عن سلسلة بنغوين برس للنشر – نيويورك صدرت الطبعة الثانية من كتاب «المنبع» للشاعرة الأمريكية مارى أوليفر، وهو مجموعة مقالات مرتبة بعناية فائقة، كُتبت خلال ربع قرن، جمعتها وضمنتها فى خمسة أبواب، هى بمثابة مقالات افتتاحية، وأمثلة حية على ارتباكها الوجودى والحياتى معاً، تعلمت فى وقت مبكر أن عوالم الآخرين غير موثوقة ومحفوفة بالمخاطر، والدها المفعم بالحيوية إلى درجة التهور، كان سجين نفسه وعزلته، تقول: «إن سر العالم يكمن فى الحقول أو فى أعماق الكتب» وتسأل قارئها: «هل تعرف أى شيء عن المكان الذى تعيش فيه، غالبيتنا لم نتعلم الرغبة فى الضياع».
....................
تزعم أنها تفضل كتابة الشعر على المقالات، وهى هنا ليست مجرد كاتبة عرضية، بل سيدة النموذج فى هذا النوع من الكتابة، إذ إنها من خلال ظروف المكان الصعب لطفولتها، والعيش فى الغابة، تكتب وتستلهم وتشرح هذا العالم الطبيعى بالشعر.
توضح بدقة المسرحيات الدرامية الخارجية له، كما تطرح بصدق مكشوف تأثيرات رالف والدو إيمرسون ووالت ويتمان عليها، بينما تتحفظ على ذكر إيميلى ديكنسون كواحدة من المؤثرات الأساسية فى كتابتها: «ويتمان كان الأخ الأكبر الذى لا أملك، ظهر أكثر حماسة لفقدان الآخر، وسيشرق فى شفق غرفتى، التى بدأت تتراكم فيها الكتب، ودفاتر الملاحظات، والأحذية الموحلة، والآلة الكاتبة القديمة لجدى» «لديّ ابن عم أحببته، لكنه انتحر فى يوم خريفى ماطر».
فى الأقسام الأربعة الأولى تركز وبشكل منفصل على المخلوقات المائية، وتأثيرها الأدبى والميتافيزيقى، وأهمية التواصل معها، والتعرف على أسلافنا، سياقنا فى الداخل، وكيف يتحمل كلٌّ منا مسئولية احتضان السعى وراء السعادة من خلال شغلنا هذا.
لم يأخذها معظم نقاد الشعر على محمل الجد، لأنها تكتب حول موضوعات قديمة «الطبيعة – الجمال» بالرغم من فوز كتابها «الأمريكى البدائى» بجائزة بوليتزر عام 1984و»مختارات» بجائزة الكتاب الوطنى عام 1992 جزء من مفتاح جاذبيتها هو سهولة الوصول إليها، فهى تكتب بأسلوب محادثة دون أى حيل طباعية، الطبيعة هى نقطة انطلاق للمقدس، والقلب الأثيرى لكتابتها، تكتب فى قصيدة لها:
»لا أعرف حرفياً ماهى الصلاة
أعرف كيف أنتبه
وكيف أسقط راكعة على العشب
كيف أكون خاملة ومباركة
وكيف أتجول فى الحقول
وهو ماكنت أفعله طوال اليوم»
تقف بشكل مريح على هوامش الأشياء، والخطوط الفاصلة بين الأرض والسماء، على الغشاء الرقيق الذى يفصل الإنسان عن الطبيعة، وكذلك حدود الوعى واللغة، ونمذجة نوع من الهوية والرؤى الصوفية والبدائية.
»البقاء على قيد الحياة» هذا المقال الذى لا يُمحى من القسم الأول يُثبت اهتمامها القديم بهذه المواضيع وانفتاحها الخاص، والألفة التى تعد الأساس المنطقى للكتاب، ومصدر جماله الأثيرى والخيالى، تقول: «الكبار يستطيعون تغيير ظروف حياتهم، أما الأطفال فلا»، «تعلمتُ أن أصنع رفوفاً للكتب، ثم أٌحضر بعضاً منها إلى غرفتى، وأكومها حولى، أقرأ فى النهار والليل، فكرتُ فى الكمال والروح والصفات والسحب والثعالب، أغلق باب بيتى من الداخل ثم أتسلل من السقف وأذهب إلى الغابة، لم أفكر باللغة كوسيلة لوصف الذات، بل الباب الذى أفتحه لتجاوز نفسى»، وكتلميذة نجيبة لكيتس وويتمان وشيلى، تنخرط فى تشكيل نوع من التوازن المتهور بين البراجماتية والرومانسية.
فى الأقسام التالية للكتاب ترسم مارى أوليفر منظرها الطبيعى، وتعرفنا على بعض الحياة البرية التى واجهتها، إلى اختبارات بعض التأثيرات الرومانسية والقوطية الرئيسية لعائلتها الأدبية، هنا تطير كل الحياة وتجرى وتسبح، ونحتفل معها بانتصارات ومتعة هذه الصداقات الصغيرة مع الطيور والسلاحف. تخترع ألعاباً لذلك أيضاً وهى تشكل صوراً للأسماك، والديدان، والعناكب، تدعونا إلى حضور العالم، وتشجعنا على الانخراط فيه، والجلوس إلى أنفسنا أيضاً، تدرك هى كمّ الفوضى التى ندور فيها، إننا مخلوقات معرضة للظروف ومخاطر وطوارئ العيش، مثلنا مثل كائنات الحياة البحرية المشئومة.
تسجل كل هذه المصائر، ومثل عمل فيلسوف عظيم، تحمل كل شيء فى قلبها، ومن دون ضجيج أو ضوضاء، أيقونات عنيدة تتحدث عن تقرير المصير، وتناصر الحكمة المحلية للترابط بين الأشياء والعوالم، إنها صوت ضرورى وخالد، ويدل ّ إرثها هذا على كرم استثنائى وقدرة لغوية لا مثيل لها فى تمثل البساطة التى ستنقذنا فى النهاية.
تحب أن تقدم نفسها على أنها شاعرة قديمة الطراز، تمشى فى الغابة معظم الأيام برفقة كلب ومفكرة، وقد ولدت عام 1935 فى مقابل هيلز هايتس، إحدى ضواحى كليفلاند بأوهايو، وعاشت فى بروفنس تاون، ما ساتشوستش، وهوب ساوند فى فلوريدا حتى وفاتها عام 2019 وهى فى الثالثة والثمانين.
رابط دائم: