كان قرار تأجيل إطلاق موكب المومياوات الملكية سببا في شحن حالة الترقب المصري والعالمي لمتابعة هذا الحدث الفريد، وإجراء المراجعة تلو الأخرى لإجراءات نقل المومياوات، بما يضمن الحفاظ المطلق عليها من أي تأثيرات.
فبعد أن ظلت أجسادهم المحنطة «خبيئة» في صحراء جنوب مصر لآلاف السنين، وبعد أن تم عرضها وسط آلاف من القطع الأثرية الأخرى بالمتحف المصري، تستعد ٢٢ من المومياوات لملوك وملكات الفراعنة للانتقال إلى مستقرها الأخير والدائم، الذي تم إعداده بعناية فائقة، داخل المتحف القومي للحضارة، وهو الانتقال المقرر تنفيذه في صورة مبهرة تجذب أنظار العالم وتسهم في دعم وتنشيط السياحة في مصر.
#
وأثارت عملية نقل المومياوات وعرضها العديد من التساؤلات بين المهتمين بالحدث، وتحديدا حول كيفية النقل الآمن، وأيضا العرض المتحفي الأمثل لهذه القطع ذات الحساسية الشديدة.
وقبل الإجابة عن هذه التساؤلات، يؤكد الدكتور مدين حامد عبد الهادي، خبير الآثار ومدرس ترميم وصيانة الآثار والمخطوطات بكلية الآثار جامعة الفيوم، أن المومياوات هي آثار ذات طبيعة خاصة جدا، فقد خضعت لعملية التحنيط قبل آلاف السنين، باستخدام تنوع هائل للمواد المستخدمة، والمختلفة في طبيعتها وخواصها الكيميائية، والتي قد ينشأ بينها تفاعل «فيزيو- كيميائي» يعرف بالتلف البيولوجي. ويتسبب في تلف محتمل للمومياء، وذلك في حالة توافر الظروف المناسبة من أكسجين نشط، أو تلوث جوي من عوادم السيارات، أو تذبذب معدلات الحرارة والرطوبة النسبية.
وبالتأكيد، يمكن تجنب هذا التفاعل باتخاذ التدابير الوقائية من عزل وتعقيم، ونقل داخل كبائن معدلة البيئة وفق المقاييس الدولية في الحفظ والصيانة.
أسرار التحنيط ومتطلبات النقل.
ويوضح مدين طبيعة التحنيط لدى قدماء المصريين، الذي كان هدفه حفظ الأجساد لتمام مهمتها في العالم الآخر، حسب معتقداتهم وقتئذٍ وتحقيقاً لفكرة النوم والراحة حسب تفسيرهم للموت.
#
والتحنيط عملية دقيقة تبدأ باستخراج «المخ» عبر الفراغ الأنفي، ليحل محله كوة من الكتان المشبع بمادة «الراتينج»، ثم تفرغ البطن من موادها الرخوة القابلة للتحلل من خلال فتحة في الجانب الأيسر من البطن ويترك القلب لدوره في عملية الحساب، ويتم حفظ الأحشاء المستخرجة في حاويات عرفت لاحقاً بالأواني «الكانوبية» بعد غسلها وتطهيرها، ويجفف الجسم والأحشاء بغمرهما المتناوب على مراحل في الملح المقدس، في إشارة إلى ملح «وادي نطرون». وبعد انقضاء المدة المخصصة لذلك والتي تتعدى الـ٤٠ يوما، وتصل في أحيان كثيرة إلى ٧٠ يوماً، يخاط الشق البطنى بأسلاك الذهب، وفي النهاية، يتم لف المومياء بالحصير أو ألياف البردي أو لفافات الكتان حسب المرحلة والظروف الراهنة.
وذكر خبير الآثار أن هناك مجموعة من التدابير والاحتياطات التي يتوجب اتخاذها قبل القيام بنقل المومياوات الملكية من مقرها إلى مثواها الأخير، حيث يجب دراسة حالة كل مومياء بشكل مستقل، ويتم وضع خطة كاملة لنقل كل مومياء، حسب حالتها، وذلك من خلال مجموعة من الفحوص والقياسات اللازمة كقياس درجة الأس - الهيدروجيني، والفحص بالأشعة المقطعية لمعرفة الكسور والتمزقات.
وتتطلب الخطة تحديد جنس المومياء - ذكرا أم أنثى - بتحليل المادة الوراثية DNA، ودراسة المعادن المستخدمة لخياطة الشق البطني الأيسر للمومياء.
ولتنفيذ الفحص الممهد لوضع الخطة اللازمة، يفضل استخدام تقنيات التصوير، وتقنيات التحليل وغير الجائرة كلما كان ذلك ممكناً، وأن تتم معالجة ما تلف من المومياوات، مع التعقيم المستمر قبل القيام بعملية النقل بوقت كاف لتجنب نشاط مواد العلاج عند تغيير الظروف البيئية المحيطة.
ويطرح مدين مجموعة من الشروط التي يجب توافرها في أثناء عملية النقل، ومن أهمها ثبات المومياء والتابوت على وضعه الطبيعي، وأن يتم النقل بواسطة سيارات مجهزة خصيصا، وذلك لتجنب حدوث تمزق بأربطة وأنسجة المومياوات، والتزام الموكب المنتظر بأدنى مستويات السرعة، وعبر طرق واسعة خالية من الأشغال، وفي وجود خبراء قادرين على مواجهة الظروف الطارئة.
كما أكد مدين ضرورة استخدام وسائل رفع ثابتة وآمنة، وتجنب قيام العمال بهذه المسألة، إلا إذا كانت لهم خبرة كافية بتدابيرها لتجنب سقوطها على الأرض، ما قد يترتب عليه من تهشمً كامل لتلك البقايا الآدمية الشديدة الحساسية.
كما يتطلب الأمر ضرورة استخدام مواد تغليف تتصف بالثبات ضد الاهتزازات، ويفضل أن تسلح مناطق الغور والبروز بمخدات من الكتان أو القطن المضغوط المعالج ضد الحموضة والخالي من الرطوبة، إلا ما يحفظ عليه مرونته وثباته عند الضرورة، واستخدام علب من الكرتون المقوى الخالي من الحموضة وبسمك مناسب، وتجنب استخدام خامات البوليمرات والفيبر لضررها الكيميائي، فهي قد تتسبب في جفاف الأنسجة.
وعن العرض المتحفي للمومياوات، أشار مدرس ترميم وصيانة الآثار إلى اختلاف المومياوات عن القطع الأثرية الأخرى حتى في أسلوب العرض، فقد أوصت الدراسات المختلفة بتوفير الظروف البيئية الملائمة، لحفظ المواد العضوية الحساسة أو شديدة الحساسية، وأبرز عناصر هذه الفئة، المومياوات والتوابيت الخشبية بصفة خاصة، فحرارة كبائن وغرف العرض تتراوح في العادة ما بين ٢٠ و٢٢ درجة، ويجب أن يقل تركيز الأكسجين عن ١٪، ولا يزيد مقدار الرطوبة النسبية على ٥٥٪ لكل المعروضات، و٤٠٪ لأنسجة الإنسان أو الحيوان، ولا تتعدى نسبة التلوث الجوي ٤٤ ميكروجراماً لكل مترٍ مكعب من المساحة الحاوية، وذلك بتوظيف مرشحات مناسبة، أو استخدام مرشحات الضوء المعتمدة، والحفظ في جو خامل باستخدام غازات خاملة كغاز النيتروجين الخامل، ووفق أساليب وظروف العرض المتحفي الموصي بها.
فمفهوم العرض المتحفي يرتبط بتوفير البيئة المناسبة والظروف الملائمة والمثلي لحفظ الأثر والتصميم المناسب للمبني حسب بيئته والمقاوم للحرائق والاهتزازات والداعم مع سيناريو عرض مشوق وجاذب لمرتادي المتحف ودارسي الآثار وغيرهم.
أما الدكتور حسين عبد البصير، مدير متحف آثار مكتبة الإسكندرية، فأكد أن عملية نقل المومياوات الملكية سوف تتم على أعلى مستوى من الدقة، ويسبقها عمليات ترميم وصيانة للمومياوات وكذلك التوابيت الملكية تحت إشراف خبراء مميزين في الإدارة المركزية للترميم بوزارة الآثار.
وعن العرض المتحفي، أشار عبد البصير إلى أنه يلعب دورا مهما جدا في تعريف الزائر بالقطعة الأثرية وتاريخها ويتم تصميم قاعة العرض بصورة تشبه المكان الموقع الأصلي لاكتشاف الأثر وتراعي فيه عدة شروط أهمها البيئة المحيطة، فيتم الالتزام بدرجة حرارة ودرجة رطوبة معينة، وكذلك بالنسبة للإضاءة.
وقال: «العلم تقدم كثيرا في هذا المجال، فلدينا الآن فترينات عرض ذات مؤشرات إلكترونية توضح للمرممين ومراقبي العهدة الأثرية كافة المؤشرات البيئية المحيطة بالأثر».
ومسألة الإعداد السليم للبيئة تخدم أيضا الهدف النهائي لعملية نقل المومياوات الملكية، كما أوضح الدكتور أحمد بدران، أستاذ الآثار والحضارة المصرية القديمة بجامعة القاهرة، الذي يقول إن عملية النقل تستهدف تطوير قواعد العرض المتحفي، وتنويعه وإدخال عناصر جديدة، ليس فقط في متحف الحضارة، ولكن أيضا للمتحف المصري والمتحف الكبير.
فعلى سبيل المثال، تم نقل مجموعة الملك توت عنخ أمون بالكامل والمكونة من أكثر من خمسة آلاف قطعة إلى المتحف الكبير ليتم عرضها بالكامل في مكان واحد لأول مرة، ويتيح ذلك عرض قطع أخرى بشكل أفضل داخل المتحف المصري، الذي تكدس بالقطع الأثرية.
وقال بدران: «نقل مجموعة قوية مثل مجموعة المومياوات الملكية لمتحف الحضارة خطوة جيدة جدا في مصلحة وضع هذا المتحف على الخريطة السياحية العالمية، وبخاصة مع التطوير الذي شهده المكان».
ويتميز متحف الحضارة بتصميم معماري فريد، مع التزام قاعات عرض المومياوات الملكية بتصميم يحاكي المقابر، التي وجدت بها بوادي الملوك والملكات.
وتمت إضافة أساليب عرض مبتكرة مدعومة بالوسائط المتعددة، بالإضافة لعرض التابوت الأصلي بجوار المومياء، وكل المتعلقات الجنائزية الخاصة بالملك مثل «كتاب الموتى»، أو «البرديات»، و»الأواني الكانوبية»، وحتى الاختبارات والأشعات التي تمت على المومياء، وسوف يتم عرضها بجوارها، بالإضافة لعرض معلومات قيمة ومدققة عن الملك صاحب المومياء وسبب وفاته.
رابط دائم: