كان السؤال الأول الذى تبادر إلى ذهنى: ما هو الجديد الذى يمكن أن يكتب عن القهوة ويحتاج إلى أكثر من أربعمائة صفحة؟! والأهم ما هى خطوط الالتقاء ما بين الرأسمالية والاشتراكية وحبوب البن؟ لماذا يعمد أكاديمى بارز وذائع الصيت إلى اختيار مثل هذا الموضوع ليكون مشروعه الذى يكرس له عدة سنوات من عمره؟! سرعان ما كانت الإجابات تأتى تباعا، لقد اتضح أن للقهوة ماضيا مريرا، ومع مواصلة قراءة ممتعة لكتاب يدخلك فى منحنيات وزوايا فكرية وتاريخية وسياسية خفية، تجعل صفحات الكتاب متعة استثنائية بقدر شربك لعدة أكواب من القهوة الطازجة.
إنها القصة الملحمية لكيفية ارتباط القهوة بالعالم الحديث وتقسيمه، والصراع بين الرأسمالية والاشتراكية يرصدها أوجستين سيدجويك، أستاذ التاريخ والدراسات الأمريكية المرموق بجامعة نيويورك، فى كتابه الأول «أرض القهوة: الإمبراطورية السوداء وصناعة المشروب المفضل» الذى تلقى الإشادات النقدية، وتربع على عرش أكثر الكتب مبيعا لشهرين متتابعين، راصدا التاريخ الاجتماعى والاقتصادى والسياسى لصناعة القهوة وتحولاتها على مدى 500 عام من خلال قصص لا يعرفها سوى القليلين.
اللحظة التاريخية الأولى بقصة القهوة -وفقا لسيدجويك -تبدأ براعى ماعز بقرية إثيوبية نائية يلاحظ عن طريق المصادفة أن حيواناته تنشط بغتة وتبقى مستيقظة طوال الليل بعد قضم نبات يبدو أشبه بالتوت البري، ينمو على شجيرة ذات أوراق خضراء زاهية، القصة وغيرها من مغامرات حول استخدام زهرات هذه الشجيرة وتحويلها إلى بن محمص ومحوج ومطحون تدخل فى اطار الأساطير الشعبية، لكن أول الأدلة الموثقة على شرب القهوة تعود إلى الإمام الصوفى محمد ابن سعيد الذبحانى الذى يقال انه استورد البن من إثيوبيا ونقله إلى اليمن وان طوائف صوفية باليمن استخدمته كمشروب يساعدهم على التركيز والسهر والوصول الروحانى أثناء حلقات الذكر، مما جعله مرتبطا بالصوفية لعدة قرون، وبحلول القرن الخامس عشر كانت القهوة تنتشر بمصر وشمال إفريقيا، ونشأ عدد من المقاهى بالأساس حول جامع الأزهر ثم سوريا وأخيرا إسطنبول عام 1554. وخلال القرن السادس عشر وصلت القهوة إلى بقية دول الشرق الأوسط ومنها انتقلت إلى إيطاليا ثم بقية أوروبا. فى السنوات التالية قام البشر بتقديم الكثير لهذا النبات السحري. أكثر من 27 مليون فدان من المزارع الجديدة فى جميع أنحاء العالم، وارتفع سعره ليصبح أحد أكثر المحاصيل قيمة بالتجارة العالمية، يستخدمه 80% من البشر يوميًا. ليهيمن على الإنسان الذى بالكاد يستطيع الآن النهوض من الفراش دون كوب منه. يربط سيدجويك ما بين ظهور القهوة وصعود الرأسمالية الحديثة، حيث سمحت للموظفين من أصحاب الياقات البيضاء والعمال أصحاب الياقات الزرقاء، بالعمل لساعات أطول مع تحسن التركيز، كأحد أشكال الطاقة الفورية أو كما أطلق عليها فى البدايات «دواء العمل».
ثم تأتى اللحظة التاريخية الثانية والأهم، وهى قصة جيمس هيل الشاب الإنجليزى الذى ولد بمدينة مانشستر الصناعية عام 1871، ثم قرر التوجه إلى السلفادور ليصنع ثروته. وهناك، بنى سلالة قهوة من خلال إعادة تشكيل الريف السلفادورى على شكل مصانع مانشستر. أصبح هيل رئيسًا لإحدى «العائلات الأربع عشرة» التى سيطرت على الاقتصاد والسياسة بالسلفادور خلال معظم القرن العشرين. تتطلب زراعة البن قدرًا هائلاً من العمالة. ويبدو أن السؤال الأساسى الذى يواجه أى رأسمالى محتمل - كما يذكرنا سيدجويك -كان دائمًا وأبدًا «ما الذى يجعل الناس يعملون؟». لقد فهم هيل، وهو رجل أعمال ذكى وغير عاطفي، أنه يحتاج إلى قدر هائل من العمال، كان يعلم أن أفضل إجابة لسؤاله: «هو فى الواقع بسيط: الجوع».
تأكد هيل بالسنوات التالية من أن أراضيه لن تكون قادرة على إنتاج حبات فاكهة يتناولها السكان الأصليون الـ «موزوس» بلا مقابل من على الشجر، اقتلع بلا رحمة أى مواد غذائية أخرى ظهرت عن طريق الخطأ بين أشجار قهوته، لضمان عدم تمكن أى شخص من تهدئة جوعه على نحو خبيث. إذا كنت ترغب فى تناول الطعام، فلن يكون أمامك خيار سوى القدوم للعمل وجمع أكبر عدد من حبات البن، بل يذكر أن هيل أمر بإطلاق الرصاص على طفل بالعاشرة اقتطف حبة مانجو! كما يشير، سيدجويك فقد حلل هذا المغامر الجاهل أفكار ماركس وفريدريك إنجلز للرأسمالية الصناعية وصدرها لمزارعه بأوائل ثلاثينيات القرن الماضي. اللحظة التاريخية الحاسمة التالية ترتبط بشكل خاص بالأمريكيين الذين خلال حربهم للاستقلال عندما انفصلت البلاد عن عادة شرب الشاى الإنجليزية وأصبح شرب القهوة عملاً وطنيًا. يوضح سيدجويك كيف تم الترويج للقهوة بأمريكا على أنها مشروب لذيذ أو تجربة ممتعة فى إطار الحرب الثقافية ضد الشاى الإنجليزي، خلال الحرب الأهلية الأمريكية، تم ذكر القهوة فى يوميات الاتحاد أكثر من ذكر الرصاص أو البنادق. اتضح أن الجيش لم يعتمد على ذخائره بقدر ما اعتمد على الإمداد المستمر بخمسة أكواب من الكافيين يوميا. ويذكر أن الرئيس الجمهورى ويليام ماكينلى قد لقب بـ «فتى القهوة» لتقديمه البطولى لأكواب القهوة الساخنة لقوات الاتحاد المنهكة خلال معركة «انتيتام» عندما كان رقيبًا بسن المراهقة. يروى سيدجويك قصة مصنع غزل بمدينة دنفر الأمريكية، فعندما فقد الصانع المحلى أفضل مشغلى النول الذكور خلال المجهود الحربى بأوائل الأربعينيات، وظف مالك المصنع نساء فى منتصف العمر، كن يعملن جيدا على الآلات لكنهن افتقرن للقدرة على تحمل العمل وردية كاملة. وعندما دعا لاجتماع لمناقشة المشكلة، كان لدى موظفيه اقتراح: امنحنا استراحة لمدة 15 دقيقة مرتين يوميا مع القهوة، وسرعان ما لاحظ تحسنا هائلا فى أداء عاملاته. فى عام 1956 صدر قرار من قبل محكمة استئناف فيدرالية بجعل فترة استراحة القهوة أو «كوفى بريك» بالحياة الأمريكية أمرا لا نقاش فيه. ولأن البن نبات صعب الإرضاء، ولأن العالم لديه فقط القليل من الأماكن المناسبة لإنتاج القهوة فبحلول عام 2050 سيكون البن أحد المحاصيل المعرضة للخطر بسبب تغير المناخ. وبمعنى آخر قد تقتل الرأسمالية الأوزة الذهبية.
رابط دائم: