رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

‎هيئة تحرير الشام: تحولات الاسم والدور وتلميع صورة الإرهاب

سميث والجولاني

> ‎برنامج دراسات الإرهاب والتطرف ــ ‎مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام

نشر الصحفى الأمريكى مارتن سميث صورة جمعته مع قائد تنظيم «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقا) أبو محمد الجولاني، عبر حسابه على موقع «تويتر» فى 2 فبراير الجاري. وعلّق على الصورة بقوله: «عدت للتو من زيارة إلى إدلب استغرقت 3 أيام، التقيت فيها بمؤسس جماعة جبهة النصرة المرتبطة بالقاعدة، وتحدثنا عن هجمات 11 سبتمبر 2001، وعن القاعدة وعن أمريكا». وكان لافتاً أن الجولانى ظهر فى هذا اللقاء لأول مرة بزى عصرى مختلف عن الزى الدينى التقليدى أو الزى العسكرى والذى كان دائم الظهور به منذ نشأة التنظيم الإرهابى فى يناير 2012.

هذا اللقاء الذى جمع الجولانى بالصحفى الأمريكي، لم يكن الأول من نوعه، إذ سبقه لقاء مماثل فى يناير 2020 بـ«مجموعة الأزمات الدولية»، وكانت حينها من أولى المرات التى تتصل فيها جهة غربية كهذه المجموعة بتنظيم محسوب على «القاعدة». لكن اللقاء الأخير أثار العديد من التساؤلات ليس فقط فيما يتعلق بتفاصيله وتوقيته، ولكن أيضاً فيما يتصل بالتحولات التى تجرى فى بنية تنظيم «هيئة تحرير الشام» خلال الأعوام الأخيرة وما قد ينشأ عنها من تغييرات تؤثر على مجمل المشهد السورى وسبل التسوية السياسية للصراع الذى اتخذ منحيٍ مسلحاً منذ انخراط «جبهة النصرة» فيه عام 2012. كما تؤثر هذه التحولات على مستقبل التنظيم الإرهابى الذى تمثله «الهيئة». فهل هى محاولة لإعادة هيكلة التنظيم الإرهابى من أجل إعادة توظيفه مرة أخرى فى الصراع السورى لحساب قوى دولية وإقليمية؟

 

«ذيل القاعدة» فى سوريا

نشأت «جبهة النصرة» فى سوريا منذ صيف عام 2011 استجابة لرسالة أطلقها زعيم «القاعدة»، آنذاك أيمن الظواهري، يدعو فيها إلى «نصرة أهل الشام لمواكبة المظاهرات السلمية التى كانت قد بدأت قبل أشهر فى سوريا للمطالبة بإصلاح النظام». ونُسبت إلى «الجبهة» باكورة العمليات الإرهابية التى بدأت تتوالى فى سوريا منذ يناير 2012. ففى مقابل المظاهرات السلمية المطالبة بالإصلاح والتى انتظم فيها الشباب السورى آنذاك، بدأت «الجبهة» تنشط لتجنيد الشباب السورى والعربى والأجنبى على أجندة جهادية عالمية تقضى بـ «قتال النظام السورى على أساس طائفى متشدد». ومن ثم، كانت «النصرة» بؤرة تجنيد إرهابية عالمية للشباب المتطرف الراغب فى الانخراط فى القتال فى سوريا، وضمت جنسيات متعددة إلى جانب السوريين مثل العراقيين واللبنانيين والخليجيين والتوانسة والمغاربة والأوروبيين وغيرهم. غير أنه، ومنذ أبريل 2013، نشأ الشقاق الشهير بين «الجبهة» فى سوريا وتنظيم «الدولة الإسلامية فى العراق»، حيث ادعى القائد السابق للتنظيم الأخير، أبو بكر البغدادي، أن «النصرة تؤتمر بأمره وأصبحت تابعة له فى كيان جديد اتخذ اسم الدولة الإسلامية بالعراق والشام» وسُمى اختصارا «داعش». بينما رفض أبو محمد الجولانى هذا الإعلان وجدد صلته وولاءه لتنظيم «القاعدة» العالمى ورفض التبعية للكيان الجديد أو الانضواء تحت زعامة البغدادي.

هذا الخلاف أدى إلى سلسلة من المعارك البينية بين الألوية المسلحة التابعة لـ«النصرة» وتلك التابعة لـ«داعش» والتى تعمل على الأراضى السورية. لكن منذ أغسطس 2014 صعد نجم «داعش» بقوة وإزاء هذا الصعود الكبير لـ«داعش»، تلقت «الجبهة» ضربة قوية بانشقاق مجموعات كبيرة من الألوية التابعة لها والتحاقها بـ «داعش» الذى أصبح البؤرة الأكثر تأثيراً فى شبكات الجهاد العالمى ومحط أنظار الشباب المتطرف الراغب فى القتال فى سوريا خاصة من الغرب.

ودفع ذلك «النصرة» إلى إعادة ترتيب صفوفها والبحث عن تجنيد الشباب من المناطق السورية الفقيرة الواقعة تحت سيطرتها، خاصة فى إدلب، بالإضافة إلى المناطق الفقيرة فى شمال لبنان والمحاذية للحدود السورية. وقد تبنت خطابا يستند على التحريض الطائفى بين السنة والشيعة، ودعت لمواجهة مخططات إيران فى المنطقة لجذب الشباب اللبنانى السُنى الحانق على تصاعد نفوذ الشيعة. وقد نجح الترويج لهذا الخطاب فى مد «الجبهة» بالشباب المتطرف، وسمح لها بإعادة ترتيب صفوفها، وهو ما دفع الجيش اللبنانى إلى خوض معارك ضارية فى المناطق الحدودية لتطهيرها من البؤر التابعة لتنظيم «القاعدة» والمتحالفة مع «النصرة».

 

محاولات الإفلات من العقاب

وفيما كان «داعش» يؤسس لنفوذه فى مناطق شاسعة من سوريا والعراق ويحظى بالاهتمام العالمى وتنصب عليه جهود مكافحة الإرهاب، كانت «النصرة» تؤسس لنفوذ أكثر رسوخاً على مساحة جغرافية محدودة من شمال سوريا. إذ عززت من وجودها فى منطقة إدلب وريفها، وعقدت تحالفات واسعة مع المجموعات المسلحة العاملة فى هذه المنطقة وتزعمتها وأصبحت لها اليد العليا فيها. واعتمدت إستراتيجيتها على البعد عن أجندة «الجهاد العالمي» التى تجذب الأنظار وتجلب الضربات الجوية، كما كان الحال مع «داعش» آنذاك، حيث أصبحت تركز على التحالف مع المجموعات المسلحة المحلية لكى تنفى عن نفسها صفة «الجهاد العالمي» المستوجب للمكافحة الدولية. ومن هنا تزعمت «النصرة» مجموعة من الميليشيات المسلحة السورية ضمن تحالف «جبهة فتح الشام» فى يوليو 2016، وشنت معارك واسعة للسيطرة على عدة مناطق من الشمال واقتنصتها من النظام السوري. ثم عاود أبو محمد الجولانى التحول بجماعته مرة أخرى فى يناير 2017 تحت مسمى «جبهة تحرير الشام» لتضم تحالفا أوسع مع الميليشيات المسلحة فى إدلب وتبتعد أكثر فأكثر عن خطاب «القاعدة». وكان ذلك جليا عندما دبت الخلافات الشديدة بين قيادات «هيئة تحرير الشام» حول تخليها عن خط «القاعدة» ومحاولة التحول إلى فصيل محلى مثل بقية الفصائل السورية. وهنا بدأت سلسلة من الاغتيالات للجناح المتشدد داخل «النصرة» الذى يرفض الابتعاد عن خط «القاعدة»، كما بدأت مجموعات أخرى أشد ارتباطاً بـ «القاعدة» تناصبها العداء وأبرزها «حراس الدين» و«الحزب الإسلامى التركستاني».

غير أن هذه المحاولات المتتالية للتحول والتلون لم تفلح فى تغيير حقيقة «هيئة تحرير الشام»، والتى كانت قد أُدرجت على قائمة الإرهاب لوزارة الخارجية الأمريكية وأصبح زعيمها الجولانى على قوائم المنع الخاصة بالإرهابيين العالميين منذ مايو 2013 وخصصت مكافأة لاعتقاله تبلغ عشرة ملايين دولار. كما خضعت «النصرة» أيضا وزعيمها الجولانى -ولا يزالون- لعقوبات قائمة الإرهاب وفقا لمجلس الأمن الدولى منذ 24 يوليو 2013.

كسر العزلة

يشير تحليل بيانات ورسائل التنظيم خلال العامين الماضيين، إلى أن الجولانى بات يركز على انتهاء مفهوم «الجهاد العابر للحدود» وفك الارتباط مع «القاعدة» وتجديد هوية تنظيم «هيئة تحرير الشام» كجماعة معارضة مسلحة سورية لمواجهة الخطر الإيرانى والداعمة للأجندة التركية فى مواجهة النظام السوري. كما دأب الجولانى فى الفترة الأخيرة على التجول فى أنحاء إدلب، خاصة فى مناطق مخيمات النازحين، لكى يستمع إلى شكاوى الأهالى من نقص الخدمات وتردى الأوضاع المعيشية وكأنه «زعيم سياسي» محلى وليس إرهابيا مطلوبا على القوائم الدولية للإرهاب. ومن ثم، يهدف الجولانى من خلال الظهور الإعلامى مع صحفيين غربيين إلى كسر العزلة الدولية المفروضة على تنظيمه الإرهابى ومحاولة إعادة التسويق الإعلامى والسياسى لنفسه.

وفى أواخر عام 2019 اعتبر الجولانى فى كلمة بعنوان «حرب تحرر واستقلال» أن «الانتصار ضد النظام السورى قد تحقق وأن القتال فى سوريا دخل مرحلة جديدة هى مرحلة مقاومة الاحتلالين الروسى والإيراني». وأعقب هذا الظهور حوار له مع «مجموعة الأزمات الدولية» فى فبراير 2020، حيث أكد فى المقابلة تخليه عن طموحاته الجهادية العابرة للحدود وأنه يركز فقط على حكم المنطقة الواقعة تحت سيطرته بالفعل. كما بث التنظيم رسالة فى 7 أكتوبر 2020 مفادها الدعوة لإعادة تشكيل المستويات العسكرية للتنظيم لتدل على بدء «الهيئة» فى تنفيذ تصوره حول انتهاء النسق والمسار الجهادى للتنظيم والتحول لقوة مسلحة محلية معارضة.

 

معضلة إدلب

عندما توالت حلقات مباحثات آستانة منذ يناير 2017 برعاية روسية- تركية- إيرانية كان الهدف منها هو حل الصراعات المسلحة فى نطاقات جغرافية متفرقة على الرقعة السورية. وفيما كانت المناطق الواقعة تحت سيطرة »داعش« تتحرر الواحدة تلو الأخرى بفعل القوة العسكرية، سواء برعاية أمريكية أو روسية، كانت المناطق الواقعة تحت سيطرة المجموعات السورية المعارضة تخضع لاتفاقات محلية برعاية الروس لإخراج المسلحين وتسليم أسلحتهم وعودة الحياة إلى طبيعتها وإعادة سلطة النظام السورى إليها. لكن بقيت إدلب معضلة أساسية غير قابلة للحل ضمن اتفاقات آستانة، إذ شهدت اتفاقات متكررة لوقف إطلاق النار سرعان ما يتم خرقها. كما بقى كل من «داعش» و«النصرة» ــ بنسخها المتعددة وصولاً إلى «هيئة تحرير الشام» ــ محرومين من المشاركة فى مفاوضات الحل النهائي، سواء فى آستانة أو فى جنيف، وهو ما جعل لتحولات الجولانى أهمية كبيرة للتنظيم، فطالما ظل يتمسك بخطط الجهاد العالمى والتبعية لـ «القاعدة»، وسيبقى محروماً من المشاركة فى تسويات الحل النهائى فى سوريا على عكس بقية الفصائل. ومن هنا، بدأت محاولاته الحثيثة للتخلص من عبء «القاعدة» والتلاقى مع المجموعات السورية الموجودة فى إدلب للاندماج معها فى نسيج واحد ضمن تحالفات أوسع. غير أن هذه المحاولات لم تفلح فى إقناع العالم بـ«القناع الجديد» ولكنها سببت مشكلة إنسانية كبيرة لإدلب وسكانها الذين يقدر عددهم بعد توالى النزوح إليها بنحو ثلاثة ملايين نسمة.

وتتعرض إدلب وريفها لعمليات عسكرية متتالية وضربات جوية من جانب النظام السورى وحليفه الروسى من أجل السيطرة العسكرية عليها وإعادة ضمها لسلطته. غير أن الحسم العسكرى لا يقدم أى حل ملموس فى ظل الاكتظاظ السكانى للمدنيين فى إدلب، بل يُخلِّف المزيد من الخسائر فى البنية التحتية للمرافق والمدارس والأسواق والمستشفيات ويدفع المزيد من السكان للنزوح إلى مناطق نائية والسكن فى مخيمات غير مجهزة ومحرومة من كافة الخدمات الأساسية. وفى المقابل، تتلكأ تركيا باستمرار فى حل الأزمة فى إدلب بدعوى عدم قدرتها على السيطرة على «هيئة تحرير الشام» وصعوبة التوصل معها لاتفاق شامل. غير أن سلطة «الهيئة» ترتبط فى الحقيقة بإحكام السيطرة على المعابر الحدودية مع مناطق النظام السورى من جهة، ومع الحدود التركية من جهة أخري، وهى الإدارة الحدودية التى تمكنها من تحقيق ثروات هائلة من خلال التحكم بحركة البضائع والتهريب وفرض الرسوم والجمارك وغيرها من الأنشطة المُدِرَّة للدخل. وفيما تدّعى «الهيئة» قيامها بتوفير احتياجات السكان المحليين من خلال «حكومة الإنقاذ» التى تديرها، فإنها فى الحقيقة تتخذ من هؤلاء المدنيين رهائن كى تضمن عدم إقدام القوى الدولية على أية عمليات للحسم العسكرى فى إدلب.

 

حسابات أنقرة

فى هذا السياق، تواصل تركيا تقديم دعمها وحمايتها لـ«الهيئة» كى يستمر الوضع القائم،.

ولا تنفصل «الهيئة» عن الأدوات التركية للسيطرة على الشمال السوري؛ فرغم أن الثقل الأساسى للميليشيات الموالية لأنقرة يقع فى محافظة حلب وبالأخص فى أجزائها الشمالية، فإن استمرار الفوضى فى إدلب يخدم بلا شك الأهداف التركية. ذلك أن الإبقاء على المحافظة فى ظروف معيشية صعبة، وتحت رحمة القصف الجوى المتكرر وانعدام شبه كامل لكافة الخدمات الأساسية يجعل منها «خزاناً مهما» للعناصر الراغبة فى الالتحاق بالقتال، سواء لأهداف عقائدية متطرفة أو كمرتزقة لتلقى أجور مقابل مشاركتهم فى القتال، وهو ما يعنى أن استمرار الوضع الإنسانى المتردى فى إدلب يجعل من شبابها صيداً سهلاً لمتعهدى شحن المرتزقة لحساب أنقرة للقتال، سواء فى ليبيا أوإقليم ناجورنى قره باغ. وبالتالي، فإن إعادة تلميع صورة «هيئة تحرير الشام» والظهور المتكرر لزعيمها الإرهابى الجولانى يهدف إلى إعادة صياغة خريطة التنظيمات الإرهابية المرتبطة بتركيا ومحاولة إيجاد موطئ قدم لها فى أى مفاوضات قادمة للتسوية السورية، وهو بدوره يعكس طمع الجولانى فى الحصول على الشرعية لتنظيمه رغم تاريخه الإرهابى المرتبط بـ«القاعدة»، تماماً كما حصلت حركة «طالبان» الأفغانية على هذه الشرعية فى المفاوضات التى جمعتها مع الولايات المتحدة. ويعنى ذلك فى النهاية أن الجولانى يهدف إلى رفع اسم تنظيمه من قوائم الإرهاب وتبييض ساحته والاستعداد لمرحلة تحريك المياه الراكدة فى الأزمة السورية.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق