بعد سنوات حافلة بالتصدي للأزمات منذ أن اقتحمت معترك السياسة قبل 30 عاما، يبدو أن مرحلة ما بعد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بدأت تظهر معالمها. فقد انتهت انتخابات حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي- حزب المستشارة- بانتخاب «أرمين لاشيت» زعيما للحزب، ليمثله في الانتخابات لاختيار المستشار الجديد في سبتمبر المقبل. لكن الأمر ليس بهذه البساطة لأنه على من يتولى الزعامة، سواء الحزب أو المستشارية، أن يواجه تحديات غير مسبوقة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، والتي تواجه أكبر اقتصاد في أوروبا في ظل أزمة كورونا. بالتأكيد، ألمانيا اتخذت الخطوة الأولى نحو عهد سياسي جديد يحل فيه زعيم آخر لأقوى دولة أوروبية.
ولكن هذه ليست أوقاتا طبيعية. فهناك عام «ثقيل» يلوح في الأفق بالنسبة للسياسات الألمانية، فلم تكن ميركل القوة السياسية المهيمنة ووجه الاستقرار في ألمانيا فحسب، بل زعيمة لأوروبا بأكملها. وقادت القارة في العديد من الأزمات. لذا فإن الكثيرين داخل وخارج ألمانيا ينتظرون رحيل ميركل بقدر كبير من الخوف، وعلى خليفتها عبء ملء فراغ غيابها عن صدارة الحياة السياسية. ومع أن عملية الانتقالية داخل الحزب بدت سلسة في بداية الأمر، لكنها تعثرت بعد استقالة رئيسة حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي «أنجريت كرامب- كارنباور»، والتي كانت تحظى بدعم ميركل، في فبراير 2020، وإعلانها عدم الترشح لمنصب المستشارية لعجزها عن مواجهة الضغوط والتحديات الداخلية .
ومما يزيد من تعقيد الرؤية للمستقبل بألمانيا، تصاعد قوة لاعبين جدد كالخضر واليمين المتطرف مما قد يؤدي إلى تغيرات واسعة في المشهد السياسي الألماني الداخلي. ويوجد أيضا توجه داخل حزب ميركل يرى ضرورة تبني هوية محافظة أكثر تشددًا لوضع حد لتراجع الحزب، ويعبر عن هذا التوجه القيادي البارز «فريدريش ميرز» الذي يتعهد باستمالة نصف ناخبي حزب «البديل من أجل ألمانيا».
ومع تصاعد شعبية الخضر واليمين المتطرف، حدث تغير في طبيعة النظام الحزبي في ألمانيا، حيث تحول من نظام قائم على حزبين كبيرين مسيطرين هما الديمقراطي الاشتراكي والمسيحي الديمقراطي إلى نظام قائم على تعددية حزبية من 6 أحزاب، لكن نقطة الضعف في هذه التغييرات هى أن التحالفات المتباينة أيديولوجيًّا كثيرًا ما تؤثر على فعالية الحكم. وبما أن زعيم الحزب سيترشح تلقائيا لمنصب المستشارية بعد انقضاء فترة ميركل، فإن لاشيت قد يصبح المرشح الرئيسي للحزب، لكن لن يكون ذلك بشكل حاسم قبل الاتفاق مع الحزب المسيحي الاجتماعي في ولاية بافاريا برئاسة «ماركوس زودر» وهو الحزب التوأم لحزب ميركل ولا يخالفه في وجهات النظر. لكن هذه المرة يبدو أن قوة زودر قد تغير الحسابات، فهو يتمتع بشعبية كبيرة ويبدو أنه يطمح للترشح للمنصب.
اختيار لاشيت يؤكد أن هناك رغبة أكيدة لدى الحزب في الاستمرار على نهج ميركل السياسي في المرحلة القادمة. باعتبار أنه كان وزيرا للهجرة في حكومتها، فهو يرى مثلها أنه يمكن الاستفادة من المهاجرين رغم معارضة الكثيرين. المشكلة الحقيقية هنا أن أمام ألمانيا العديد من التحديات الداخلية. وأولها جائحة كورونا التي باتت تهدد الاقتصاد الألماني الذي يشهد انخفاضا نسبيا في معدل النمو وتراجع جملة الناتج المحلي الإجمالي وخسائر اقتصادية بنحو 391 مليار يورو. لذا، فإن أهم أولويات المستشار الجديد ستكون الاهتمام ببناء الاقتصاد الألماني بعد الجائحة، والحفاظ على وحدة الصف ونبذ الشعبويين الذين أثبتت الأيام خطورتهم.
رابط دائم: