قصة كفاح مصرية.. شاهين وأبو سيف شكلا مشواره السينمائى
خاض الكثير من المغامرات الفنية مع مخرجين شباب شكلوا معا ثورة فى السينما المصرية
21 يوما فى المعتقل مع عبد الرحمن الخميسى وحسن فؤاد مثلت إضافة فنية وثقافية للفنان الشاب
مونولوج الموت في «السقا مات» واستشهاد مصرى مشاهد تدرس فى علم التمثيل
قليلون هم من يستحقون لقب النجم الذهبى فى السينما أو الفن، وواحد من هؤلاء هو النجم الراحل عزت العلايلى «15 سبتمبر 1934 ــ 5 فبراير 2021» صاحب التاريخ الطويل والمتنوع فى السينما والمسرح والتليفزيون والإذاعة لأكثر من 60 عاما. العلايلى الذى كان يحول أى مكان فى منزله إلى خشبة مسرح يصول ويجول فيها، ويجمع الجيران لمشاهدته. تفتحت موهبته فى سن مبكرة، وصار ابن باب الشعرية يعرف جيدا من داخله أن نداهة الفن قد أسرته، وأن الفن هو طريقه الموعود رغم العقبات والعثرات التى صادفته. كان من الممكن أن يبتعد عن طريق الفن، خصوصا بعد أن توفى والده، وترك له ميراثا ثقيلا من المسئوليات، كان من الممكن أن يستسلم ويتحول إلى موظف
يعول أسرته الكبيرة والتى صارت فى رقبته، ولكنه لم يعرف سوى التمرد، والمقاومة، ولم ييأس يوما رغم الصعوبات، حيث كان يعمل صرافا صباحا، ويدرس بالمعهد العالى للتمثيل مساء، لأنه أدرك من داخل قلبه أن حلمه سيتحقق لا محالة بعد يوم أو يومين أو سنوات، ولأنه ابن جيل تشكلت ملامحه مع روح المقاومة التى كانت سائدة فى هذا العصر تحقق له ما أراد، وصار واحدا من أهم نجوم جيل السينما المصرية والعربية، ليس ذلك فقط فهو صاحب الفرص الذهبية، والذى تمكن من خلال اختياراته أن يخوض الكثير من المغامرات الفنية مع مخرجين شباب شكلوا معا ثورة فى السينما المصرية، لذلك فى رصيد العلايلى بمفرده 10 أفلام تعد من أهم مائة فيلم فى تاريخ السينما المصرية.
فهو نجم متفرد فى تاريخ السينما المصرية يملك الكثير من المحطات المهمة والتجارب المتميزة مع كبار المخرجين، ومنهم صلاح أبو سيف «السقا مات، ومواطن مصرى، والقادسية»، ويوسف شاهين فى أفلام «الأرض، والاختيار، وابن النيل، واسكندرية ليه»، وكمال الشيخ «على من نطلق الرصاص»، وعلى بدرخان «أهل القمة»، وممدوح شكرى «زائر الفجر»، وخيرى بشارة «الطوق والأسورة» وغيرهم من المخرجين المهمين.
كما قدم عدة روايات من مؤلفات نجيب محفوظ من بينها الحرافيش، حيث جمعته صداقة وطيدة بأديب نوبل، كما كان من مؤسسى مسرح التليفزيون الذى انطلق منه زميلاه عادل إمام وصلاح السعدنى.
ولم تقتصر مسيرة العلايلى على السينما المصرية فحسب بل إن الراحل كان من أكثر الفنانين انفتاحا على السينما العربية، فجسد أدوار البطولة فى عدة أفلام لكبار مخرجيها ومنها «الطاحونة» للمخرج الجزائرى أحمد راشدى، و«سأكتب اسمك على الرمال» للمخرج المغربى عبدالله مصباحى، و«بيروت بيروت» الذى صوره فى لبنان من إخراج مارون بغدادى، و«شنواه» الذى أنتجته «منظمة التحرير الفلسطينية» وتم تصويره بالجزائر من إخراج سمير سيف، و«القادسية» الذى صوره مع سعاد حسنى وصلاح أبو سيف فى العراق.
وبالتأكيد لا نستطيع قراءة مشوار النجم القدير عزت العلايلى وشكل اختياراته بعيدا عن التحولات التى كان يشهدها المجتمع المصرى والعربى فى تلك السنوات المهمة، فهو ابن الطبقة المتوسطة التى كانت ولا تزال تكافح وتناضل من أجل المجتمع، ولم يكن يوما من الأغلبية الصامتة بل كانت بداخله روح الثورة والتمرد مثله مثل الكثيرين من شباب المجتمع المصرى الذين كانوا يناضلون لأجل تحرر مجتمعهم فى هذا التوقيت، وكان العلايلى أحد الذين ناضلوا ضد الاحتلال البريطانى لمصر فى شبابه، حيث لم يكتف بالتظاهرات بل سعى إلى الانضمام إلى صفوف الفدائيين فى مدن القناة عندما كان طالباً.
وحين أُعتدى على الرئيس الراحل جمال عبدالناصر فى حادث المنشية الشهير بمدينة الإسكندرية عام 1954، كان العلايلى أحد المعتقلين على خلفية هذا الحادث إذ ظل معتقلاً 21 يوماً، ولم يدر سبب اعتقاله إلا لاحقا، حيث اكتشف أن المحامى الذى كان يدعو الشباب للتطوع فى مدن القناة من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، غير أن الفترة التى أمضاها فى الاعتقال مثلت له إضافة ثقافية وفنية، حيث أمضاها مع مجموعة من المفكرين والكتاب وعلى رأسهم عبدالرحمن الخميسى وحسن فؤاد.
انعكست تلك الروح الثائرة والمغامرة على صاحبها، عندما قرر أن يبدأ مشواره الفنى والمتابع لما قدمه الفنان الراحل يستطيع أن يقول، وهو مطمئن أن هناك أربعة أدوار مهمة فى مشواره ومشاهد محددة تكفيه لنقول إنه واحد من «المشخصاتية» الكبار فى تاريخ الفن المصرى، والمفارقة أن معظم هذه الأعمال التى باتت من كلاسيكيات السينما المصرية مأخوذة عن روايات أدبية، حيث كان الراحل قارئا نهما للأدب وغيره.
العلايلى وشاهين
ربطت النجم القدير عزت العلايلى والمخرج يوسف شاهين علاقة متميزة على المستوى الإنسانى والمهنى، وقدم العلايلى مع شاهين دورين مهمين خلال مشواره، وهما شخصية التوأم «سيد ومحمود» فى فيلم الاختيار حيث جسد شخصية المؤلف المسرحى المثقف سيد، وشقيقه محمود الحر المنطلق، مما يجعلهما دائماً فى حالة صراع ظاهرى وداخلى،، حيث لعب دورَى التوأم الكاتب سيد الانتهازى، وأخيه الصعلوك العاشق للحياة محمود. وهو أحد الأفلام التى تحمل الكثير من التساؤلات الفلسفية، وتناقش التركيبة المعقدة للنفس البشرية. رغم أن احداثه تبدأ من خلال جريمة قتل غامضة، من قتل الاخر سيد المثقف المنضبط أم محمود الحر المغامر الجريء، من منهم يعانى فصام الشخصية؟ الفيلم صاغ له السيناريو والحوار نجيب محفوظ وشاهين وشارك فى الكتابة الاولى عزت العلايلى.
لكن الانطلاقة الفنية الحقيقية للفنان الكبير الراحل كانت من خلال فيلم «الأرض» سنة 1970، حيث قدم شخصية «عبدالهادى» ذلك الفلاح الشاب الذى يأبى الذل، ومستعد للتضحية بحياته من أجل الدفاع عن صديقه محمد أبو سويلم وشرفه المتمثل فى الأرض التى يمتلكها، والتى تريد الحكومة سلبها منه لإنشاء طريق جديدة تصل إلى قصر الباشا، وكيف جاء أداء العلايلى معبرا للغاية عن شخصية عبدالهادى الشاب الجامح الذى يرفض الاستسلام.
«السقا مات».. ومونولوج الموت
قدم العلايلى مع المخرج الكبير الراحل صلاح أبوسيف بطولة فيلم «السقا مات» سنة 1977 مع الفنان الراحل فريد شوقى الذى ألفه يوسف السباعى وكتب السيناريو والحوار له محسن زايد، وأنتجه يوسف شاهين، الذى كان يريد أن يخرجه، لكن صديقه العلايلى أقنعه بأن أبو سيف أفضل منه فى تلك النوعية، فأنتجه من خلال شركته «أفلام مصر العالمية».
فى السقا مات قدم العلايلى واحدا من أهم مشاهده التى تدرس فى علم التمثيل.
والمشهد عبارة عن مونولوج طويل مع الموت، صاغه محسن زايد بذكاء شديد وبلغة مكثفة وعميقة تعكس فلسفة الموت والحياة، وجسده العلايلى بفهم ووعى واحساس حيث بدا فى كادر واسع وفارغ من البشر، وكأن شوشة السقا يواجه ملاك الموت بمفرده، ويسير بخطى متثاقلة متحدثا إلى الموت الذى خطف منه زوجته ثم صديقه شحاتة، وانحناءة ظهره واكتافه المتدلية، وهى الحركات الجسدية البعيدة تماما عن مشيته وهو يرفع قربة الماء كانت عناصر هذا الفيلم متميزة على مستوى التكوين البصرى، وتوزيع الكتل والفراغ، والاضاءة وحركة الممثل.
ويروى المخرج الكبير صلاح أبو سيف فى أحد أحاديثه الصحفية عن فيلمه السقا مات حول أداء العلايلى لشخصية السقا «بائع المياه» المنتشر فى حارات القاهرة القديمة خلال بدايات القرن الماضى قائلًا «وبعد أن أسندت دور السقا للممثل عزت العلايلى حصل على قربة مياه حقيقية وأخذ يتمرن على كيفية تعبئتها وطريقة رفعها كى يحملها على ظهره ويمشى بها، وظل على هذه الحال أياماً كثيرة حتى أجاد تجسيدها على الشاشة.» هكذا كان العلايلى دائما فى تعامله مع شخصياته يسعى للتعبير بصدق عن الشخصية التى يقوم بها بشكل متعمق فى رسم التفاصيل الخارجية للشخصية من ملابس وحركة وصوت.
تلك الحالة من الأداء المتميز وصلت إلى ذروتها من خلال فيلم «المواطن مصرى» الذى أخرجه صلاح أبو سيف، وقام ببطولته العلايلى مع الفنان الكبير الراحل عمر الشريف، والمأخوذ عن رواية «الحرب فى بر مصر» للكاتب يوسف القعيد.
ويرصد الفيلم قصة عمدة يُدعى عبدالرازق الشرشابى «عمر الشريف» حين يُطلب ابنه الأصغر توفيق «خالد النبوي» للتجنيد، فترفض زوجته «صفية العمري» ذهاب ابنها، فيقترح عليه أحد الأشخاص بإرسال من ينتحل صفة ابنه للتجنيد بدلًا منه، وبالفعل بعد ترهيب وترغيب يقنع أبًا فقيرًا يُدعى عبدالموجود «عزت العلايلي» بإرسال ابنه مصرى «عبدالله محمود» للتجنيد، بالرغم من أنه هو وحيد أمه وأبيه، مقابل أن يعطيه خمسة أفدنة، وبالفعل يذهب مصرى للجيش باسم ابن العمدة، لتقوم بعدها حرب 1973. وبعد الانتصار يقرر مصرى قول الحقيقة وكشف ملعوب العمدة، ولكن دانة مدفع أصابته، فصرخ قبل موته بالحقيقة لزميله حسن «أشرف عبدالباقي»، ولما ذهبوا لقريته لتسليم جثته، تنازع الأبوان على الشهيد، لكن عبدالموجود، فى مشهد بديع ومؤلم قدمه العلايلى باقتدار، اضطر لإنكار أن الجثة تخص ابنه مصرى. مشهده الثانى والذى لا ينطق فيه بكلمة بل يجلس حاملا فى يده الفلوس التى قبضها من العمدة ثمنا لصمته وهى تتطاير من يده، وهى المشاهد التى يصعب تخيل نجم آخر غير الفنان القدير كان يستطيع أن يؤديها بهذه القوة والطبيعية، وفى هذا الفيلم تفوق العلايلى على كل من شاركوه الفيلم.
الأب العاجز ومصطفى الغائب فى الطوق والأسورة
ومع المخرج الكبير خيرى بشارة قدم عزت العلايلى شخصية «بخيت» أحد أهم أدوار تاريخه الفنى من خلال فيلم «الطوق والأسورة» سنة 1986، عن رواية يحيى الطاهر عبدالله، وسيناريو خيرى بشارة، التى صورت بؤس الحياة فى أقصى صعيد مصر، من خلال شخصية «حزينة» -جسدتها فردوس عبدالحميد- التى تنتظر مع زوجها المشلول -عزت العلايلي- عودة ابنها -قدمه عزت العلايلى أيضاً- من غربته فى السودان، وتعانى هى وابنتها وحفيدتها -قدمتهما شريهان- من بعدها من ظلم المجتمع وتمييزه ضد الإناث، منتظرين مصطف... الغائب الغالى الذى رحل مع الرجال هناك إلى البلاد البعيدة. هذا الغائب/ الحاضر الذى يعيش فى عقل الأب المقعد العاجز الذى يبكى فى الليل خلسة من آلام مرضه، ويقاوم إلى أن يدركه الموت، كما يعيش هذا الغائب فى قلب الأم الملهوفة التى تخطف رسائله لتشمها وتقبلها ثم تدسها فى صدرها، وينتهى الفيلم بعد عودة مصطفى من غربته فاشلاً أمياً كما كان من غير تحقيق أى شيء، لذا نراه فى النهاية يصرخ كالذبيحة فى واحد من أجمل المشاهد التى جسدها النجم القدير عزت العلايلى. «الواحد منا يسافر.. يسافر، والغربة تفك قيوده، فيتحرر من الطوق.. يكبر ويوعى ويقطع السلاسل.. ولما يرجع لداره.. لناسه، يكتشف الوهم.. الأساور فى اليد أقوى من زمان، والطوق على الرقبة أضيق من زمان.. والجذور هنا، الجذور قوية ومادة فى الأرض.»
رحل العلايلى تاركا ابداعات لا تنسى فى الفن العربى والمصرى ستحفظها الأجيال.
الفنان المصرى صاحب الحضور
فى السينما العربية 100 فيلم قدمها النجم الراحل
معلومات عن مشواره
> كان ماهرا فى تقليد المعلمين والمطربين وبالأخص فناني المونولوج ومنهم شكوكو
> انتقل لمدرسة (الشيخ صالح) الابتدائية، والتحق بقسم التمثيل فيها وتدرب على يد الأستاذ (عبد الحميد سليم) وهو شقيق الفنان عبد المحسن سليم
> جسد دور النبي موسي عليه السلام ولفت الأنظار وهو طالب في الابتدائية
> تتلمذ في المعهد العالي للفنون المسرحية على يد فتوح نشاطي ونبيل الألفي وعبد الرحيم الزرقاني ودرينى خشبة ومحمد مندور، ولويس عوض.
> ومن أبناء دفعته عايدة عبد العزيز وعبد العزيز مكاوى ورشوان توفيق وأحمد توفيق وعبد الرحمن أبو زهرة وإبراهيم الشامي.
> قدم العديد من الأدوار الوطنية المهمة في أفلام مثل الطريق إلى ايلات،وبئر الخيانة.
رابط دائم: