « الفزورة »: « لا.. العجل فى بطن أمه».. قالت فى إصرار: «لا.. الطيارة»

وتنبهت إلى حقيقة خطيرة.. فقد جاءت إجابتها علمية صحيحة دقيقة.. أما الإجابة المتخلفة فى ذاكرتى من أيام طفولتى فإجابة ساذجة بلهاء لا تستطيع أن تواصل الحياة سنة 1956!

وأضاف توفيق الحكيم: وجاءنى إسماعيل الذى لا يزيد عمره على سبع سنوات.. جاءنى خلال الصيف ونحن فى الإسكندرية يقول لى إنه يريد أن يصطاد السمك من البحر، ودهشت وأنا أسمعه فإن مجرد الاقتراب من الشاطئ مغامرة خطيرة فى تقديرى الخاص. وأقنعت نفسى أن الدنيا تغيرت، وذهبت فاشتريت لإسماعيل عصا من الغاب وسنارة مدلاة منها.. وذهبت أتصور بخیالی فرحته عندما أسلمه أدوات الصيد التى جئته بها.. وأمسك ابنى قطعة الغاب والسنارة ثم ألقاها على الأرض باحتقار..ونظر إلى قائلا: أيه ده!؟

قلت له فى دهشة: «إيه.. سنارة صيد سمك»!

قال: «أخص»

قلت على إيه؟

قال: هذه لا تصلح لشيء.. أنا أريد كمامة أضعها على وجهى وأغطس بها تحت الماء.. وأريد حربة أطارد بها السمك فى القاع، وأريد زعانف من المطاط أركبها فى قدمی لكی تساعدنى على الغوص..

فقلت فى ذهول : «يا نهار أسود!»

قال ببساطة: «هذا هو الصيد.. أما السنارة.. فلعب عيال»

وسكت توفيق الحكيم ثم استطرد بعد قليل:

جيل عجيب .. إنه يواجهنا بأسلحة لا تخطر على بالنا.. إنه يواجهنا بالاندفاع.. وبالعلم.. وبالمنطق.

وسكت توفيق الحكيم.. هل تعلمون ماذا فعلت بعدها؟

تركت توفيق الحكيم .وأسرعت إلى أقرب مكتبة..أبحث عن كتاب أستعين به على مواجهة مخلوق الفضاء الغريب الذى هبط على دنیای .. والذى سيبدأ غدا يواجهنى بأفكار عصر متقدم متحرك يسبق الجيل الذى أنتمى إليه بمسافات شاسعة!

اخترت كتابا اسمه «حقوق الطفل خلال الأعوام الأولى» ـ وصدر الكتاب عن مكتبة النهضة المصرية ـ « كتبته السيدة زكية عزيز التى تخرجت فى كلية بدفور للمعلمات بإنجلترا..!

ماذا أفعل؟

إننى أستعد لليوم الذى يستعمل فيه مخلوق الفضاء الغريب عقله ليواجهنى بدلا من حنجرته!!

إننى أحتمل أن أعجز عن فهمه وهو يصرخ فى وجهی، ولكنى لا أحتمل أن أعجز عن فهمه وهو يناقشنى.. فكرة.. بفكرة!

....

انتهت الفضفضة بين الأبوين وتركت لنا العجب.. إذا كان القلق قد انتاب فيلسوف الصحافة محمد حسنين هيكل وفيلسوف المسرح المصرى توفيق الحكيم..عما فعلته «أحدث تكنولوجيا» فى عقول أجيال الراديو والسينما عام 1956.. فماذا نقول للجيل «المسكين» من الآباء هذا الزمان.. بعد أن خطفت تكنولوجيا التواصل الاجتماعى عقول وقلوب البشر من كل الأعمار!

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق