-
وصف نفسه بخادم اللغة العربية واخترع الأسلوب العلمى فى الكتابة القصصية
فى السابع من يناير سنة 1905 ولد أديبنا يحيى حقى بحارة «الميضة» بجوار مقام السيدة زينب، وكانت أمه شديدة التدين وكان والده مغرما بالشعر العربى، ولأخيه الأكبر إبراهيم مكتبة تضم كتبا عربية وانجليزية، ولعمه محمود طاهر حقى مكانة أدبية كبيرة وكان صديقا لأحمد شوقى، تخرج حقى فى مدرسة الحقوق سنة 1925 وعمل وكيلا للنائب العام فى الصعيد ثم بالخارجية أمينا للمحفوظات وسفيرا لمصر بليبيا ثم مديرا لمصلحة الفنون ثم مستشارا لوزير الثقافة ثروت عكاشة ورأس تحرير مجلة «المجلة» لسنوات قاربت على العشر، قدم خلالها كثيرا من شباب الشعراء والقصاصين الذين أصبحوا فيما
بعد من أعلام الكتابة، وأتحف «حقى» المكتبة العربية بمؤلفات كثيرة فى القصة والرواية والنقد والتاريخ والفنون حيث يعتبر أحد رواد القصة القصيرة قبل جيل يوسف إدريس، وحصل صاحب «القنديل» على جائزة الدولة التقديرية سنة 1967 ثم وسام فارس من فرنسا فى الثمانينيات ثم جائزة فيصل سنة 1989 ورحل 9 ديسمبر سنة 1992 مخلفا وراءه مؤلفات عديدة وصداقات كثيرة وتلاميذ لا حصر لهم ولم يترك عداوة واحدة، لأن قلبه الطيب تسامح مع الجميع، وقد ورثت ابنته الوحيدة نهى مكتبته ومتعلقاته والأهم من ذلك ورثت سيرة عطرة لأديب ومفكر كبير ومتواضع، فإلى التفاصيل.
سألت نهى حقى الإبنة الوحيدة لكاتبنا الكبير: هل حقا ظلمت «قنديل أم هاشم»، الرواية القصيرة لأديبنا يحيى حقى، تاريخه الفكرى والأدبى الشامل والكبير؟
تقول نهى حقى: نعم وكان غاضبا جدا من وصفه دائما بأنه صاحب رواية «قنديل أم هاشم» وكأنه لم يكتب غيرها، ورغم ذلك كان معتزا بها أيما اعتزاز وكان يقول إنها خرجت كطلقة من قلبه بصدق فاستقرت فى قلوب الناس،مع العلم أن تاريخه مع الكتابة فى شتى فروع الفن والأدب متميزة جدا وكقارئة له ولست مجرد ابنته فإننى أشهد بأن مجموعاته القصصية أبدع ما يكون الإبداع فقصصه القصيرة عبارة عن لوحات تصف عمق الإنسان بعواطف ومشاعر دقيقة جدا ولوحات فنية وصفية راقية ولهذا وصفه النقاد بأنه واحد من رواد القصة القصيرة فى مصر والعالم العربى وهو صاحب كتاب «فجر القصة المصرية».
أيضا ظلمته «قنديل أم هاشم» لأن بعض القراء لم يعرفوه إلا بها ولم يلتفتوا لمقالاته الفنية الرائعة، حيث إن له مساهمات فى كثير من الفنون ببصيرة نافذة وعيون صائبة وبألوان طيف متعددة، ومن أبدع ما يمكن ما كتبه فى كتابه «صفحات من تاريخ مصر»، حيث قدم قصصا حقيقية ومعايشة واقعية لقصص من تاريخ مصر القديم والمعاصر وكذلك شوارع مصر وحاراتها القديمة فى كل حقبة تاريخية وهو من أجمل كتبه. كذلك كتابه الرائع «تعالى معى إلى الكونسير» يأخذ بيد القارئ بسهولة ويسر ليفهم الموسيقى ويتذوقها ويعايشها بطيبة ورقة مشاعر ورغم أنه كتاب صغير الحجم فإنه كبير القيمة وعبارة عن جامعة كاملة تسمو بالمشاعر. وكذلك لم يكتب أحد مثل كتابه «فى محراب الفن» حيث قدم فيه رؤى جمالية وقال إن الفن غذاؤه فى أربع أقسام هى «الفن التشكيلى والرسم والموسيقى وفن العمارة»، إنه رجل جاب بلادا كثيرة من فرنسا لإيطاليا وتركيا وغاص فى أعماق مصر من أقصى الصعيد لبحرى لحوارى القاهرة وجاءت كتاباته عبارة عن كنوز ثرية رغم صغر حجم كتبه.
تقولين إنه جاب مصر وغاص فى أعماقها وحوارى القاهرة، وهذا حق رغم أن جذوره تركية أليس كذلك؟
لم يحب هذا الوصف إطلاقا، ما معنى أنه جذوره تركية؟!.. لقد ولد فى مصر وهو عاش ابن بلد حقيقى وكانت من أحب الأكلات لديه «لحمة الراس والكوارع» فى «المسمط الشعبى» بالسيدة زينب أو بسيدنا الحسين، وكان مزاجه الفنى والموسيقى والأدبى مصرى صميم رغم أنه «تدحرج» فى ألوان الذوق الرفيع والقراءة الجميلة وصحب أحمد باشا شوقى مع عمه محمود طاهر حقى. ورغم أن والدته تركية الجذور فإنها علمته حب العربية واحترام المرأة لدرجة أنه كان يقول: «انسان بلا تجربة حب إنسان بلا حياة»، كما أن رحيل أمى «نبيلة سعودى» زوجته الأولى سبب له صدمة، كان كالمتصوف فى عشقه لمصر فكيف نقول عنه إن جذوره تركية وهو الذى حصل على جائزة الدولة التقديرية سنة 1967 فى ذروة المد القومى العربى فى عصر عبدالناصر وعمل مديرا لمصلحة الفنون من سنة 1955 حتى سنة 1958 ثم مستشارا بدار الكتب ثم رأس تحرير مجلة «المجلة» من سنة 1962 حتى سنة 1970 حيث توقفت عن الصدور، وفى السلك الدبلوماسى وصل لدرجة وزير مفوض!.
أسلوبه العلمى
امتاز يحيى حقى بالأسلوب الأدبى وكان يعتز بأنه عاشق للغة العربية وأنه صحب العلامة محمود شاكر وتعلم منه رغم حبه لكل ما هو شعبى، فما تفسيرك لهذا الجمع الفريد بين أرستقراطية اللغة والذوق الشعبي؟
يحيى حقى كانت له مدرسة علمية أطلق عليها هو بنفسه الأسلوب العلمى فى كتابة الرواية والقصة القصيرة بمعنى أن القارئ لو حاول أن يحذف كلمة أو يستبدلها لاختل المعنى كله، فمثلا فى وصف بطلة من بطلاته فى قصة له يقول: «ورجعت إلى المطبخ تأكل وتبلع»، وكلمة «تبلع» فيها كل رمزية القصة ومعناها حيث كانت له القدرة على نسج الكلمة فى موضعها بدقة وعبقرية، والدليل على ذلك أنه ورغم أن بعض كتاباته ترجع لأربعينيات القرن العشرين فإنها معاصرة لنا اليوم وتخاطب قضايانا وكأنها كتبت اليوم لأن طبائع البشر واحدة ولا تتغير وإن تلوثت مع الزمن، وهو كاتب كان همه الأول الإنسان ولذلك جاءت كتاباته وكأنها كتبت اليوم ولجيل اليوم.
مقتنياته
أين مقتنياته ولماذا لم تفكرى فى إهدائها مثلا لوزارة الثقافة أو توضع فى عرض متحفى على غرار ما جرى مع نجيب محفوظ؟
كان الأستاذ محمد سلماوى قد تواصل معى من فترة طويلة وأخذ منى عصى يحيى حقى والبيريه وتمثالا كانت صنعته الفنانة الدكتورة عايدة عبدالكريم ولوحة بورتريه وغيرها، وأخبرنى إنهم سوف يخصصون له متحفا بالقلعة، ولليوم لم أر شيئا ولم أعرف مصير تلك المقتنيات وأين ذهبت!.. وعموما أنا جاهزة أسلم جميع مقتنياته من عصى وكتب وأوراق وبدل ونظارة وغيرها لوزارة الثقافة أو مكتبة الاسكندرية أو أى مكان لعرضها متحفيا على الجمهور، كما جرى مع نجيب محفوظ.
هل من جديد آخر؟
نعم، قامت مدارس الجزويت بتخصيص جائزة سنوية باسم يحيى حقى فى الرواية وخصصت لها مبالغ قيمة وسوف يعلن عنها فى أبريل المقبل.
برأيك هل قريء يحيى حقى كاملا أم أن القراء والنقاد اختصروه فى روايته القصيرة « قنديل أم هاشم »؟
للأسف لم يقرأ كما ينبغى وتم اختصاره فى أنه «صاحب القنديل» لأنه قدم غيرها من الروايات مثل «صح النوم وخليها على الله» وقدم من المجموعات القصصية «دماء وطين وأم العواجز وعنتر وجولييت» وقدم الدراسات النقدية مثل «خطوات فى النقد وفكرة فى ابتسامة ودمعة فابتسامة وحقيبة فى يد مسافر و عطر الأحباب وناس فس الظل وياليل يا عين وأنشودة البساطة» وترجم كتاب «القاهرة» لديزموند ستيوارت كما ترجم مسرحيات «دكتور كنوك» لجول ودمان و«الطائر الأزرق» لموريس مترلنك وترجم روايات الأب العليل والبلطة لميخائيل سارونيا ولاعب الشطرنج «لستيفان زفايج وطونيو كرو لتوماس مان» وغير ذلك الكثيرمثل كتابه «هموم ثقافية» فمن يعرف كل ذلك؟ فقط اختصروا تاريخه فى أنه صاحب «قنديل أم هاشم»!.
أخيرا كيف تصورين لنا يحيى حقى الأب والزوج؟
هو رجل طيب مسالم ذو جبهة بيضاء عريضة وفكر عميق ومتأمل كبير واسع الإدراك ومستنير ومتعدد الأبعاد ونظراته حانية وفيها صفاء ونقاء ومليء بالتجليات الروحانية والصوفية وإلا ما كتب «من فيض الكريم» و«خلايها على الله» و«عطر الأحباب» و«عابر سبيل» و« أنشودة البساطة» إنه رجل عاشق للعربية عشقه للعامية حيث استخدم كلمة مثل «يا إدلعدى» فى كتاباته، كما عشق الفن الكلاسيكى والفن الشعبى فى آن واحد، حيث قدم « تعالى معى إلى الكونسير» كما قدم «يا ليل يا عين» و«فن العرائس» وأدخل الفنانين الشعبيين للأوبرا ومسارح الدولة، لقد عشت معه كصديقة وابنة وحيدة وسط رحابة فكره وحبه العميق الحنون فى أمان وحب ومثل هذا الرجل لا يمكن إلا أن يفارقنا بجسده فقط.
رابط دائم: