كل شيء كان جاهزاً لصناعة الأسطورة ولم يبق لأم كلثوم «1898 ــ 1975» إلا أن تقبض عليها. فالبلاد محتلة والغناء خليع، والشباب يتم إرسالهم للمشاركة فى الحرب العالمية الأولى، حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.. كثير من البيوت حزينة، القرى يأكلها الفقر، والمدن يعبث فيها جنود الاحتلال.
ومثل معظم الأساطير جاءت اسطورة أم كلثوم من الريف قرية طماى الزهايرة حيث الخيال الجامح والأحلام بلا نهاية، الأفق مفتوح والسماء قريبة.
وفى ليلة من ليالى رمضان نام الشيخ إبراهيم البلتاجى فى المسجد ورأى فى منامه سيدة فى ملابس بيضاء، يشع وجهها نوراً، تعطيه لفافة خضراء.
وسأل: ما هذا
قالت: هذه جوهرة وبشرى السعد
سأل: من أنت
أجابت: أنا أم كلثوم ابنة النبى محمد
وبعدها بقليل وضعت زوجته طفلتهما فسماها على الفور أم كلثوم. كما ذكرت رتيبة الحفنى فى كتابها عن أم كلثوم.
والشيخ إبراهيم البلتاجى الذى كان يعمل منشداً فى الموالد سوف يصنع أسطورة ابنته بيديه عندما يكتشف جمال صوتها، يطلب منها أن ترتدى ملابس الأولاد حتى تنشد وتغنى معهم، فالإنشاد فى الموالد والسرادقات للرجال فقط.
ارتدت الطفلة أم كلثوم جلباب صبيان ولملمت شعرها خلف كوفية، وانطلقت تغنى.
ولتصبح ملابس الرجال هى الأسطورة التى حكمت مجرى حياة أم كلثوم حتى وفاتها عام 1975، لأنها لم تكن مجرد ملابس، وإنما أكسبتها دون أن تدرى صفات الرجال، مثل الكبرياء والكرامة، وقوة الشخصية والكلمة النافذة وعزم الرجال.
وحتى تملك جلد الرجال راح والدها يضعها فى قلب الأسطورة دون أن يدرى بالطبع، فكانت تمشى معه على قدميها مسافة خمسة أو عشرة كيلو مترات، والأكثر صعوبة من ذلك انتظار القطار على المحطة نحو 12 ساعة تحت الأمطار والبرد الشديد.
وتقول عن ذلك فيما بعد: لقد دعكتنى هذه السنوات وصقلت موهبتى، وجعلتنى أكثر جلدا واحتمالا، وعلمتنى أن الطريق أمام من يريد الوصول.. طويل.. طويل.
سوف يكون للأب الشيخ البلتاجى الدور الأبرز فى نشأة الأسطورة، تقول أم كلثوم: أبى أول من اكتشف موهبتى وبفطرته السليمة تعهد صوتى ورعاه على أسس اكتشفت فيما بعد أنها من أرقى الأسس العلمية لتربية الأصوات فى معاهد الموسيقى!
كان يفرض على كل يوم تمرينا صوتيا على التواشيح والابتهالات القديمة، تدريبات رياضية عنيفة تقوى صدرى ورئتى، والصدر السليم تنفس سليم.. غناء سليم. وبعد التدريب العنيف كان يعطينى بيده كوبا من اللبن الممزوج بالبيض النيئ والسكر النبات!. وهو الذى ساعدنى على حفظ القرآن وتفهم معانيه، لقد كان أول راع لطفولتى الفنية.
كان الشيخ البلتاجى يفعل كل ذلك من أجل أن يكون صوت ابنته جميلا فى الموالد وأفراح القرى دون أن يدرى أنه يصنع الأسطورة التى يبحث عنها الوطن لتنشد أحلامه وأغانيه حبا وشوقا وحنانا هياما لتصبح صوت مصر بعمقه وقوته، ويغدو تاريخ مصر وحضارتها ممزوجا بصوتها يكفى أن تقول «وقف الخلق جميعا ينظرون كيف أبنى قواعد المجد وحدى» ليقف الجميع انتباها لهذه العظمة، عظمة الحضارة وعظمة الصوت المعبر.
كانت اسطورة الطفلة أم كلثوم أكبر مما خطط الأب لكنه لم يكن يعلم، وكان فى حاجة إلى الشيخ أبو العلا محمد ليشير إلى الطريق، كانت أم كلثوم تستمع إلى صوت الشيخ أبو العلا من «جرامفون» العمدة وكانت تظن أنه مات، حتى فوجئت بأبيها يسلم عليه باحترام على محطة قطار السنبلاوين، فألحت أن يأتى لزيارتهم فى القرية وفرحت أم كلثوم وكادت تطير فرحا. من اسطورتها التى ألحت على الرجل فى الزيارة، وجاء ليسمع صوتها ويقول لوالدها: يجب أن تنتقلا إلى القاهرة فهذه الطفلة أكبر من الغناء فى القرى.
وبالفعل يأخذ الشيخ البلتاجى ابنته الأسطورة ويذهب بها إلى القاهرة وتغنى أول حفلة عامة عام 1920 فى سرادق كبير بالسيدة زينب، ولينفتح أمامها الطريق إلى المجد، فتخلع العقال والجلباب وترتدى الفستان، وتغير بطانة المشايخ وتستبدلهم بتخت الآلات الموسيقية رغم اعتراض الوالد. فقد أدركت الأسطورة دورها فى الحياة. وقام الشيخ أبوالعلا محمد بتعليمها أصول الموسيقى الشرقية.
وحتى تكتمل الأسطورة كان لابد من وجود الشاعر أحمد رامى، ذلك الذى يتولى الأسطورة شعريا، فيقرأ عليها الشعر العربى فى عصوره الجاهلية حتى العصر الحديث، وينتقى لها أجمل الدواوين لتقرأها، ثم يناقشانها معا، حتى أصبحت قراءة الشعر هوايتها المفضلة، تقول: أقرأه لأ تثقف، واستمتع، وأقرأه لأختار وأغنى.
ورغم أن الطريق لم يكن سهلا ولا ممهدا لكنها وصلت إلى الذروة بسرعة.
فالبلاد كانت متعطشة إلى الغناء الذى يحرك الوجدان بدلا من غناء الغرائز الذى كان سائدا.
ولذلك افتتحت بصوتها الإذاعة المصرية سنة 1935، وتعاقدت معها على إقامة حفلتين فى الشهر لتتربع الأسطورة على عرش الغناء، وتطرز أحلام الناس بالأمل والرياحين.
لابد أن أسطورة الولد أو الرجل داخل العظيمة أم كلثوم لفتت أنظار الكثيرين لكن لم يجرؤ أحد أن يكتب عن ذلك صراحة غير الكاتب الساخر زكى مبارك الذى كتب عام 1940 يسخر من شخصيتها القوية التى تشبه الرجال قائلا: ما الذى يجبر ثومة على خلع البرقع وهى تحاور الرجال وفيهم من لايتأدب وهو يحاور النساء.
ويجيب بسخرية قاسية: لم يبق من ثومة والفصيلة النسائية أى صلة، فهى اليوم رجل أعمال وهى أبوكلثوم لا أم كلثوم.
ويقول أيضا: إذا كانت أم كلثوم تحب أن تكون «ابن بلد» فقد ظفرت بما تريد.
والحقيقة أن كاتبنا الراحل لم يفطن إلى أن أسطورة الولد التى تحكم حياة أم كلثوم منذ طفولتها هى مفتاح نجاحها وصمودها وصعودها، ربما تكون الفتاة الوحيدة التى بلغت القمة اعتمادا على موهبتها وفقط، دون أنوثتها، وسوف يصف دكتور مصطفى محمود صوتها القوى بأنه يمشى بين الأصوات شامخا، كأنه مسلة فرعونية أو مئذنة عربية، صوت فيه نورانية وأبهة وفخامة، وخفة بنت البلد ومصريتها، صوت كمهر عنيد جموح منطلق.
وأسطورة الولد أو الرجل لابد أن تتماس مع السياسة، ففى المواقف الوطنية سوف تكون أم كلثوم كأى جندى شريف فى المقدمة. عندما وقعت حرب 1948 طلبت من حيدر باشا وزير الحربية أن تذهب وتغنى للجنود على خطوط القتال، ورفض حيدر باشا خوفا على حياتها، فقامت بحملة للمجهود الحربى وجمعت 22 ألف جنيه وتبرعت هى بـ 500 جنيه، كما غنت للمحاصرين فى الفالوجة أغنية «أنا فى انتظارك». وطلبت من مذيع الحفل أن يعلن الأغنية تلبية لرغبة القوات المحاصرة فى الفالوجة.
وعندما حدثت نكسة 67 أصيبت أم كلثوم فى كبريائها وأصابها المرض دون وجود أى أسباب عضوية، واحتار الأطباء وفقدت شهيتها للطعام.
وبعد أن مرت أيام الصدمة، قامت مثل أى جواد أصيل أو رجل قوى واستدعت أسطورتها فأحالت حزنها إلى غضب، وراحت تغنى فى كل مكان، لتوقظ مصر الحزينة من جديد، لم يكن الغناء من أجل جمع مليونى جنيه للمجهود الحربى وفقط لكنها كانت توقظ الهمم وتبث الروح فى الوطن العظيم، ورغم الهزيمة عاد صوتها يغنى ويجلجل فى كبرى العواصم، باريس، وأكبر المسارح مسرح الأوليمبيا، إنه صوت مصر الذى لايسكت ولاينهزم أبدا.
يكتب لها الرئيس الفرنسى ديجول: لقد لمست بصوتك أحاسيس قلبى وقلوب الفرنسيين جميعا.
الصوت الأسطورة الذى كتب عنه العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم وزكى مبارك وكامل الشناوى ويوسف إدريس، وسمى نجيب محفوظ ابنته على اسمها هو الذى يملك السر فى إيقاظ هذا الوطن فى أشد لحظاته قتامة.
واستيقظت مصر على صوت أم كلثوم تغنى والجنود على الجبهة يثأرون للهزيمة حتى جاء النصر العظيم فى أكتوبر 1973.
وكانت أم كلثوم تريد أن تغنى فى ذكرى هذا النصر، وطلبت من صالح جودت أن يكتب لها أغنية لأكتوبر لتغنيها فور عودتها من رحلة العلاج فى لندن، ولكن المرض لم يمهلها فقد رحلت فى فبراير 1975.
أم كلثوم التى أدركت أسطورتها جيدا وعرفت نهايتها، كان آخر مادندنت به «أنا هويت وانتهيت» فقد عرفت يقينا أنها أحبت أسطورتها وماتت فناء فيها، بعد أن أدت رسالتها فى الفن والإبداع، واستيقظ الشعب بهذا الصوت الساحر الجميل ليعيد اكتشاف نفسه وقوته وإبداعه.
رابط دائم: