رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

حلمى ابو رجيله


طارق الطيب;

سرنا جميعا نحو بيت حلمى معفرين مغبرّين. نضحك ونحن نكرر بعض الأحداث التى وقعت لنا فى مباراة «الكورة الشراب» التى انهزمنا فيها هزيمة ساحقة. كنا نمشى على مهل كعادتنا مع مشية حلمى. لم يطالبنا حلمى أبدًا بأن نسير ببطء مثله، لكن شيئا ما فى شخصيته يجعلنا نبطئ على إيقاع مشيته، لم يكن مراعاة لمشاعره، وإنما لشيء ما غامض لم نعرف كنهه. حين كنا نركض خلف الأوتوبيس، نراه يركض سابقا إيانا، ربما كانت دهشتُنا من سرعة انطلاقته مع تمايله الشديد هى التى جعلتنا نبطئ فى ركضنا لنراه. يقفز قبلنا ويتعلق بالباب. سقطنا كثيرا على الأرض وجُرحنا مرات ونحن نقفز من الأوتوبيس عند المدرسة، لكن كيف كان حلمى يقفز مثلنا ولا يسقط على الأرض أبدًا؛ فهذه كانت أعجوبة أخرى من أعاجيب أبو رجيلة، وهو الاسم الذى أطلقناه عليه فيما بعد: حلمى العجيب أو حلمى أبو رجيلة العجيب!

نشأنا معًا خمسة، منذ الحضانة حتى المدرسة الإعدادية. فى العامين الأخيرين من المدرسة الابتدائية انضم إلينا محمود المنياوى كسادس المجموعة. كان يكبرنا بعام رغم ضآلة جسمه. فقد راح عليه عام دراسى بسبب الحرب والتهجير. محمود كان مُهجَّرًا من مدينة السويس، لاقى صلفا وظلما من الأقران فى المدرسة الابتدائية ثم بعدها فى الإعدادية، حيث أصبحت لفظة «مُهَجَّر» مثل وصمة عار وخزى للنازحين من مدن القنال إلى بقية محافظات مصر.

حلمى الأثير لدينا. زيارته أحَبُّ زيارة لنا. نغزو بيته فى حملة رباعية. فى الغالب تفتح لنا أمه وتستقبلنا ببشاشة وبهجة كأننا أولادها. تفرح بضجيجنا وتُدخلنا فورًا لغرفة حلمى حتى وهو نائم، فننقَضّ عليه لنوقظه بزعيق ودوشة تفرحه دائما، ثم يقوم قافزا فى الغرفة خفيفا بنطته العجيبة.

أم حلمى من محافظة الشرقية، غاية فى الطيبة، تشعرنا دائما بأنها أمنا جميعا، بلهجتها الجميلة التى احتفظت بها رغم عمرها الطويل فى القاهرة. تعرف جوعنا الدائم، فبمجرد جلوسنا لدقائق قليلة، تهل علينا بصينيتها المشهورة عامرة بطعامها الفلاحى اللذيذ.

ألذ بيض طازج «نُصّ سِوا» بالسمن البلدى وأطعم فطير «مِشَلتِت» وأطيب أنواع الجبن القَريش الفلاحى وعسل النحل. أكلات لا نراها فى بيوتنا إلا نادرا، كانت متاحة فى بيت أم حلمى بلا حدود.

كنا نهجم على أكلها كالضباع الجائعة، وهى تدعو لنا من قلبها بعد هذا الالتهام بالصحة والعافية وطول العمر، ثم يتبع الالتهام ألذ شاى بالنعناع.

ارتبطنا نحن الستة بحبل صداقة متين يحسدنا عليه الكثيرون. كنا فى أوائل السبعينيات. لم تكن هناك أى وسائل اتصال سوى أن نمر على البيوت. كنت أسكن فى الدور الثالث، يصفرون صفارة مميزة يتبعها اسمى بشكل ممطوط: «طاااارق!.. يا طااااارق!» فيظهر رأسى أو يدى لإسكات النداء. لحظات وأكون أسفل البيت. صديقنا فطين كان الأصعب فى الخروج.

كنا نقترب من البيت بحرص الثعالب وننادى من تحت «البلكونة» باسم آخر متفق عليه: «يا طيار!» يعلق لنا فطين فوطة حمراء على حبل الغسيل وهى علامة استحالة خروجه. إن حاولنا رغم ذلك ونادينا عليه، خرجت أمه لتشتمنا بأفظع الكلام، وتتابع مع وَصلة ردح يسمعها الشارع والجيران بأننا نضيع مستقبل أصغر أبنائها بصرمحاتنا وصعلكتنا.

أما بولس فكان متاحًا دائما. ينـْزرع باستمرار على حجر فى زاوية البيت من الخارج. الحجر هو مقعد بولس الدائم ومركز اجتماعنا فى الشارع، كثيرا ما كان والده المريض يخرج من الشرفة ليطلب منا الهدوء بسبب أصواتنا المجلجلة.

فنستغرب من لهجة بولس مع والده ومزاحه معه كأنه صديق: «حاج مش كده.. بالراحة علينا! بالهداوة يا كبير!».

حلمى هو الأحب إلينا وصاحب أطيب قلب فى مجموعتنا. هو الأسرع دائما فى زيارة أى مريض منا. يلازمه حتى يشفى.

أشعر به يوارى انكساره، حتى عن نفسه، ولا يسمح لأحد برؤية دموعه. سريع البديهة وصاحب نكات مبتكرة تفجر فينا براكين الضحك. سخريته لاذعة تجعل الكثيرين خارج مجموعتنا يتحاشون غضبه، ويل لمن يبدأ بالإساءة لأى واحد من مجموعتنا الستة! سيبتكر له وصفًا ساخرًا قد يلتصق به طوال فترة الدراسة، وربما لا يمكنه التخلص منه مدى الحياة.

فى مناسبة عيد ميلاد حلمى قررنا أن نهديه مبلغًا من المال، وأقنعناه أن نذهب معه إلى طبيب عظام شهير، حوَّله الطبيب بدوره إلى زميل فى الأشعة، ثم إلى طبيب أعصاب ومنه إلى طبيب نفسى، وفى كل مرة كان يدفع مبلغا باهظا.

خرج حلمى من عيادة الطبيب النفسى بعد أول جلسة، مائلا ضاحكا ضحكته الساخرة وخلفه الطبيب يكاد ينفجر غيظا. وحدى شعرت أن حلمى يكتم بحرا من الحزن.

بمجرد أن التقت عينى بعينيه غُصْتُ عميقا فى بحر حزنه. أشاح عنى بنظرته التى يعرف أنى أفهمها، ووزع مرحه على الآخرين. سمعْنا الطبيب بوضوح يقول له مشيعا بأن حالته لن تتحسن أبدا مادام هو غير مقتنع بمرضه النفسى.

قال لنا حلمى إن الطبيب مُصِرّ على أن مشكلة مشيته نفسية ويمكن حلها بجلسات متكررة يحكى فيها عن طفولته حتى يومنا؛ آنذاك. ذكر حلمى أنه من الأفضل والأرخص أن يزور شيخا ليقرأ له بعض الأدعية والأوراد ويعطيه وصفة تخرج له العفاريت والشياطين من جسده. حلمى أهلكنا ضحكا واعتبرها تجربة مثيرة وهدية جميلة منا لن ينساها طوال عمره. صرنا فى أى مشكلة تقابلنا فيما بعد، نردد هذه اللازمة الساخرة التى لم يفهمها الكثيرون:

«انتا يا بنى محتاجلك لعشر جلسات.. وكل شىء حيبقى زى الفل..!» ذهبت ذات يوم إلى بيت صديقى ناصر. لم يكن موجودًا.

دعتنى أمه للدخول وشرب الشاى حتى يعود من مشوار قريب. أخشى دائما من هذه الانفرادات مع أمهات أصدقائى؛ فهن يستطعن- بأساليب فائقة الاحتيال والابتكار- التوصل إلى مكنونات أمخاخنا وما خفى من أسرار خاصة عن أحوالنا وتصرفاتنا، ونحن بيننا عهد بألا نعترف بها لأحد من أهالينا، مهما ضيَّقوا علينا الخناق.

كنا فى فصل الشتاء والجو كان متقلبا. عندما اقتربتُ من بيت ناصر انقلب لعاصفة مع انهمار مطر مفاجئ، فركضت نحو بيته. فضَّلت دعوة الشاى من أم ناصر، وأعددت ما استطعت لها من أسلحة الكتمان والتهرب المتاحة من هذا الاستجواب القادم!

جلستُ فى الصالة على الكنبة المغطاة بكليم مُلوَّن، أفكر وأتوقع الأسئلة القادمة وأجهِّز الأجوبة المطاطة المناسبة التى لا تؤدى إلى جواب، وأخترع لها قصصًا عن فضائح وهمية بأسماء وهمية، لتشتيت انتباهها وتعطيل أسئلتها من ناحية، ومن ناحية أخرى ستكون محاولة مضمونة لتضييع الوقت حتى لا أقع فى مصيدة الاعتراف بشيء يتعلق بأحد أسرار ناصر ابنها «البِكْرى»، كما يحلو لها دائما أن تضيف لاسمه، كأن لفظة «البكرى» هذه مثل كلمة «الدكتور» أو «الباشمهندس»، أو تعنى شيئا فريدا خصها الله به وحدها دونا عن نساء العالمين!

أم ناصر خبيرة إيقاع وداهية. أوقعت اثنين منا فى اعترافات تخص حماقات ابنها، بطُرُقها وبراعتها غير العادية. استطاعت أن توقع صديقنا فطين بمنتهى البساطة ليقر بإحدى نـزوات ناصر السرية. جرّت فطين فى الكلام جرًّا ناعما، مما شجعه على الاعتراف، فحكى لها كالمقطَف بعضًا من تصرفات ابنها، مما أدى لسوء العلاقة بينه وبين ناصر.

كان ناصر مصابا بالبلهارسيا، واكتشفها فى وقت متأخر، أو بالأصح خجل هو من أن يعترف بنـزول الدم من هذا المكان المحرج. حين مازحْتُه مرة ونحن نتبول على الرمل، قال إنه يحتسى أطنانا من الكركديه عند صديق لنا.

برئ ناصر من مرض البلهارسيا بعد علاجه عند الدكتور بطرس الإسناوى الذى لم يترك مريضا بالبلهارسيا فى حَيِّنا إلا وشفاه، لكن لم يمضِ على شفاء ناصر أكثر من شهر حتى عقره كلب ضال مصاب بالسعار. اضطر ناصر على إثر ذلك للخضوع لإحدى وعشرين حقنة فى البطن، فى مستوصف الحى.

رافقت ناصر فى أول حقنة. كان يرتعش رُعبًا قبل الحقن وبعدها. بعد ربع ساعة بدأ يتقيأ مرات دون أن يُخرج من جوفه الخالى شيئا. لم يكن الوضع أفضل فى المرة الثانية. فى الثالثة أشفقت عليه من هذا الأذى. قررنا أن يتوقف عن أخذ الحقن؛ أن ندّعى بأننا قد ذهبنا لطبيب المستوصف، ونذهب لأى مكان ثم نعود لنوحى للجميع بأنه أخذ الحقنة، وعليه أن يُحسِن تمثيل أعراض ما بعد الحقنة. كررنا هذا الأمر أربع مرات.

والدته اكتشفتْ بحس الأم أن شهيته كبيرة، وأن الأعراض التى كانت عادة تظهر فى البداية بعد كل حقنة قد اختفت. توجست من سرعة هذا العلاج.

استفردَتْ بفطين مرة، وكانت تعرف أنه يعشق نوعًا من الحلويات يُسمَّى «البِسيسة» جهزتها خصيصا لتوقعه. كان فى زيارة لناصر، لم يجده فى البيت، انتظره، وحين قدَّمت له الطبق، انهار أمام حيلتها ووقع فى الفخ. استغلت تلذذه بالطعام ورمت له طُعم أول الأسئلة:

«إلا قول لى يا فطيم.. هو محمود بطّل يروح لدكتور المستوصف من إمتى؟»

تلعثم فطين وانحشرت فى زوره قطعة البسيسة الكبيرة التى التهمها؛ فهونت عليه بحركة مَسْكَنة وطيبة قلب:

«ماهو حَكَى لى ضنايا المسكين يا عينى عليه.. الحقنة هَلَكِتُه.. ومقدِرش يكمّل!»

نظرَتْ لفطين نظرة طيبة وبعطف أمومى بالغ، وهى تتابعه بطرف عينيها، وهو يدير رأسه فى الغرفة بحثا عن ملاذ مؤقت. كان متحيرًا قليلا، فضربته بجملة أخيرة:

«كُل يا حبيبى! بالهنا والشفا!»

شعر المسكين كأنها تقول له:

«قول يا حبيبى.. بالهنا والشفا!»

«وهوّه ناصر قالِّك كده فعلا؟»

قال متلعثما، فردت عليه:

«أيوه.. بس حَلِّفنى ما اقولش لابوه.. من إمتى بطَّل ياخد الحقنة يا فطيم؟»

لم تنظر نحوه هذه المرة لتخفف عنه الضغط. وقع فطين كالمدَبّ:

«بعد تالت مرة يا طنط!»

كنا نطلق على أم ناصر: «بوليس الإنتربول»، وكان ناصر يوافق على الكلمة، بل أكاد أجزم أنه هو الذى اخترعها. أم ناصر شكَّت فى تزويغنا من المدرسة فى الآونة الأخيرة. كنا بالفعل نـزوغ مرة فى الأسبوع.

نذهب إلى «الجبلاية» وهى المنطقة المهجورة التى تقع على بعد كيلومترين من المدرسة. نعشق كرة القدم ونسميها «الكورة الشراب» التى يصنعها محمود ببراعة.

لم تُحضِر أم ناصر الشاى الذى دعتنى إليه، بل فاجأتنى بإحضار سلطانية من الفخار فيها شوربة عدس بالليمون معمولة على شوربة عظم. رائحتها الفتانة تُدوِّخ أكبر مجرم ليعترف بجريمة لم يرتكبها. وضعت الطبق أمامى، «فلعب الفار فى عِبّى». بادرتُ:

«واللهِ لِسَّه واكِل يا طنط»!

أبديت شبعًا زائفا، ورَدِّى صدر عكسيا تماما لجحوظ عينيَّ وسيلان ريقى.

«واكِل إيه.. هوه دا أكل.. دى شوربة عدس.. كُل يا حبيبى بالهنا والشفا»!

رائحة البصل المقلى مع بخار الشوربة مع البرد الذى هربت منه، حطمت كل المناعات، فانهرتُ واقعًا على السلطانية، مرهِفا السمع متوقعا أول الأسئلة فى قضية اعتراف بجريمة من جرائمنا. أحضرتْ لى بعض العيش الشمسى، فاكتملتْ الأكلة اللذيذة مع كلماتها الطيبة:

«كُلْ يا حبيبى.. بالهَنا. مَطرَح ما يسرى يمرى!»

أتبعَتْها بلازمة المناسبات التى اعتادت عليها كلما التقيت بها:

«إزيّ ماما؟ وباباك عامل إيه؟ وأختك حياة وخالتك روضة؟»

حتى ذاك الوقت سارت الأمور فى مجراها السليم، لكن بسرعة غير متوقعة، سألتُ نفسى فى غيظ: لماذا تأخر ناصر المغفل هذا. ما المشوار الذى يختفى فيه كل هذا الوقت!

بادرتُ بسؤال حتى يكون لى بعض الوقت المستقطع متمنيا إجابة تفصيلية من أم ناصر:

«أُمّال ناصر راح فين؟»

«أبدا راح مع اخوه عاطف يجيبوا,التَّوْمين من عند عم سند!»

«يا نهار أسود! دا فى آخر الدنيا!»

قلتها فى سرى وأنا أُظهر ابتسامة بلهاء، فعم سند لا يفتح قبل الثالثة عصرا، ويقع دكانه بعد مدرستنا البعيدة، جاء السؤال التالى ثعبانيا زاحفا سريعا:

«انتو عاملين إيه فى المدرسة يا حبيبى.. هوه صحيح زمايلكو بيزوَّغو كتير مِ الحصص، زى الأستاذ عارف ما بيقول؟»

كثرة تردد كلمة «يا حبيبى» منها، تنبئ بكارثة قريبة، فاللهم احفظنا! ولم أعرف كلمة «زمايلكو» هذه، على من تنصَبّ؟

«يعنى!.. مش كُلِّنا!»

كانت هذه بداية الاعتراف. أجبتُ سريعا دون تدبُّر، لكنها كانت إجابة غبية، فقد طلبت منى أن أفسر ماذا أعنى بكلمة: «مش كُلِّنا» هذه. فقلت لها على طريقة المتحايل الساذج:

«فيه شوية طلبة بيزوَّغو.. بس مش كتير!»

«وانتو عُمركو ماعملتوها يا عفاريت؟»

ادَّعيتُ البراءة والجهل معا:

«عملنا إيه يا طنط؟»

«يعنى ما جرّبتوش تزوَّغو لكو مرة كده يا خلابيص؟»

دخلت فى منطقة ألغام خطرة. أمدتنى الشوربة بقوة مؤقتة، خارت مع ضربة الاستفسار الأخيرة. تذكرتُ فطين وما حدث معه هذا الأرنب المسكين. أنا الآن فأر أكثر مَسْكنةً منه.

«أبدًا يا طنط.. حنـزوّغ نروح فين بس؟ لا جنبنا سيما ولا إستاد!»

«حتى كان معاكو اللى ما يتْسَمَّى.. الشقى ده اللى مغلِّب أمه: حلمى!»

«حلمى أبو رجيلة؟ طب ده حيلعب معانا إزاى يا طنط؟»

قلتُها باستغراب، ثم حاولتُ فورا أن أغيّر الموضوع بحركة انتقال فجائى لعلها تسعفنى:

«هو صحيح يا طنط إنتى وِلِدتى ناصر فى نفس يوم ولادة حلمى؟»

ضحكت أم ناصر وهزت غوايشها فى حركة استرجاع ذاكرة؛ فبدت لها حكايتها الآن أهم من حكايتى. تنهدت راحة وفرحا، إنها لقطَتْ طُعمى أخيرا. بدأتْ تسرد القصة بتفاصيلها كأنها حدثت بالأمس.

كنت أنصت وكل سمعى موجها للسلم، لأى أحد يصعد وينقذنى. قالت أم ناصر إن ابنها وحلمى ولدا فى ليلة واحدة، وإن أم حلمى كانت قد أصيبت بالتهاب رئوى حاد فى بداية حملها، تناولت الكثير من العقاقير لتشفى منه، وقد نصحها الطبيب بالإجهاض المبكر. كان زوجها قد توفى للتو؛ فتمسكت أكثر بالجنين. أصرت على الاستمرار فى الحمل رغم المخاطر. ثم جاءت جملتها الأخيرة:

«خلِّفِتْ حلمى بِوِشُّه اللى زىّ القمر.. يِشبه أبوه الخالق الناطق.. بس يا عينى عليه.. الحلو ما يكْمَلش!»

فى هذه اللحظة سمعتُ صوت دربكة صعود على السلم. تمنيت أمنية وحيدة. وتحققت. دخل ناصر وأسامة مُرهقَيْن بالأحمال من الدكان البعيد. فرح ناصر بوجودى، قبّلنى ثم مازحنى كعادته. شكرتها وكررتْ مديحى لشوربة العدس، وهى تستحق المديح على كل أكلاتها. نظرت لناصر بغيظ:

«ماشى يا فالح! كنت فى «السِّكشَن» من شوية»!

نظر برعب وارتياب؛ فكلمة «سِكشَن» فى قاموسنا ترمز لقسم شرطة والتحقيق من أهالينا. قال لى:

«ونجحت فى الامتحان؟»

اعتقدت أمه أننا فعلا نتكلم فى أشياء لها علاقة بالدراسة. قامت تحمل السلطانية الفارغة وهى تسألنى جادة، مرة أخرى، إن كنت أريد سلطانية شوربة عدس أخرى.

ذهابى إلى ناصر كان باتفاق مسبق، فقد اتفقنا أن نلاعب فريق عزبة النخل مباراة كورة شراب فى الوَسَعاية. كالعادة، اتفقنا على أن نقول إننا سنذاكر عند ناصر، وقال ناصر لأمه إننا سنذاكر عند محمود.

حلمى كان حاضرا فى كل مباراة. يقف خلف الخطوط الوهمية، يضحك بقلب حزين، ينظر إلى الكرة بين أقدامنا ويتمنى لو نشاركه اللعب أو نسمح له بفرصة. رأيته مرات يقف خلف المرمى الذى نحدده بحجرين من الدبش. يقف خلف حارس المرمى، ليُحمِّسنا بتشجيعه. يرمى نفسه مثل بهلوان على كل الكرات المصوَّبة على المرمى. تعجبت كثيرا من قفزاته وشجاعته فى الإمساك بالكرة.

لم يأتِ فطين. قال لى محمود وهو فطسان من الضحك إن أمه طلعت من خلف الغسيل الذى تنشره وهى تقول: «الطيّار خلاص طار يا عين امك.. شوفولكو حد تانى تضيَّعوا مستقبله!» قال محمود إنه انسحب محرجا، بينما كان فطين ينظر من النافذة الجانبية كالمسجون. لا يجرؤ أحد منا على مواجهة أم فطين. اسمها السرى المتفق عليه بيننا بموافقة فطين هو: «دراكولا».

كنا ستة. ينقصنا فطين حارس مرمانا الأساسى. سنخسر بدونه لا شك، فقال ناصر:

«حاقف انا جون!»

«مش هنخسر أحسن مُدافع علشان نحمى المرمى!» قلت له ووقفت أنظر فى المشجعين والجمهور، ثم وجَّهتُ كلامى بصوتٍ عالٍ لكابتن فريق عزبة النخل الذى ابتعد:

«يا كابتن مخيمر.. احنا جاهزين!»

نظر أصدقائى باستغراب من سرعة ردِّى ويقينى، بينما كنت متوجها خلف المرمى، حيث يقف حلمى مائلا منتظرا بداية اللعب، مركونا بثقله على قدمه السليمة. قلت له:

«حتُقف لنا جون النهارده يا حلمى.. عاوزك تِشرَّفنا!»

قلتها بحسم. نظر الأصدقاء إليَّ باستغراب وحرج، امتعضوا بشكل أحَسَّ به حلمى. تراجع قليلا للخلف، اتجهت إليه، ضغطت كتفه بشدة، وعيناى مثبتتان فى عينيه. ارتمى فى حضنى.

«حانكْسَبهم! ما تنساش دول على أرضنا!» قالها حلمى بثقة.

بدأت المباراة وسجلنا أول هدف وكنا الأقوى لدقائق، ثم أصاب فريقنا ضعف مفاجئ، فدخل فى مرمانا هدفان فى دقيقتين.

الهدفان جاءا من توتر حارسنا حلمى. انهار فريقنا قليلا. أصبحت النتيجة ستة أهداف لهدفين لصالح فريق عزبة النخل.

فى فترة الراحة القصيرة نظرتُ إلى حلمى ووبخته. قلت إنه يجب أن يأخذ باله من الكرات الأرضية. وأكدت له أنه حارس ممتاز. يستطيع أن يمنع هذه الأهداف بقليل من التركيز. صرختُ فيه بعنف كمن يصرخ فى شخص سليم غير مصاب بشلل أطفال.

هدّأنى محمود خشية أن أكون قد تجاوزت فى الكلام. قلت فى غيظ موجِّهًا كلامى لحلمى:

«اللى انت شايفه قُدَّامك ده أحسن من جون عزبة النخل بعشرين مرة!»

قال لى بولس:

«معلش.. إنت مش شايف رجله؟»

قلت بغضب شديد جعلهم يبحلقون فىَّ:

«رِجل حلمى السليمة بعشرين رِجل!»

ظهر القلق على كل الوجوه إلا حلمى. شع وجهه بهذا الصفاء الجميل. ضحك حلمى ضحكته الجميلة المميزة. شعرتُ أنى أخيرا نفَذتُ إلى داخله، وأخرجتُ حلمى الذى كنت أثق فى وجوده. حلمى الذى يُؤْثر الآخرين على نفسه ويضحك كلما غلبه البكاء.

فى الشوط الثانى وقف يحرس المرمى كأسد، ويزحف على الأرض عند الدرْبَكة كتمساح. أنقدنا من أهداف كثيرة. وبدأ الجمهور مذهولا يردد اسمه عاليا:

«حلمى.. حلمى.. حلمى!»

انتهت المباراة لصالح فريق عزبة النخل سبعة أهداف مقابل ثلاثة. صَفّر الحكم فوجدنا أنفسنا نجرى مع الجمهور نحو حلمى، احتضناه كأننا فزنا. رفعناه عاليا مرددين اسمه:

«حلمى.. حلمى.. حلمى!»

قلت له ممازحا:

«شُفت يا غبى إنك أحسن حارس مرمى عندنا؟»

نظر حلمى لى نظرة امتنان لن أنساها وأنا أحتضنه وأقبّل رأسه. أعطيته ظهرى للحظة لأمسح الغبار الذى أثار عينيَّ بالدموع.

سرنا جميعا نحو بيت حلمى معفرين مغبرّين نضحك ونحن نكرر بعض الأحداث الرائعة لمباراة «الكورة الشراب» التى انهزمنا فيها هزيمة ساحقة. كنا نمشى على مهل كعادتنا مع مشية حلمى.

كان هو هذه المرة أسرع منا، يحجل بقدمه السليمة سابقا إيانا بخطوتين.

«فيينا ــ 2 يناير 2012»

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق